حوار مع الكاتبة كارين أرمسترونغ:عن طبيعة الأصولية الدينية وتحديات الحداثة العلمانية في عصرنا
ترجمة: لطفية الدليمي
كارين أرمسترونغ KarenArmstrog : كاتبة و أستاذة جامعية و صحافية و صانعة أفلام وثائقية حازت شهرة عالمية بكونها كاتبة مرموقة في ميدان تأريخ الديانات و ثقافاتها كما تعدّ احدى المرجعيات المعتمدة في دراسة ظاهرة الأصولية الدينية .
ولدت كارين أرمسترونغ في مدينة (وورسسترشاير ) البريطانية في 14 تشرين ثاني 1944 و نشأت في ظل أسرة مسيحية متشددة في تطبيق التعاليم الكاثوليكية و كان مقدّراً لكارين منذ البدء أن ترتاد احد الأديرة الكاثوليكية و تنصرف الى حياة الارساليات الكاثوليكية . و قد كتبت لاحقاً في وصف هذا المقطع الزمني من حياتها ” بدت لي الحياة الدينية في الدير سلسلة متصلة من الحوارات الفلسفية محشورة بين ثنايا فورات الروح و النشوة المصاحبة لجلسات الصلاة .” وجدت كارين ذاتها تبحث عن الله وسط بيئة الدير التي تشيع فيها الثقافة الفكتورية المتقادمة حتى انتهى بها المطاف بعد سبع سنوات قضتها هناك أن تستحيل ناقدة عتيدة لكل التراث الكاثوليكي و يمكن لنا أن نقرأ عن تجربتها الذهنية و الروحية هذه في عملها المعنون ( عبر البوّابة الضيّقة Through the Narrow Gate ) الذي نشرته عام 1981 و يمكن اعتباره جزءاً من سيرة ذاتية مبكرة .
نالت أرمسترونغ شهادة في الأدب من جامعة أكسفورد و عملت أستاذة للأدب الحديث لفترة من الزمن في جامعة لندن ثم عملت مديرة لإحدى المدارس الثانوية للبنات و زاولت الصحافة كصحافية غير متفرغة . نشرت كارين العديد من الكتب نذكر منها : ( بدء العالم ) 1983 ، ( الأنجيل وفقاً لرواية النساء : كيف خلقت المسيحية الحرب الجنسية في الغرب ) 1986 ، ( نهاية الصمت : النساء و الكهنوت ) 1993 ، ( تأريخ الله : أربعة آلاف عام من البحث عن اليهودية و المسيحية و الإسلام ) 1993 ، ( المعركة من اجل الله ) 2000 ، ( التحوّل العظيم ) 2006 ، كما أنجزت كارين العديد من الأفلام الوثائقية التي تتناول موضوعات محدّدة في الديانات الابراهيمية الثلاث و قد صوّرت معظم افلامها في موطن هذه الديانات في الشرق الأوسط و بخاصة فلسطين .
الحوار التالي مع كارين أرمسترونغ من موقع ( BookBrowse ) الالكتروني و تتناول فيه كارين موضوعة الأصولية الدينية التي تعدّ مادة مثيرة و في غاية الأهمية لجميع الحضارات و الشعوب حيث تبين كارين في معرض اجاباتها ان الأصولية ظاهرة عالمية قلّما تخلو منها اية ثقافة أو حضارة كما تتحدث عن بعض آليات عمل الأصوليين في الثقافة الانكلوسكسونية ومدى استعانتهم بوسائل القوة الناعمة من إعلام و صحافة و مدارس للتعليم الديني .
- أخبرينا ما الذي تعنيه مفردة ” الأصولية الدينية ” من وجهة نظرك ؟
-سادت النزعة الدينية المتشدّدة التي ندعوها ” الأصولية ” كل العقائد الكبرى في القرن العشرين ، و هي تمثّل ردّة فعل و رفضا للمجتمع الغربي الحديث ، و لكن الأصولية ليست حركة تمتاز بوحدانية التركيب و التوجّه : فكلّ حركة أصولية أنبثقت بصورة مستقلة عن الأخريات و شكّلت قانونها الحاكم الخاص بها و الذي يكون في الغالب مختلفاً عن قانون الحركات الأصولية الأخرى و في حالة صدام عنفي معها . إن كون الأصولية قد انبثقت في جميع الثقافات يشير إلى حقيقة واسعة الانتشار و مقلقة للكثيرين منّا من الذين يرون في المجتمع الحديث واحةً للممارسات الليبرالية غير المقيّدة و أرى أن علينا ان نتحرّر من هذا الوهم الخطير : ان بلداناً مثل الولايات المتحدة و مصر و أسرائيل مثلاً هي بلدان تشهد استقطابات واضحة العيان و مؤذية بين معسكرين احدهما ينظر بإيجابية الى الحداثة العلمانية بينما يناصبها الطرف الأخر العداء الفظ المقترن احياناً بمظاهر مسلحة ، و في الوقت الذي كان فيه القرن العشرون يقترب من نهاياته شهدنا أسوأ الاعمال الإرهابية في العالم و التي أذنت ببدء مرحلة اصطراع عنيف مسلّح من جانب مريدي الأصولية ضد المجتمع العلماني . أن من المثير للسخرية ان المشاريع التي تعدّ صالحة لليبراليين – مثل الديمقراطية و الحركات الصديقة للبيئة ، و تحرير النساء و تمكينهنّ اقتصادياً ،و حرّية الكلام و التعبير – تعدّ شريرة ، بل و حتى شيطانية بالنسبة ألى الأصوليين .
