حوار مع د. الطيب تيزيني يطرح مشروع طريق سوري ثالث
دمشق – نبيل الملحم
أثار بيان المثقفين السوريين الذي حمل 99 توقيع مفكر وباحث وأديب سوري، حواراً واسعاً حول واقع الحراك السياسي في سوريا، واتجاهات القوى، وموقف النظام السياسي، ويتداول المراقبون معلومة تقول بأن الدكتور الطيب تيزيني، كان أحد أبرز الناشطين في صياغة هذا البيان الذين طالب النظام السياسي في سوريا بأولويات تنطلق من رفع الأحكام العرفية، وإطلاق السجناء السياسيين، وإطلاق الحريات الصحفية، وكذلك استصدار قانون الأحزاب.
– كيف يرى طيب تيزيني تطورات الوضع السياسي في سوريا؟!
– ما هي طبيعة المرحلة التي تمر سوريا بها الآن بعد انتقال أصوات المعارضة السياسية في سوريا من الاقتصادي (عبر الحديث عن اجتثاث الفساد وإصلاح الإدارات) إلى السياسي عبر طروحات من نوع “بيان المثقفين السوريين”؟!
في حواره مع “البوابة” أطلق تيزيني تعبيراً قد يكثف موقف تيار واسع من المثقفين في البلاد، كما يشكل اصطفافاً واسعاً حوله…وهذا نص الحوار:
* في مرحلة ما قبل رحيل الرئيس حافظ الأسد، كنت قد كتبت سلسلة من المقالات تدور حول الفساد في سوريا، ثمة إجراءات اتخذت، ثم توقفت، وكأن تصالحاً قد حدث فيما بعد داخل إطار النظام السياسي.. ماذا يمثل تطوراً في هذا الاتجاه؟!
– الآن هنالك حالة جديدة، أكثر عمقاً، ولكن أكثر تبصراً… المرحلة السابقة، مرحلة ضرورة إسقاط الفساد، أدت إلى إسقاط البنية المغلقة التي اعتقد صانعوها أنها لن تفتح أبداً… الحديث عن إسقاط الفساد أدى إلى تفكيك هذه البنية وإظهار أن هذا الوضع ليس وضعاً لا يسمح بالاختراق.. هذا الوضع نشأ تاريخياً ويمكن اختراقه تاريخياً… حين كانت الأحاديث تدور حول الفساد، كان طاقم واسع من السلطة السياسية يصطفون بالدور بانتظار الاعتقال، والاعتقال كان شبه مهيمن… رحيل الرئيس حافظ الأسد، طرح فرضية جديدة أدت إلى مرحلة جديدة.
* طي ملف الفساد، هل يعبر عن تسوية ما بين أجهزة السلطة… في تصريح سبق وأعطيته أنت “للبوابة” قلت ما معناه أنه لابد من حماية الرئيس بشار الأسد.. حمايته مِنْ مَنْ؟!
– أنا أقول بحماية المجموعة الوطنية المستنيرة في النظام السياسي، ولكن من أجل وطن..
* كثيرون يعتبرون أن خطاب الطيب تيزيني تحول إلى خطاب إصلاحي تسيطر عليه روح التسوية، أعتقد أنك سمعت هكذا رأي من قبل؟!
– المشكلة في الخطاب السياسي أن تكون لغته صدامية… النظام السياسي لا يحتملها، والجمهور لا يستطيع حمايتها.. أنا منذ البداية قلت أن هذا مالا نطمح إليه.. نحن نطرح مشروع يمكن أن يشار إليه هكذا (امتدت يد الطيب إلى أذنه من قفا رأسه)… بمعنى أن هنالك مشروعا آخر يعمل عليه من سنين وهو ما يمكن أن يسمى بالمشروع العربي في النهضة والتنمية… هذا مشروع ثقافي ـ سياسي، في حين أن المشروع الأول كان مشروعاً سياسياً ـ ثقافياً.
*عن أي مشروع أول تتحدث؟!
