صفحات الحوار

حوار مع الفنان التشكيلي السوري تمام عزام ما الذي تفعله الموناليزا في جورة الشياح؟!

حاورته في باريس جمانة الياسري

استضافت غاليري “سان جيرمان” في جامعة “ديكارت” في باريس، معرضاً بعنوان: “سوريا، الفن الثائر”

Syrie)، (LArt en révolution، وذلك من العاشر حتى الثامن عشر من أيار المنصرم. ضمَّ المعرض أعمالاً لفنانين سوريين مقيمين في فرنسا: منيف عجاج، وليد المصري، أحمد علي، ولاء دكاك، ومحمد عمران، إضافة إلى الفنان تمام عزام المقيم حالياً في دبي.

عزام من مواليد ، أمضى طفولته وشبابه في قرية (تعارة) في محافظة السويداء، قبل الانتقال إلى دمشق للالتحاق بكلية الفنون الجميلة. منذ بداياته، لفت تمام عزام انتباه الوسط الفني المحلي والإقليمي عبر أعمال غاية في الخصوصية من وحي حجارة السويداء البركانية. أعمال تمام عزام متقشفة ومجردة، تأسرك بخطوطها، وتذكر بلوحات الفنان الأميركي جاكسون بولوك.

منذ اندلاع الثورة السورية في آذار ، وتمام عزام ينشر على صفحته الشخصية على فيسبوك أعمالاً “تفكر” في مأساة اللحظة، من دون الوقوع في العاطفية والنوستالجيا. أجبرته الظروف على المغادرة، ومع الرحيل حدث تحول في أعماله عبر الانتقال من الرسم الزيتي إلى الفنون الرقمية. لم يكن هذا التحوّل بسبب مغادرته لمرسمه في دمشق وحسب، وإنما لأن الحامل التقني المُتاح والذي يسمح له بالتواصل مع أبناء بلده والآخرين في كافة أنحاء العالم، فرض عليه التفكير في وسائط مختلفة قادرة على حمل المعنى، ومشاركته على نطاق واسع، للمساهمة في إيصال صوت من لا صوت لهم.

أطلق مشروع “أماكن الثورة السورية”، قبل البدء بمجموعة تحمل عنوان “المتحف السوري”، وضمن هذه المجموعة أنتج عملاً بعنوان “غرافيتي الحرية” وضع فيه “قبلة” الفنان النمساوي غوستاف كليمت، على أحد جدران سوريا التي هدها بطش النظام. لف هذا العمل أنحاء العالم وكان في إحدى الفترات الصورة الأكثر تداولاً على تويتر.

زيارة تمام عزام إلى العاصمة الفرنسية، كانت فرصة للقائه وللحديث عن الفن وكتابة التاريخ، عن ذات الفنان وعن الآخر في ظل الثورة السورية.

[ تمام عزام، أنت ابن الروائي السوري ممدوح عزام (قصر المطر، معراج الموت…). أود أن أبدأ بسؤالك عن العلاقة بين الأدب والفن؟

ـ أعتقد أن العلاقة بين الفنون، يجب ألا تكون علاقة متعدية. ولا تملي علي قراءة الفن الغربي أو عدمه، شكل ممارستي للفن. هما شيئان مستقلان عن بعضهما البعض، حتى ان الرسم كفعل أقدم من فعل الكتابة كأدب، وإلاّ لما اعتبرنا فن الكهوف فناً. في فن الكهوف تأثير وتعبيرية يشبهان ما نراه في أي عمل اليوم. لم يستند إنسان الكهوف إلاّ على تفكيره الشخصي، الذي استمده من محيطه المعيشي، فهو بالتأكيد لم يكن قارئاً ولم يتأثر بأي فن آخر، إذ لم تكن تلك الفنون موجودة أساساً. ومع ذلك استطاع ابتكار فن من مستوى فن اليوم. أي أن الفن لم يتغير، التقنية وحدها هي التي تغيرت.