الأصولية تعبّر عن نفسها في الغالب باستخدام وسائل عنيفة و لكنّها في ذاتها تنبع من خوف عميق و متأصّل : فقد رأيت في دراساتي المتعمّقة عن الظاهرة الأصولية أن كل حركة أصولية تخشى السقوط في دوّامة التلاشي و الاضمحلال و أن كل الأصوليين مقتنعون تماماً أن المؤسّسات العلمانية قد صمّمت بطريقة ذكية و مقصودة لدفع الأصوليين إلى الانقراض حتى في البلدان الأشد رسوخاً في ممارسة التقاليد الديمقراطية و هنا يمكنني القول ان الأصولية شكل من اشكال الايمان المخرّب أو المهووس بفكرة العنف و الأصوليون يرون في استخدامهم لوسائل العنف محض وسيلة مبرّرة لبقائهم على قيد الحياة وسط بيئة يحسبونها طاردة لهم .
- لماذا اخترتِ التركيز على موضوعة الأصولية في الديانات الابراهيمية الثلاث : اليهودية و المسيحية و الإسلام ؟
–لكلّ دين من الأديان السائدة في العالم أصوليّته الخاصة : فثمة أصولية بوذية ، و أصولية سيخية ، و أصولية هندوسية و حتى أصولية كونفوشيوسية !! و قد اخترت التركيز على الأصوليات اليهودية و المسيحية و الإسلامية لانها الأكثر شيوعاً و تأثيراً في عالمنا المعاصر . الأصولية – كظاهرة – بدأت أولاً في الولايات المتحدة اوائل القرن العشرين فقد كان الأصوليون البروتستانت الأمريكان هم روّاد النزعة الدينية المتشدّدة ثم رأى نظراؤهم من الأصوليين اليهود و المسلمين أن الحداثة صولة علمانية مدمّرة للمجتمع ، و يختلف هؤلاء عن الأمريكان بكون أخبارهم تتصدّر عناوين الصحف بسبب مايمكن لفعالياتهم أن تحمل من مخاطر مهلكة بالنسبة لعملية صنع السلام الهشة في الشرق الأوسط المبتلى بنزاعات لا نهاية لها .
- لا تنفكّين تؤكّدين أن الحضارة الغربية قد غيّرت العالم الذي نعيش فيه و بخاصة تقاليده الدينية . متى بدأت تقتنعين أن الحضارة الغربية كان لها هذا التأثير الصارخ على جميع الثقافات الأخرى ؟
-المجتمع الغربي غيّر العالم تماماً بعد أن مهّد الطريق أمام نوع مستحدث من الحضارات : حضارة لاتعتاش كسابقاتها على فائض انتاج زراعي بل على التكنولوجيا القادرة على تمكيننا من انتاج ما نحتاج من مستلزمات في دورة انتاج لانهائية ، و تتأسّس التكنولوجيا على قاعدة عريضة تقوم على دعامتي العقلانية العلمية و المنهجية الاختبارية و لاتقيّدها المواضعات او القيم الدينية و الأسطورية من تلك التي كانت سائدة في الحضارات السابقة . احتاج مواطنو أمريكا و أوروبا الغربية قرابة الثلاثمائة عام لكي يطوّروا هذه الحضارة التكنولوجية التي هي في النهاية نتاج عملية تطوّرية شديدة التعقيد و تشمل ميادين عدّة ، و لم تتطوّر التكنولوجيا الغربية الى شكلها الأكثر نضجاً الّا في القرن التاسع عشر ، و قد استلزم الإنتاج التكنولوجي الوفير و ضرورات التوسّع الاقتصادي أن تبحث أوربا عن أسواق ناشئة لنتاجها الضخم الامر الذي نشأت معه أولى الكولونياليات الشرقية في الهند و الشرق الأوسط و افريقيا في أواخر القرن التاسع عشر و بدايات القرن العشرين و كان ينبغي دوماً تحديث المجتمعات الكولونيالية وفقاً للأنماط الثقافية الغربية لكي تظل تلك المجتمعات ضمن ترتيبات النفوذ الاقتصادي الغربي ، و في هذا المقطع الزمني بدأت تلك المجتمعات عملية التحديث و قد بدا واضحاً لروّاد التحديث ان الوسيلة الوحيدة لحصد مكاسب جدّية في العالم الحديث و هزّ أسس الهيمنة الغربية تكمن في اتباع وسائل و أساليب التحديث الغربية ذاتها و لكنهم تغاضوا عن حقيقة ان الغربيين قد احتاجوا ثلاثمائة عام لولوج عصر الحداثة عبر عملية تطوّرية بطيئة شاقة و مؤلمة ، و هو أمر من بين أمور عدّة ساهم في ظهور الأصولية الدينية في تلك المجتمعات و بشكل اكثر فظاظة عن مثيلتها في العالم الغربي .