– السياسي الثقافي سمته الأولى مطلبية، تلح على اللحظة الآنية بأن تطرح الأقصى في مرحلة لا تحتمل إلاَّ الأدنى… النظام يرفض، والشعب غائب، ولذلك ولهذا تبعثرت قوى كثيرة… المشروع الآخر هو ثقافي ـ سياسي، ضروراته انبثقت من هذه المرحلة السورية تحديداً، ولكن منذ أن انبثقت تبين أنها ليست مشروعا سوريا، وإنما هو مشروع أمة… هنالك احتمال وجود انفجارين كبيرين فيها… انفجار طائفي، أو انفجار طبقي ملوث طائفياً، ليس فقط كما حدث في مصر تحت ما سماه السادات انتفاضة الحرامية، وإنما بتزوير الحدث… هذا لن يكون انفجاراً يعبر عن الجياع، وإنما سيكون مشكلة طائفية، وهذان احتمالان أراهما بوضوح طبعاً إذا كان الحديث يتعلق بسوريا، فليس هذا لأن الشعب السوري طائفي، بل لأن هنالك مسوغات لمثل هذا الاحتمال.
* واضح أنك تعتبر المشروع الثاني، مشروعاً إنقاذياً… دعنا نحدد ملامح هذا المشروع.. البديل أو الإنقاذي.
– المشروع حتى الآن جرى تفريغه في ثلاثة مستويات مستوى هيكلي وأيديولوجي ومعرفي.. المستوى الهيكلي يقول أن هذا المشروع ليس حزباً، ولا يريد أن يكون حزباً… هو أيضاً ليس صالوناً مفروشاً، إنما هو حالة جديدة ترفض أن تتماهى مع حزب، وترفض أن تبقى لنخبة أو مجموعة نخب، وبالتال يجرى تعريفه على أساس تعريف السالب (ليس هذا وليس ذاك) ونحن الآن في طور التعريف الإيجابي من الداخل، وهذا هام وحاسم من أجل تمييزه خصوصاً للسلطة السياسية لأن هذا الأمر لا يطمح للصدام مع السلطة.
*قبل المضي في الحديث عن المستويين الآخرين، هل حاورتم السلطة السياسية بهذا؟!
– لم أحاور أحداً، لي مجموعة أصدقاء في السلطة، لم أحاورهم كسلطة، ولا أطمح لذلك إلاَّ في حالة واحدة، وهذه الحالة ستكون عندما يتطور المشروع ويصبح بحاجة إلى شرعية قانونية.
*ولكنكم في طور الإعداد والتأسيس، ألم تواجهوا موقفاً ما… من السلطة السياسية؟!
-حتى الآن ليس هنالك أية مواقف… السلطة السياسية لم تقف ضد هذا الأمر مع أنه كان هنالك نشاط جيد في هذا الاتجاه خصوصاً في طرطوس واللاذقية والشيخ بدر وفي دمشق، وطبعاً السلطة تعرف أننا حاورنا ألوف الناس بينهم العشرات من الأجهزة الأمنية، هذا المشروع ليس بديلاً عن الأحزاب أو السلطة.. هو حالة نهضوية…
* هذا يقودنا للحديث عن المستوى الثاني.. المستوى الأيديولوجي.
– هذا المشروع ظهرت مسوغاته بعد أن أُرجىء المشروع الثوري ونشأ مشروع آخر عبر الحدثين الكبيرين: سقوط المنظومة الاشتراكية، ونشوء العولمة… هذا الواقع الجديد الذي لم يعد يسمح بثورة… أُرجىء.. لم نقل انتهى ولكن أرجىء بسبب أن الحامل الاجتماعي للثورة ابتعد. ثم ظهرت مشكلة جديدة وهي أن البلد كله أصبح مستهدفاً بسبب الهدف الأعلى للنظام العالمي، وهو هدف تفكيك كل الهويات لتأسيس هوية واحدة (المال ـ السلعة) معادلة جديدة (كوسمو ـ سوقية) سلعية مالية.
هذا المستوى ينطلق من أننا الآن في مرحلة النهضة وليس الثورة… بعدما جرى على الحامل الاجتماعي أصبح الأمر منوطا بالجميع، وهذا قادنا إلى مقولة مركزية وهي أن العمل الآن يمكن أن يجمع أقصى اليمين القومي الديمقراطي حتى أقصى اليسار، بدءاً من الأصوليين إذا أقروا بمبدأ التداول السلمي السياسي للسلطة والحوار… هذا الطيف هو طيف الحالة التي نبحث عنها.