[ أجل. إلاّ أن الخطاب النقدي اليوم، يؤكد على تأثر الأدب والفن المعاصر ببعضهما البعض…

ـ هذا يعيدنا إلى الدائرة نفسها. الأدب هو من إنتاج شخص، بناء على مخزون حياتي وموهبة ما لإنتاج الأدب، وإلا لأنتج كل من يشاركه الثقافة نفسها أدباً بالضرورة. إنه فعل شخصي، وليس علاقة حتمية. لا أبني عملاً لأني استمعت إلى قطعة موسيقية ما، فأنا لا أؤمن بذلك. كما أعتبر أن في العروض التي تجمع موسيقياً وفناناً تشكيلياً، كلاهما يكذبان. هذا بالتأكيد رأيي الشخصي، ولكني لا أقتنع أن حركة الريشة في لحظة ما تأثرت حقيقة بالصوت، إنها نتيجة إرادة الفنان وحده. الفنان عندما يبدأ ببناء عمل، يعرف تماماً إلى أين يريد أن يأخذه، أي أنه لم يفقد وعيه ليتبع الموسيقى وحدها، وذلك ينطبق أيضاً على العازف، فالموسيقى التي ينتجها هي من وحي موهبته وحدها. الفنون ذات القيمة الحقيقية، مستقلة حتماً عن بعضها البعض.

[ كلامك مثير للاهتمام لأنه يناقض “الموضة” الدارجة في مختلف المهرجانات الفنية والفعاليات الثقافية، حيث نرى المدراء الفنيين وأصحاب صالات العرض لا يكفون عن دعوة فنانين من مجالات مختلفة على العمل سوية لإنتاج أعمال متعددة الوسائط… هناك إلحاح واضح في الساحة الفنية اليوم، على إنتاج فنون متداخلة ببعضها البعض، حتى وكأن ذلك قد أصبح أحد شروط المُعاصرة .

ـ صحيح. قد يكون ذلك مرتبطاً بطموحي الشخصي، والذي يجب أن يعبر عن مشروع واضح ومستقل.

[ أنت لا تمارس الكتابة نهائياً؟

ـ بدأت بممارسة الكتابة على فيسبوك. أعتقد أن هذا الموقع مخصص للكتابة بشكل أساسي، وإحدى إنجازات الثورات العربية كان في تحويله إلى مكان لعرض الأعمال البصرية. فيسبوك يسألك: بماذا تفكر؟ أي، أنه يدعوك إلى الكتابة.

[ إلا أن فيسبوك يدعوك أيضاً إلى وضع صورة…

ـ صحيح. إلا أنه يقول لك: ضع صورة، ولا يقول: ضع عملاً فنياً أو لوحة.

[ ولكنه أعطاك الأداة، التقنية التي تسمح لك بوضع الصورة…

ـ هو لم يعطِك الأداة، هذا من فعل الثورة. الثورات العربية طوّرت صفة فيسبوك الاجتماعية، إذ أصبح بإمكانك أن تحمِّل على الموقع موقفاً سياسياً، وذلك لم يكن موجوداً بالتأكيد في بال من قام بوضع التقنية. من صنع فيسبوك، قدَّم أداة تواصل اجتماعي، لمشاركة فكرة ما، أي للكتابة. وإن وضعت صورة، فذلك يعود أيضاً إلى مشاركة فكرة.

[ لنتحدث إذاً عن الصور التي تضعها على فيسبوك. هناك صفحة (أماكن الثورة السورية)، ومجموعة (المتحف السوري). كما كانت لديك صفحة بعنوان (بطاقات بريدية من سوريا)، إلاّ أنها لم تعد موجودة. لماذا أغلقت هذه الصفحة؟ ما هي حكاية هذه المجموعات الثلاث؟