- يبدو أن ثمة هوسا طاغيا بالأصولية لبعض الجماعات في ثقافتنا المعاصرة . كيف تعلّقين على هذه المسألة و بخاصة فيما يخصّ الأصولية الغربية؟
– بعد أن فشل الأصوليّون فيما دعي بمحاكمات سكوبس Scopes Trial عام 1925 في منع تدريس مادة التطوّر و النشوء الأرتقائي في المدارس العامة الأمريكية بدا الأمر كما لو أنهم تقاعدوا و انسحبوا من المشهد العام و اختفوا كليةً لكن الحقيقة أنّهم ظلّوا على قيد الحياة و تواروا عن الأنظار ببساطة لغرض أن يعيدوا تنظيم صفوفهم و يشكّلوا وسائل ثقافتهم المضادة ( من كنائس و مدارس أنجيلية و امبراطوريات اعلام مسموع و مرئي من راديو و تلفزيون ) و هي الوسائل التي مكّنتهم لاحقاً من شنّ هجومهم المضاد أواخر سبعينات القرن الماضي ، و قد بدا ثانية أن الأصوليين هزموا في خضمّ الفضائح الجنسية التي طالت كبار القادة الانجيليين في ثمانينات القرن الماضي الى حد تصوّر معه العلمانيون أن الأصولية ماعادت سوى رسالة ميتة و لكن – كعادتهم دوماً – عاود الاصوليون الظهور على المسرح العام و بقوة و ثمة أشارات تؤكّد أن عودتهم تلك قد اقترنت بمظاهر أكثر قوة من ذي قبل .
- كيف تتوقّعين صلة الناس بالحداثة في المستقبل اذا أخذنا في الاعتبار قوة الأصولية و تنوع اليات عملها و مخاطبتها للرأي العام ؟
–المخاوف التي تثيرها الحداثة – و تقترن في الغالب معها – لن تختفي في المستقبل و دعوني أذكّر بالحقيقة الاتية : تأسّس حلم عصر التنوير كما نعرف على فكرة ان الناس أذا ما أصبحوا أكثر تعليماً و عقلنةً فان العالم سيغدو أكثر تسامحاً و تحضّراً و تعاطفاً و قد أبانت أهوال القرن العشرين التي شهدنا خاتمتها في مجازر كوسوفو أن اندفاعات الشعوب المعاصرة الموصوفة بالعلمانية و العقلنة لاتقل في شرورها – ان لم تزد سوءا – عمّا اقترفه التعصّب الديني الاعمى في المجتمعات ماقبل المحدّثة و ليس ثمة ما يشير في الأفق الى أن الأصولية في طريقها الى الاضمحلال بل على العكس أذ تبدو الأصولية المعاصرة أحدى العناصر الجوهرية في تشكيل الوعي الجمعي لكتل بشرية كبيرة على وجه الأرض . تمثّل الولايات المتحدة – حاضنة الحداثة و مستودعها الأكبر في العالم – حالة غريبة للغاية : فالحداثة فيها تبدو ناجزة حيث يستمتع الناس بدخول عالية نسبياً و مديات واسعة من الحرية في دولة تعدّ بنظر الكثيرين الأقوى و الانجح بين دول العالم و لكن دعونا من الانغماس الزائف وسط بريق الأضواء اللبرالية الخاطفة للابصار و لنقل بوضوح أن مخاوف العصور السابقة قد تفاقمت في السنوات الأخيرة أذ بالرغم من أن أقل من عشرة بالمائة من الأمريكان يصنّفون أنفسهم بكونهم أصوليين لكن استطلاعات الرأي الرصينة تشير أن مايقارب الخمسين بالمائة من الأمريكان يتشاركون القناعة ببعض التوجّهات الأصولية ، و الأصوليون الأمريكان من جانبهم ايضاً باتوا أكثر تطرفاً تجاه القيم العلمانية السائدة و تلك حالة تبعث على القلق و الريبة تجاه ما يخبّئه المستقبل لنا من مفاجأت غير سارة و ربما عدوانية أكثر من تلك التي شهدناها حتى يومنا هذا .