* الرهانات في البلد مازالت محصورة في الطائفي/ المذهبي/ الإقليمي.. وليس النهضوي الذي تتحدث عنه.
– هذه الانتماءات التي تتحدث عنها لن تذهب مع هذا المشروع، ولكن سيعاد بناؤها وظيفياً بحيث لا تتعارض مع المشروع النهضوي.. ليس لدينا دعوة لإلغائها، ولذلك يتم الاتصال بمشايخ وخوارنة وملحدين ويساريين وبالجميع ضمن هذا السقف الكبير.
*على ماذا سيلقي هؤلاء… الملحد بالشيخ؟!
– هذا يفضي إلى المستوى الثالث وهو المعرفي، وهذا ينطلق من أن مشروع النهضة والتنوير يبدأ بفكرة مركزية حاسمة، وهي كلمة فرح انطون التي وردت في مناظرته مع محمد عبدو وهي (الحيادة) وكان يعني العلمانية.. حيادة السلطة إزاء الدين، والدين إزاء السلطة بحيث يتحول الدين إلى ضمير.. الجميع معاً في انتماءاتهم، لكن ما يجمعهم هو هذا الانتماء الأكبر والمقولة التي أطلقها فيصل: “الدين لله والوطن للجميع”، هنا نستلهم انطلاقاً من الواقع القائم في الوطن العربي ثمرة مقولة التنوير في مواجهة الظلامية، والإقرار غير المشروط بالتعددية بكل أنماطها، وقبوله لما ينظم الناس جميعاً وهو السقف الوطني والقومي الديمقراطي.
*هذا المشروع هو ناتج احتمالات الخارج، وتحولات الداخل.. أي أن مبرره هو ما يمليه شرط الخارج أولاً.
– إذا كان الأمر هكذا، الخطر الأعظم من الخارج والانفجار من الداخل، وهنالك احتمال ثالث وهو تحويل البلد إلى كوسوفو جديد، وهذا من السهل لأن أي فتيل يمكن أن يفعل ذلك وكانت هنالك مقدمات وقد ذكرتها علناً… الصدام المسلح الذي جرى مع جماعة رفعت الأسد كان رسالة أميركية… والبيان السياسي الذي وزعه حزب التحرير الإسلامي على الانترنيت كان رسالة أيضاً… إن لم تقبلوا بواقع الحال الذي طرحته مادلين أولبرايت أمامكم هذا..
* هذه الرسائل مرسلة للسلطة السياسية أيضاً، هل أحدثت السلطة السياسية أية تبدلات بعد هذه الرسائل؟!
– في الواقع حدث شيء من التعديل مع الإبقاء على جوهر الأمور… لكن النظام يسير ضمن النفق السابق الذي لا يؤدي إلى بدائل مفتوحة.. على هذا الأساس أصبح الأمر حالة قصوى… تفكيك من الخارج… انفجارات من الداخل، وبالتالي جدة الفكرة، هو أن ما حدث شيء قد يكون محتملا… ستكون هنالك كارثة، والفكرة هي فكرة مصالحة بين النظام والشعب.
*مصالحة ستكون بشروط توازن قوى… ما هو نوع المصالحة؟
– لا الصدام، ولا الاستكانة، الطريق الثالث هو المصالح وهو طريق سلمي، بطيء، يستجيب لحاجات الناس الأساسية، والرابع يقف على رأسه عقلاء المدنية، أي العودة إلى المجتمع الأهلي… وجهاء الحي والشارع.
* هذا يعني إبعاد ما هو حاسم… تتحدث عن البطيء.
– هذا الطريق البطيء، السلمي، الذي على رأسه عقلاء… لا يعني أن هنالك إقصاء لما هو حاسم الآن.. يجب الآن أن تواجه لكن بروح الطريق الذي يؤكد على السلام الاجتماعي.. لذلك لن تقول أننا نطرح مشروع تقبله السلطة، لكن يجب أن يكون هنالك ضغط شعبي واسع، بالتكاتف مع العقلاء والفاهمين، وتنشأ بالتالي كما في المعارك العسكرية انسلالات من هنا وهناك، انسلالات جديدة تعيد بناء المعادلة القائمة في سوريا، ولكن أن نطرح مشروعاً يخاطب النظام فهذا شيء آخر… الحالة العامة تحتاج إلى صدام سلمي… أي حوار عميق.