ـ أول صفحة أسستها، كانت تلك المخصصة للبطاقات. كنت أضع فيها صوراً مما يجري على الأرض… إلا أني بعد فترة، لم أعد مقتنعاً، كما هو الحال بالنسبة إلى المعرض المقام اليوم في باريس. ما هو معنى أن يزوره جميع السوريين المقيمين في باريس؟ المهم أن يأتي الفرنسيون لزيارته. جميعنا بات يعرف أن النظام يمارس القتل بهذه الطريقة. ما الذي أقدمه إن اكتفيت بوضع صورة لشيء نعرف أنه موجود حقيقة ويُمارس يومياً؟ هذه كانت الغاية من صفحة البطاقات البريدية، لذلك تراجعت عنها بعد فترة لأني شعرت بأن الناس أصبحوا ميالين إلى أن يرفعوا عن أنفسهم عبء رؤية الواقع كما هو عليه. أما صفحة “أماكن الثورة السورية”، فهي شديدة الاختلاف عن عملي كفنان، حتى اني أشعر بعدم امتلاك هذا المشروع. أنشأت هذه الصفحة كردة فعل على منطق التقديس، سواء كان شهيدً أم معتقلاً أم ثائراً. أنا ضد هذا المنطق، إذ لا يوجد شهيد واحد ولا معتقل واحد ولا ثائر واحد. فلمَ ينبغي علينا تفضيل واحد على الآخر؟ من هنا، بدأت أفكر كيف يمكنني بناء مشروع يكون عاماً وللجميع.هكذا أتت فكرة الأماكن، والتي هي بالتأكيد تشير إلى الناس الذين يقيمون فيها. عندما أقول “بصر الحرير”، من المؤكد أن المكان الجغرافي ليس هو المقصود، بل الناس الذي يعيشون فيه. ما هو تاريخهم؟ من أين أتت تسمية المكان؟ لا أستعيد ما فعله النظام بالمكان، لأن عنوان الصفحة واضح: “أماكن الثورة السورية”. وبما أن الموضوع يتعلق بالثورة، فذلك يعني أن جميعنا يعرف ما فعله النظام بالمكان. ليس خطاباً سياسياً، كل ما أريد قوله هو ان جميع أهالي “بصر الحرير”، على سبيل المثال، أبطال.

[ إلا أن “اللاسياسي” الذي تتحدث عنه، هو جداً “سياسي”…

ـ أجل، هذه طريقة للتعبير. لا داعي لتكرار الخطاب في كل مرة، بل ينبغي عدم الإفصاح عنه أساساً.

[ علاقتك مع الصور مهمة جداً، إذ تأخذ صوراً من الأخبار، ومما يتم تناقله على فيسبوك، كما أنك تأخذ صوراً لأعمال كبار الفنانين العالميين كبيكاسو وغويا وليونارد دافينشي وغوستاف كليمت… وكأنك تعمل على مستويين للمُتخيَّل: المُتخيَّل المحلي المرتبط بالحدث الراهن، وآخر غربي أصبح عالمياً وللجميع. ثم تتدخل كفنان في هذه الصور. كيف تقوم بانتقاء هذه المرجعيات المختلفة وإنشاء العلاقة بين المحلي والعالمي؟

ـ في البداية، عندما بدأت العمل على موضوع الثورة السورية، كان عملي الأول هو صورة خارطة سوريا التي تنزف، وقد أخدت الشكل من إحدى لوحاتي السابقة. كان يتحتم علي أن أحدد موقفي. لا مجال اليوم للمناطق الرمادية، ولا للصمت. حتى اني لا أتقبَّل النقاش في هذا الموضوع على الإطلاق. أنت مع، أو ضد. يكفي أن يضع أحدهم “لايك” على شيء ينشره الفنان سميح شقير، ليفهم الجميع وضوح موقفه. بالتالي، بدت الأمور محسومة بالنسبة إلي منذ البداية. الأعمال الأولى التي خصصتها للموضوع، كانت شديدة المحلية، تخاطب الناس المحيطين بي، الدائرة الأضيق التي تخصني كفرد في هذا المجتمع، لأقول لهم إني في هذا المكان تحديداً. أي أن العمل الفني الأول الذي نشرته على فيسبوك، كان يهدف إلى توضيح موقفي لمحيطي، من دون اللجوء إلى الكلام، وأعتقد أن ذلك كان واضحاً للجميع. ولكن، بعد فترة من الوقت، شعرت بأنه ينبغي علي أن أرفع مستوى الخطاب بعدما تجاوزنا البديهيات، بالتالي أصبح من الضروري توسيع دائرة التلقي. عندها، بدأت أبحث في الموضوع، وأقرأ عن الفن الرقمي، إذ أخذت قراراً نهائياً بتأجيل الرسم والتركيز على هذا النوع من الفن، في الوقت الحالي، كونه يتناسب مع أداة التواصل المرافقة للثورة. فبدأت آخذ من الصور المتداولة على فيسبوك، كما أن هناك مجموعة من الشبان الذين يبعثون لي صوراً من سوريا من دون أن أعرفهم شخصياً، وقد نمت بيننا صداقة وثيقة وحقيقية. وهكذا، صرت أعمل على إيقاع الحدث، أي بناءً على ما يجري على أرض الواقع بتواريخ محددة، بما يشبه تحديث الحالة على فيسبوك. الحقيقة، أنا لا أعتقد أن جميعها أعمال فنية، فالكثير مما أنشره على صفحة “أماكن الثورة السورية” يشبه الملصق الإعلاني، وبعضها أعرف أنه سيبقى كعمل فني أكثر من غيره، كما هو الحال بالنسبة للعمل المخصص لمخيم الزعتري.

في واقع الأمر، معظم الأعمال المرافقة للثورات العربية هي أشبه بالملصق الإعلاني. عندما انتبهت إلى هذه الحقيقة، قررت العودة إلى الفن، وكان العمل الأول هو لوحة (الربيع السوري)، وهي لوحة الفراشة. من ناحية أخرى، يلفت انتباهي كيف أن المؤيد للنظام يعرف تماماً طبيعة الخطاب الكامن خلف العمل، وإن لم يرافقه تصريح واضح. إن كانت خارطة سوريا التي تنزف أو الفراشة، كلتاهما شكل جمالي ما، من دون خطاب سياسي واضح، تعبِّران عن المأساة السورية عموماً. إلا أن المؤيد لا يمكن أن ينشرهما على الإطلاق.

[ما هو السبب برأيك؟

ـ المؤيد يعرف من أنا وما أريد أن أقول، هو ذكي جداً بمعرفة خلفية أي خطاب متداول الآن. خارطة سوريا نفسها، لو كُتب إلى جانبها: “سوريا الأسد”، لانتشرت بكثافة في الأوساط المؤيدة. بالتالي، العمل الفني حيادي وغير حيادي في الوقت نفسه. أنا قلت: “سوريا تنزف”، لم أقل: “سوريا الأسد تنزف”. كلمة واحدة كفيلة إذاً بتحديد المتلقي، أما العمل نفسه، فلم يتغير. وحده التعليق على العمل، عنوانه، هو الذي تغير.

[هذا يعيدنا إلى العلاقة بين الصورة والكتابة…

ـ لذلك قلت لكِ: الفيسبوك هو مساحة كتابة بالدرجة الأولى. صورة طفل عادية، يكفي أن يضع عليها أحدهم تعليقاً مميزاً، حتى يتداولها العشرات بسبب التعليق وليس لأنها صورة أكثر تميزاً عن غيرها. أي أن النص هو الأساس في هذه الحالة. وهذا سبب انتشار صور “كفر نبل”. ليست الصورة بعينها التي تدفع المئات لنشرها، وإنما نص الشعار الذي يرفعه من هم في الصورة. لو تمّ تحويل شعارات “كفر نبل” إلى صفحة على فيسبوك، لن تنتشر بالقدر نفسه. ما ينتشر هو صورة النص، وهذه العلاقة هي المهمة.