* هل تسمح بنية النظام السياسي، وذهنيته بهذا الحوار العميق؟! بهذا الحوار السلمي؟!
– أنا أراهن أن النظام ليس بنية واحدة متجانسة، حتى ضمن أولئك الذين يدرجون في نطاق ما يسمى بالحرس القديم.. حتى هؤلاء بدأوا يدركون أنهم من أجل بنائهم بطريقة ما، يجب أن يعاد النظر بالموقف، إضافة إلى أن هؤلاء بوعيهم التجريبي المصلحي، يلاحظون أن نظام العولمة لا يقبل بأقل من كل الرؤوس، ولن ينسوا أبداً ما حدث بالنسبة للسبعة الشهيرين، النمور الآسيوية، الذين فتنوا في ليلة لا قمر فيها… هذا يجب أن يعمم، هذا الوضع السياسي ـ التاريخي، هذا الذي يجب أن يعمم.
* ولكن هكذا طروحات تعني تفكيك جملة مصالح لمجموع مراكز قوى، فكما ما تسميه خطر العولمة عليهم، كذلك خطر هكذا مشروع.
– هذا المشروع إذا ما تحقق سيفكك هذه المصالح، ولكن في إطار وطن ينتمون إليه، لأن هنالك مساومات ستنشأ وينبغي أن تنشأ مساومات طالما اتفقنا على طريق ثالث.
*كيف ستكون هذه المساومات؟!
– لا أستطيع أن أُحدد نمط هذه المساومات لأن أحداث الداخل والخارج ستملي نفسها على هذا النمط… إنما التفكيك الداخلي سيكون أكثر ثراء من التفكيك الخارجي الذي سيجعل من هؤلاء عبيداً من نمط العبودية التي يعممها النظام العولمي.
* هل تراهنون على أحد في النظام السياسي، سبق وتحدثت أوساط سورية عديدة، وكذلك مثقفون سوريون، عن روابط ما بينك شخصياً وبين بعض رموز قوى النظام السياسي.
– أراهن على القوى المستنيرة في النظام السياسي، التي تدرك بوعي وطني تاريخي ما يحيط بالبلاد… أنا أعتقد بوجود مجموعة ليست قليلة ممن لا يناسبهم هكذا طرح وهؤلاء من النخب العسكرية والمالية والسياسية، هؤلاء الذين كادوا أن يلتهموا كل شيء، من دون هؤلاء حتى في الحزب الحاكم، أنا أعتقد أن الحزب الحاكم في أي بلد ينبغي أن ينظر إليه على أنه ثلاثة أنساق، الحاكم فعلياً، والرديف الثاني الذي يهيئ نفسه للانطلاق باتجاه النخب الأولى، والنسق الثالث هذا الذي يسوق كل شيء باسمه وهو لا يملك شيئا، وهذا هو الذي يشعر بمرارة الموقف لأنه مواجه له، ولأنه داخل الدائرة… باسمه تنهب البلاد وهو لا يملك شيئاً… هذا الأمر ينسحب على أنساق أخرى، أنساق بعينها، مجموعات وليس أفرادا، مثلاً فئة إثنية، المتنفذون يحكمون باسمها فيما من هم في القاع جياع… أنا أعرف أنه في البعث ألوف الجياع هؤلاء يحكم باسمهم، وكي لا أبسط المسألة أقول أن هؤلاء جاهزون لفعل جديد… أظن أن هذا هو شكل من أشكال الاختراق المشروع، وقد يدخل في نمط من أنماط المغامرة… أنا قلت أنه بطيء بمعنى ليس المطلوب أن يحقق أهدافه كلها الآن.. واحد صحيح دقيق في سياق الألف، أي في سياق الاستراتيجية العامة… البطيء هنا سيصبح سريعاً عندما يأتي في سياقه وولادته… هذا المشروع لا يستأجل ولا يستعجل، حتى حينما يراد من أطراف أخرى أن تتم عمليات الاستعجال يجب أن يكون هناك كبح… هنالك من يؤجج نحو الاستعجال.