[ لنعد إذاً إلى كيفية اختيارك للصور التي تدخل إلى (المتحف السوري)؟ وكيف نشأت فكرة المتحف أساساً؟

ـ كما سبق أن ذكرت، كنت في البداية أنجز أعمالاً شديدة المحلية، في الوقت نفسه الذي بدأت فيه بجمع العديد من صور الأعمال العالمية التي تلفت انتباهي. في يوم ما، كنت أنظر إلى إحدى صور منطقة “جورة الشياح” في حمص بعد تعرضها لقصف عنيف، فشعرت بأن هذه الصورة بحاجة إلى وجود شاهد من الداخل ينظر إلى ما جرى. وفجأة رأيت الموناليزا أمامي، وهي لوحة تحمل أساساً حالة الشاهد الذي ينظر إليك. منذ قرون عديدة، ولوحة الموناليزا تشغل البشرية بالقدر نفسه، وكأن التفكير في لوحة الموناليزا بات أكثر أهمية من اللوحة نفسها. وهذه الفكرة تلِّح على البشرية بعناد شديد على الرغم من تغيُّر الأزمنة، كما هو الحال بالنسبة إلى فكرة الأديان على سبيل المثال. هكذا إذاً، تشكَّلت اللوحة الأولى في مجموعة “المتحف السوري”، وعرفت أنها بداية لمشروع سيشغلني لفترة طويلة.

[لمَ أطلقت عليها تسمية المتحف؟ وهل أتت التسمية من البداية؟

ـ نعم، من اللوحة الأولى قررت أن أطلق على هذه المجموعة تسمية “المتحف السوري”، لأن سوريا اليوم تتحوّل إلى متحف.

[ تقصد أن وضع الموناليزا أو لوحة غوستاف كليمت أو غيرها، على خلفية الدمار الذي يحدث في سوريا اليوم، يغيّر معنى العمل الأصلي؟

ـ العمل الأصلي لا أهمية له بالمقارنة مع ما يحدث في سوريا اليوم، لذلك سوريا هي المتحف وهي أكثر أهمية من هذا العمل.

ما قصدته، هو أن هذا الدمار يستحق المشاهدة، بالقدر نفسه الذي يجعلنا نرغب بالنظر إلى لوحات موجودة في متحف واستحوذت على تفكيرنا. سوريا اليوم دخلت التاريخ، وأصبحت متحفاً لما تصنعه آلة دمار. يجب أن تبقى هذه الأثار كما لو كانت في متحف، لكي يتذكر العالم بعد آلاف السنين ما يحدث اليوم من خراب في جميع أنحاء سوريا.

[ في هذه الحالة، تراكم خطابين: خطاب المكان المدمَّر، وخطاب اللوحة التي يستضيفها المكان…

ـ عندما عملت على لوحة الموناليزا، اطلعت على عشرات التجارب التي تستعيد هذا العمل، تأملتها جميعها. كما كنت حريصاً على عدم الوقوع في المحاكاة التهكمية، وألاَّ تبدو النتيجة النهائية خالية من القيمة الفنية. العمل الذي تلاه، كان ذلك الذي يستعيد لوحة غويا “الثامن من مايو”، وقد قرأت عنه الكثير وعن تاريخ المرحلة قبل أن أقرر استخدامه. عندما وقعت أحداث داريا في سوريا، بدا لي بديهياً استعادة اللحظة التي خلدتها لوحة غويا، وهي إعدام حوالى ثمانين شخصاً ميدانياً. وقد تطلَّب مني هذا العمل جهداً كبيراً، لكي أجعل شخوص غويا تندمج تماماً والمشهد السوري.

[و”قبلة” كليمت؟

ـ دار في إحدى المرات نقاش بيني وبين أحد الأصدقاء. كان يجري تحقيقاً حول فن الغرافيتي في سوريا. لا أظن أنه يمكن الحديث اليوم عن فن غرافيتي في سوريا، وإنما فقط عن فن شارع، إذ ان الغرافيتي هو فن تحدي الأنظمة القائمة، ووحدها كتابات أطفال درعا ممكن أن تندرج تحت هذا الإطار، كونها تسببت باندلاع ثورة. على إثر هذا النقاش، بدأت أبحث حول تاريخ هذا الفن، قرأت العديد من الأبحاث وشاهدت الكثير من الصور والأفلام حول الموضوع، لتلمّس الفرق الحقيقي بين فن الشارع والغرافيتي كفعل عناد وتحدٍ. وفجأة، أخذت صورة كان قد بعثها لي أحد الشبان من الداخل، ووضعت عليها لوحة كليمت بعدما فكرت مطولاً بنوع الغرافيتي الذي من الممكن أن يقوم به المرء في سوريا اليوم. عملت على تحقيق إيهام بكون هذه اللوحة مرسومة على أحد جدران سوريا حقيقة، وأطلقت على العمل تسمية “غرافيتي الحرية” ضمن مجموعة “المتحف السوري”. ولكني لم أتوقع أن يثير العمل هذا القدر من الضجة، وسررت حقيقة عندما وجدته على صفحة المفكر عزمي بشارة، ثم سارعت بنشره “ساتشي غاليري”، وهكذا… عرفت عندها أن شيئاً ما قد تغيَّر، وأني بدأت بتحقيق ما كنت أسعى إليه، مع إني كنت أفضِّل لو أن لوحة غويا هي التي أثارت هذا الاهتمام، إذ رافقها نص يوضِّح تصوري عن المشروع والهدف منه. ما يحدث في سوريا اليوم، يحدث كل يوم ومنذ ما يزيد عن عامين.

[ ما تقوله يجعلني أفكر بمعنى المُعاصِر، وهو السؤال الذي يشغل اليوم الأوساط النقدية والجامعية وأهم المفكرين والفلاسفة. الكل يبحث عن تعريف لهذه الكلمة، حتى ان المُعاصِر بات اتجاهاً فنياً بحد ذاته، وكأنك تتحدث عن السريالية أو الانطباعية… ما هو تعريفك للمُعاصِر؟

ـ المعاصر هو الشيء الذي يعيش، وهذا ما قصدته بالحديث عن رسوم الكهوف. من الممكن أن نضعها اليوم في منازلنا، ولن تبدو غريبة على الإطلاق. هذه مُعاصَرة. حتى ما يسمى اليوم بفن التركيب – installation – من قال انها لم تكن موجودة من قبل؟ عمود إغريقي وُضِعت عليه مجموعة من التيجان، ما الذي يمنعنا من اعتباره يندرج تحت فن التركيب؟ التسميات وحدها التي تتغير. التاريخ متصل، الطريقة التي يفكر بها الإنسان متصلة، الأشياء لا تظهر بشكل مفاجئ. من الممكن أن نجد في منزل ريفي بسيط، ترتيبا ما لقطع النباتات وأغراض تهدف للتزيين، يوحي بشيء فني ما، وإن كان عن غير قصد وبسيط. الفرق يكمن هنا بين الفطرة والتقنية الفنية.

[ما رأيك بما ينجزه الشباب غير الفنانين في ظل الثورات العربية، من رسوم وموسيقى وأفلام وكاريكاتير وكتابات، وما إلى ذلك من أشكال تعبير فنية موقَّعة أو غير موقَّعة؟ بمعنى، لجوء الشباب العربي إلى التعبير الفني ضمن الحراك الشعبي، على الرغم من كونهم لم يمارسوا الفن من قبل أو ليس في نيتهم احترافه أصلاً.

ـ أعتقد أنها جيدة جداً ومشروعة تماماً، الملصقات على وجه التحديد، والتي تندرج تحت إطار فنون الاتصال البصري. وهذا فن بالطبع.

[هل أثَّر ظهور هذا النتاج الفني العفوي على عملك الخاص كفنان؟ وهل يدخل عملك في حوار مع هذا النتاج عموماً؟

ـ أتابع كل ما يجري، إلا أنه وللأسف، في هذه اللحظة أكون أنانياً، وكأني أنسى الحدث المسبب لهذا النتاج أساساً، وهو الثورة. في لحظة ما، أريد أن أنتج الأفضل. هذا حق وطموح لدى الفنان. تحولي من الرسم في مرسم، إلى الفن الرقمي يحملني مسؤولية مضاعفة. هو الشيء الذي أعيش منه.