* إلى من تشير؟! هل تعني بـ (هناك) رموز من مجموعات أصدقاء المجتمع المدني؟!
– في هذه المجموعة من أراد أن تكون الرؤوس حامية.
* كل ما سبق لم يأخذ بالاعتبار التسوية السلمية مع إسرائيل باعتبارها ممكنة، وباعتبارها تحمل استحقاقاتها على مستوى الداخل.
– أنا أظن أن هذه التسوية ستتم، ويمكن أن ينشأ بعدها خطاب سياسي للسلطة والنظام السياسي.. خطاب قد يقوم على الموادعة، في مثل هذه الحال ستسقط مسوغات طرحت على مدى خمسين عاماً، كتأجيل الإصلاح، والتقشف، وتأجيل التحديث والديمقراطية… لابد من خطاب آخر للنظام السياسي.
* هل أفهم من ذلك أن التسوية السلمية ستحل مشاكل مركبة وعالقة في البلاد؟! هذا يعني أن نتائج إيجابية كبرى ستترتب عليها.
– لا … لا يعني ذلك أبداً… ليس المطلوب هذا أبداً، المطلوب أن الوجه المتشدد قد يصر على رفض التسوية، وبالتالي هنا علينا أن نفكك هذا الخطاب، وأن نكتشف ما خلفه، لكن أقول من أجل إزالة اللبس، الديمقراطية لا تأتي عبر التسوية وقبولها، وإنما عبر رفض التسوية عموماً وبشكل شامل، إنما برؤية تاريخية، الخطاب السلطوي العربي عموماً، هنالك في النظام السياسي العربي عموماً، هنالك في النظام السياسي العربي من يريد أن يحرج دعاة الديمقراطية باسم أنهم يريدون أن يحوزوا على مكاسب من عملية التسوية، وبالتالي يراهنون على إسرائيل، هذا موقف زائف في الخطاب السلطوي ويجب تفكيكه لأن الديمقراطية هي التي ستجيب عن مشاكل الناس، وسترفض البدائل التي تتم على حسابها، ومنها البدائل الوطنية نفسها، هي التي ستضعها في إطار الديمقراطية، هذا الرهان في ظني قائم وانطلق في هذا عن فكرة مركزية هي أنه لم يعد إغلاق الدائرة ممكناً، ويبقى أن ندرك كيف يمكن أن تؤكل الكتف، برؤية تاريخية استراتيجية، كيف نصل إلى الهدف بالصيغة المثلى لا بالصدام ولا بالصمت.
* البيان الأخير الذي سمي بيان المثقفين السوريين، المعروف أنك وضعت صيغته النهائية… هل يأتي في إطار المشروع الذي تتحدث عنه.. ما هي ماهية هذا البيان؟!
– البيان جاء تعبيراً عن تنادي مجموعة عن المثقفين الوطنيين الديمقراطيين في البلد، من أجل الإسهام في بلورة الاتجاه الجديد.. هو هذا الانفتاح على ما يحدث، وبالتالي هو دعم اتجاهات الإصلاح الاقتصادي والمالي والتعليمي وتحديث هذا كله.. عندما نتحدث عن النسق الجديد في السلطة، الذي على رأسه د. بشار الأسد لا بد أن نقرأ فيه شيئاً جديداً، هذا الجديد هو ما أجل الخروج من عنق الزجاجة، بالرغم من أن هناك ما لا يحصى من الصعوبات التي تعمل على محاصرة هذه الاتجاهات الأولية، ولذلك فإن البيان في أحد معانيه الكبرى، هو بيان يتحدث بلغة التحديث والإصلاح التي طرحها النظام السياسي، منذ تشكل المرحلة الجديدة، فهو لا يأتي لنقدها، أو ليكون بديلاً عنها، وإنما من أجل تحفيزها والأكثر من ذلك من أجل تحقيق حامل اجتماعي لما يحميها في الأوساط الشعبية، أنا ذكرت في مقال خاطبت فيه د. بشار الأسد، قلت له: الحماية الوحيدة لهذا التوجه التحديثي الإصلاحي تكمن في الشعب، وبعد ذلك نكتشف ما يمكن أن نكتشف… البيان جاء في هذا البعد الوطني، ولم يأت لخلق عثرة، ولا يمثل حالة استفزازية، وإنما يمثل استجابة لما هو مطروح على صعيد الإصلاح والتطوير والتحديث، وأظن أن معظم الناس فهموا المسألة على هذا النحو، رغم أن الموقعين عليه ينتحون إلى تيارات سياسية وأيديولوجية متعددة، وقد يكون مآرب متعددة لكن ما يجمع بينهم هو هذا السقف التحديثي، البيان يقوم على ثلاث أفكار… هو أولاً تعبير عن حراك سياسي يتمتع به الناس أصحاب العلاقة، لا يمكن أن يتم في وضع تسود فيه الأحكام العربية وقوانين الطوارئ.. في هذه الحال يجب أن يعاد بناء الموقف من خلال تجاوز هذا القانون الاستثنائي عبر التأسيس لدولة القانون التي تطال الجميع دون استثناء، الفكرة الثانية هي أن هذا الوضع لم يعد يحتمل وجود ناس في السجون دون محاكمات، ودون أن يسألوا بشكل كاف على الأقل، وإنما يستدعي إطلاقهم، طبعاً إن كان عليهم شيئاً فليحاكموا محاكمات، عادلة وعلنية… هذه الفكرة تنطلق من المستوى الثاني للمشروع الذي تحدثت عنه، وهو أن الحامل الاجتماعي لمرحلة النهوض والتنوير في سوريا لا يقتصر على اليسار كيفما فهمناه، ولا يقتصر على الأحزاب أو على حزب بعينه، وإنما الجميع معني بذلك وهذا ما لاحظناه في خطاب القسم حيث تم التأكيد على هذه الفكرة.. فكرة الإنابة عن الآخر سقطت أخلاقياً وسياسياً.
أما الفكرة الثالثة فهي تلك التي تقوم على الدعوة إلى إنشاء حياة سياسية جديدة عبر ما قد أسميه حراكاً سياسياً جديداً في البلد… أي تقوم على إنتاج قانون جديد للأحزاب والحياة السياسية يسمح بأن يقوم كل مواطن بواجبه، وأن يملك شرف بناء هذا الوطن، ومن ثم فإن فكرة قانون جديد لتنظيم الأحزاب والحياة السياسية هي كذلك حاسمة في سبيل تحقيق الإصلاح والتحديث التي طرحها الرئيس بشار الأسد نفسه… إذن فهو بيان يقوم على المصالحة والتحفيز، وكلاهما، المصالحة مع النظام السياسي وتحفيزه، وتحفيز الشعب باتجاه حالة جديدة حالة تكون قادرة على مواجهة ما قد يحدث.. وسأذكر هنا حادثة مؤلمة ومرعبة… لقد صدر بيان عن إحدى القوى في سوريا وزع في مكان ما… هذا البيان يطالب بأشياء خطيرة منها، تهجير المسيحيين، وذبح العلويين، وبقاء السنة، هكذا وضع يستدعي التفكير بطابع إنقاذي لكن مرة أخرى دون الوقوع في شرك الاستعجال أو الإرجاء… من هنا يصبح الحديث واضحاً باتجاه اللغة التي علينا أن نصوغها في فكرنا السياسي والثقافي من خلال صوغ اصطلاحية جديدة تغطي واقع الحال الجديد، على الأقل بسبب من أن لغتنا السياسية المعاصرة تبلورت خصوصاً في مرحلة الصراع بين المعسكرين، وتحت تأثير المنظومة الاشتراكية.
* سؤال أخير، ماذا حلَّ بأصدقاء المجتمع المدني وأظن أنك كنت قريباً منهم.
– وصلتهم تحذيرات بالتوقف.
*وماذا حلَّ بالموقعين على البيان؟!
– نشر في صحيفة السفير وهي الأقرب إلى سوريا، ودخلت الصحيفة الأسواق السورية.
تحت سقف التصادم وفوق سقف التسليم، هذا هو جوهر الشروع الذي يطرحه المفكر السوري د. طيب تيزيني للخروج بسوريا من أزماتها الراهنة—(البوابة)
[1] http://www.albawaba.com