[ما هو الفرق إذاً بين عمل “غرافيتي الحرية” الذي نشره الآلاف على مواقع التواصل الاجتماعي، والنسخة المطبوعة على قماش خام، التي تمّ بيعها في أحد المعارض الكبيرة في الخليج؟ أنت مؤلف النسختين، واللوحة غير مرسومة يدوياً أصلاً، وإن كنت كما قلت لي، قد عملت على حرق القماش في بعض المطارح، لكي تعطي الإيهام بذلك الجدار المدمر… هل توقيع الفنان هو الذي يعطي العمل قيمته المادية؟

ـ إنها شهرة العمل. من اقتنى اللوحة، كان سعيداً باقتناء النسخة الوحيدة الموجودة في العالم، التي طبعتها بنفسي وعملت عليها ووضعت عليها توقيعي. إن طبعت نسخا أخرى من العمل، لن تكون على قماش ولن أعمل عليها بالشكل نفسه. بالنسبة للمقتني، هو اقتنى شيئاً لا يوجد الآن عند أحد سواه. في مجال الفنون الرقمية، الحد الفاصل بين الطباعة العادية وطباعة الفنان هو وجود توقيعه، ومن هنا يأتي سعر اللوحة. إنه أمر جيد أن يصبح لتوقيع الفنان قيمة.

[ ولكن، لهذه اللوحة مؤلفين: غوستاف كليمت وتمام عزام…

ـ والمصور، الذي التقط صورة المكان الذي أضفت إليه لوحة كليمت…

[إذاً هذا العمل له ثلاثة مؤلفين، ولكن في النهاية هو عمل تمام عزام، لأنك أنت من خلقت الحوار بين اللوحة والصورة الفوتوغرافية والنتاج النهائي الذي يحمل اسم “غرافيتي الحرية”. أنت إذاً مؤلف الفكرة؟

ـ كل أعمالي مؤخراً، هي عبارة عن فكرة، بالتالي هي نص. وفي بعض الأحيان، تكون الفكرة في غاية القوة، من دون أن أضيف عليها أي تعليق نصي. هنا، يأتي المعنى الذي يعطيه كل متلقي للنتاج النهائي. عمل كليمت على سبيل المثال، كل شخص يفسره بطريقته الخاصة. عندما ننشر فكرة ما على فيسبوك أو غيره، لا تعود تخصنا وحدنا، تصبح ملكاً لكل من يتلقاها وينشرها بدوره.

[وكأن المساحة العامة تغيّر المعنى؟

ـ بالتأكيد. حتى انها تفتح المجال للنقد الحاد، كمن اعتبر أني أبني شهرتي على دماء أولاد بلدي… ربما…

كيف ذلك؟

[اليوم أكتسبُ شهرة وأشارك في معرض في باريس، وغيري يعاني الأمرين في سوريا، ولا أحد يسمع به. الفنان أناني.

ليست أنانية، فهذه مهنتك…

ـ صحيح، إلا أن الحياة ليست عادلة. هناك في سوريا من يمضي وقته هارباً من القذائف، ولكن التهليل من حظ شخص آخر، هو الفنان.

[ولكن عملك لفت انتباه آلاف الأشخاص في العالم إلى ما يحدث اليوم في سوريا…

ـ لفتت انتباه من لم ينتبه بعد، ولكني أيضاً حصلت على مكاسب شخصية. لا أستطيع إنكار هذا الشيء، وهذه الحقيقة محزنة. الفنان يريد إيصال فكرة ما عن قضية مهمة، ولكن المستفيد الأول من إيصال الفكرة هو الفنان نفسه.

في هذه الحالة، يجب أن يتوقف الأدب والفن…

قصدي، أن الظرف في سوريا اليوم مختلف، ومن هنا هذا الشعور بالحزن.

[ ولكن ما يحدث في سوريا اليوم، هو ظرف كافة أشكال الطغيان والثورات والحروب والكوارث الإنسانية…

ـ صحيح، ولكن فكرة هذه الأعمال تحديداً تنبع في الوقت الحالي من الموت.

إن استعدنا الحربين العالميتين الأولى والثانية وأيام فرانكو في إسبانيا وغيرها من الأحداث التي هزت العالم، أهم ما يمكن معرفته عن المرحلة حقيقة، هو ما تركه لنا الفنانون… حتى انه قد يكون أكثر أهمية مما تقوله لنا كتب التاريخ…

وهذا يضاعف مسؤولية الفنان. انتشار “غرافيتي الحرية” يضعني أمام مسؤولية المابعد. عندما تخطر ببالنا فكرة، لا نتوقع ما الذي ستفجره، تفاجئ الآخرين وتفاجئنا أيضاً. الفنان يقارن أعماله، ومنذ هذا العمل وأنا أفكر بالعمل التالي، فمشروع “المتحف السوري” لم ينته بعد. أنا الآن في تحدٍ مع عمل كليمت. جُل ما أخشاه، هو أن أقدم عملاً الآن يكون دون المستوى المتوقع، ما يتوقعه مني الآخر وما أتوقعه من نفسي.

[كل ما تقوله يجعلني أفكر بهذا النوع من الأعمال الرقمية، كلعبة تقنية تفاوض مع مجموعة من المرجعيات البصرية والنصية، لتروي ما يحدث الآن بطريقتها الخاصة. كما أن وجود مواقع التواصل الاجتماعي هو ما جعل ذلك ممكناً…

ـ هو الغاليري…

[ هو الغاليري قبل الغاليري… لأن الغاليري تهتم بشكل خاص بتلك الأعمال التي تنتشر بشكل واسع على فيسبوك…

ـ صحيح…

[هل يساهم الفن التشكيلي في تدوين التاريخ؟

ـ جميعنا ما زال في قلب الحدث، بالتالي أعتقد أن ما يحدث الآن، حتى على صعيد المساهمات الفنية، هو جزء مما سيُكتَب في المستقبل عن سوريا. حتى “أماكن الثورة السورية” لا تكتشف الخبر، هي تعيد نقله بطريقة أخرى.

[تعيد نقله وتعلق عليه… صفحة “طوابع الثورة السورية” مثلاً، تؤرخ حدثاً ما وتعلّق عليه، بالتالي هي تساهم في صياغة خطاب ما حول تاريخ سوريا اليوم أثناء تشكله…

ـ بالتأكيد، وهي من أفضل الصفحات على الإطلاق. فكرتها مهمة جداً.

[هل يترجم الفن التشكيلي ما لا يمكن ترجمته؟ وكأنه لغة رديفة؟

ـ إنها لغة رديفة، ولكنها ليست الوحيدة. في سوريا اليوم مثلاً، مدرسة في فن التصوير غير موجودة في مكان آخر. حتى ان المصورين غير المحترفين الذين يديرون الصفحات المخصصة لتصوير ما يحدث في سوريا اليوم، ظهر لديهم وعي بالقيمة الفنية لما تلتقطه عدساتهم. استطاع الشباب السوريون تحويل الظرف القاهر إلى مصدر إبداع وضمن الأدوات المتاحة، وإن كانت هواتفهم النقالة. إنهم شباب يعرِّضون حياتهم للخطر في كل مرة يخرجون فيها لالتقاط صورة. الصورة الواحدة ممكن أن تكلف كل منهم دمه، ومع ذلك يخرج لينقل حدث. كل هذه المبادرات تقول ما يحدث في سوريا اليوم، أي أن هناك العديد من الاحتمالات للوسائط التي تنقل الأخبار وتترجمها بصرياً. بالفطرة، استطاع السوريون إيجاد مخرج يتيح لهم إمكانية تحمل ما لا يتحمله أحد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى