حوار نقدي طويل لعزيز العظمة عن الأصولية والطائفية والثقافة
حوار فكري ثقافي فقهي ديني عميق، ومكثف، وناقد وجريء، مع المفكر السوري الكبير عزيز العظمة. حوار في محاورات، بل في جدال ونقاش، حول معظم المعضلات والأسئلة التي عرفها العالم العربي على امتداد القرن العشرين وانسحاباً إلى مناقشته وصراعاته وخلفياته، الحوار الرائع، والمفيد، واللامع، مع مفكرنا السوري، نشر في كتاب بعنوان «سوريا والصعود الأصولي، عن الأصولية والطائفية والثقافة» (عن رياض الريس للكتب والنشر). ورغم أن الحوار هذا قد انطلق أساساً من «باعث لحظة مفصلية تعيشها المناطق الشرقية، وتحديداً السورية منها»، بيد أنه «حوار نقدي ابتغى به عزيز العظمة تقديم قراءة تاريخية في درس التجليات الأصولية، وركائزها العدمية وآفاقها المستقبلية»، ويحاول الحوار «تحليل العمليات التاريخية لصعود الأصولية… ولكي يتسع فضاء المقاربة حول هذه اللحظات الأصولية، فإن عزيز العظمة بلور منهجه وأفكاره حول محاور أساسية «في تحديد الصعود الأصولي» و»الإشكالية بندول ثقافي أم بندول أصولي« و»الأصولية الطائفية» و»الربيع العربي والأصولية تاريخياً».
اسمح لي، مشكوراً، أن أستطرد قليلاً. يبدو أن الظرف الاجتماعي والتاريخي في هذه الأيام يزداد تعقيداً. على أي حال، سأتوقف اليوم عند عدة نقاط مهمة كنت قد أثرتها، للتوقف عند بعض الجدالات العالمية حول مسألة العلمنة والصعود الأصولي. لكن في البداية لديّ مداخلة تتعلق بالتفريق بين «إسلامَين» في البدايات.
سأدع جانباً الإسلام الثاني «الخرافي» وأناقش قليلاً في الإسلام الأول. كيف كان «طهرانياً» وهو في الوقت نفسه «منفتح» على متطلبات الحداثة؟ يبدو بالفعل أننا أمام إشكال، فما الذي تعنيه بالضبط «متطلبات الحداثة»؟ اليوم السلفيون، وبخاصة تلك السلفيات المنضوية تحت مظلة «السلفية العلمية»، هي أكثر تشديداً على الحداثة في جانبها التكنولوجي، لكنها في الآن معاً تلعن العقل الذي أنتج هذه التكنولوجيا. يظهر صندوق الاقتراع اليوم أمام السلفي كـ»خيار تقني» تكنولوجي وإجرائي لا أكثر، لا بد منه توخياً للانفكاك من عزلته عن التاريخ؛ ليس هذا وحسب، بل الاستفادة كذلك من بعض المفردات الليبرالية التي عادة ما تصاحب الصندوق، لكن بعد تفكيكها من حواملها الفكرية العلمانية، أي تفكيكها من هويتها: من الحداثة. لا أعلم إذا كنا بحاجة إلى التفريقات السائدة بين الألفاظ التي تشير إلى الحداثة (Modenism/ Modenity) وعلاقة هذه بالأصولية. وكما تعلم، ثمة نقاد وباحثون يفرقون بين هاتين، بهدف مواجهة معضلة علاقة الطهراني بالحداثة! على أي حال، لا أميل إلى هذا التفريق، سوى القول أن الحداثة هي حركة تاريخية متكاملة. وأصارحك أنني بالفعل لا أستطيع النظر إلى طهراني منفتح على الحداثة في الوقت عينه.
إن مشكلة خطاب الإسلام السياسي تاريخياً ونقدياً هي أساساً مشكلة الخطاب الديني الإسلامي نفسه (الإسلام الأول)، مشكلة عدم استجابة هذا الخطاب للحداثة، مشكلة عقل تأزمي لم يقرأ الحداثة إلا ليقول إننا أبناء الحضارة التي لديكم أو كنا كذلك. هو لم يقرأ الحداثة بشروطها التاريخية إياها، بل بشروطه هو، أي شروط العقل التأزمي. لم يطّلع على الحداثة إلا ليقول إنه لدينا حداثة إسلامية! لم ينطق لفظة العقل إلا ليثبت «عقلاً ما» في القرآن، بدالاّت: «عقل، يعقل، عِقالاً، فهو عقل». والأمثلة على هذا كثيرة كما تعلم. للأسف، مساجد دمشق ما زالت تكرر مثل هذه الترهات حتى قبل وقوع الأزمة فيها. كان محمد عبده المثال الأبرز على تأزم هذا الإسلام وهو «يقرأ» ماذا تعنيه المدنية الغربية، وكيفية العثور على هذه المدنية في الخطاب التراثي. دائماً ما يشغلني أن رجلاً أصولياً مثل رشيد رضا يخرج من «جبة الشيخ» محمد عبده (ليس صحيحاً أنه «انقلب» على إصلاحيته في كتاباته العشرينية)؛ وسيد قطب من جبة «الإصلاح» والمودوي؛ والخميني من جبة علي شريعتي. لا يُرجح أن هؤلاء الأفراد يمثلون ظواهر منعزلة عن بعضهم البعض، أو عن السياق الثقافي الإسلامي المتأزم الذي اصطدم بالحداثة لا من «داخلـ»ها، بل من «خارجـ»ها. الثيمات التي كانت تشغل محمد عبده في جدله مع فرح أنطون ما زالت تؤشر إلى همومه. وبالفعل، حينما نقرأ لمحمد عبده ومحمد رشيد رضا يتهمان عصرهما بأنه أشد فساداً وجاهلية من الجاهليين قبل الإسلام، فلن نستغرب من سيد قطب يعيد إنتاج، بل تطوير، هذه النظيمة الجاهلية في سياق أصولي أشد، وهو السياق الذي أشرت إليه في مداخلتك. أنظر اليوم محمد عمارة، هذا الأصولي الذي يدافع عن صعود الإسلاميين واسترجاع «هوية الأمة»، وهو نفسه سليل تأزمية محمد عبده، هو نفسه الذي قال يوماً: «ألسنا كعرب أقرب إلى تراثنا القانوني منا إلى تراث اليونان و»كود» نابليون؟ وأيهم أٌقرب إلينا وأولى بنا، قومياً وحضارياً: الإمام الشافعي؟ أم نابليون؟». بالطبع الأقرب إليه هو الشافعي!
لا اعلم بالضبط إذا كان من الدقة النقدية بمكان القول أن الإسلام السياسي، لا سيما «إخوانـ»ه، ما هو إلا مجرد «مظلة سياسية» لهذا الإسلام الأول، بل لعله مظلة تأزمية على عمق تأزمي في القاع. فلو تتبعنا بالفعل الثيمات الرئيسة للتيارات الإسلامية، سنجدها تقبع جميعها في قاع هذا الخطاب الديني المتأزم؟
[ الأصولية والعلمنة
إشارتك إلى مسألة «التمايز الاجتماعي» هي في غاية الأهمية والنقد. لكن، ألا تتفق معي أنّ العلمنة ومسارها في التأكيد على مسألة التمايزات الاجتماعية وبأن أحد نتائج هذا كان إكساب الدين «استقلالاً»، ثم ليتحرك هذا الاستقلال إلى المركز حاملاً معه الخطط الكلانية والسياسية للمجتمع…الخ، يحيلنا ضمناً إلى أن الصعود الأصولي هو من إنتاج العلمنة (مأخوذاً بعين الاعتبار والنقد تأكيدك الدائم أنّ البداية يجب أن تكون من الحداثة لا من العلمانية)؟ أجد في هذا الكلام صدى لمن يقول (أوليفيه روا مثلاً) إنّ الإسلام السياسي هو «من إنتاج التحديث» (4). هناك البعض من الخطابات النقدية الغربية لا يقول بهذا إلا من أجل أنْ يؤكد أنّ الأصولية هي من فعل الحداثة. المشكلة هي مشكلة الحداثة إذن، هكذا لتُصب اللعنات عليها! هل اللّوم ينصب هنا، بالفعل، على الحداثة؟
ـ لا بل يقال أكثر ممّا تقوله أنت في نهاية مداخلتك حول الارتباط بين العلمانية والإسلامية، ليس لجهة أن الواحدة ناتجة فرعياً عن الأخرى، بل ادعاء أنّ الإسلامية نتاج رئيسي للعلمانية – ومن منظور اعتذاري هي نتاج طبيعي وحتمي. فالنتائج المستخلصة من نمط التحليل الّذي تشير إليه أن الإسلامية مشروعة ومرتجاة، وبأنّ الحداثة هي في حقيقة الأمر مفهوم فارغ، وينبغي إمّا إسقاطه أو استبداله بفكرة «تعدد الحداثات»، الّتي يستخدمها من يعتذر للظلاميّة أو ينتصر لها، ممن يود الإبقاء على لفظة «الحداثة»، إنما مع تجريدها من أي محتوى أو معنى محدد. نتيجة ما يقال في هذا الصدد أن كلّ ما يحدث في العصر الحديث هو حديث. إنّ الحداثة، بالنسبة لما بعد الحداثة، تمثل وحشاً مسؤولاً عن التوتاليتارية، وهذا أمر يؤول إلى جمالية لعوب على افتراض أنّ الحداثة تامّة متحقّقة لا رجوع عنها. أمّا في البلدان المتعثرة في التّحديث والتّرقي والتّقدم فهذه رؤية غير مسؤولة ورديفة للقوى الرّجعية. قد يكون من المفيد بالمناسبة تذكّر أنّ فكرة تعدد الحداثات اقترنت في منشئها باسم عالم اجتماع إسرائيلي، وأنّ مسارها في مناقشة العلمانيّة جاء عبر شخصيتين متجددتي الكثلكة.
إنّ فكرة تعدد الحداثات والزعم أنّ العلمانية هي «ما بعد مسيحيّة» فوق كلّ شيء، وبالتّالي يجب أنْ يكون هناك علمانية «ما بعد إسلامية« أي نابعة من «الدّاخل» الاسلامي على ما يقال، إن كان لها أن يكون مقام بين المسلمين، مع ترجيح امتناع العلمانية على البلدان الاسلامية – لهي فكرة موجهة نحو القطيعة مع تاريخنا الحديث والمعاصر ونحو الاحتفاء بالتراث أي التغنّي بالتخلّف والانتصار له، واعتماد نظرة ثقافوية إلى التاريخ والاجتماع: حيث إنّ التراث المسيحي، وفقاً لهذه القراءة الشائعة جداً، يتميز بالتمييز بين الدولة والكنيسة، خلافاً للإسلام. وهذه رؤية تبسيطية مخلّة ومعاندة لوقائع التاريخ. كان بولس الرسول يدعو إلى وجوب طاعة السلطة للربّ، ولم يكن الملوك الفرنجة أو البيزنطيون أقلّ من ممثلين للربّ وأوصياء عنه. يحتاج المرء أن يتبيّن زيف هذه الحجة وعبثيتها، بالنظر إلى التحالف السعودي/ الوهابي بين هيئتين متميزتين تستدعيان للذّهن ما يقال عن المسيحيّة: أمراء آل سعود ورجال الدين من آل الشيخ في تمايز مستمر، رغم محاولة الملك الراحل عبد الله الحدّ من استقلالية العلماء تجاه الدولة. بيد أنّه صراع طويل الأمد.
في المقابل، الأمور بالنّسبة لي، مختلفة تماماً، بالنظر إلى أنّني لطالما أشدد في تفضيلي دوماً للالتفات إلى التمايز على الانشغال بالمماهمة بين الأشياء المختلفة المتمايزة، وعلى النّظر كذلك في الجدل بين الخاصّ والعام، دون ردّ أي منهما إلى الآخر. يتضح أنّه ليس لدينا تناقض بسيط بين الخطاب الاعتذاري المنتصر للرجعيّة الدينيّة من جهة، والذهاب إلى ضرورة البحث عن داء أساسي، خلقي تكويني فينا نحن (وأنا أشعر أنّك أنت سائر في هذا الوادي). إنّ التطوير والتحديث والعلمنة تمثل ديناميات، وهي ما كانت مجرّد صيغ أو وصفات. ولا يمكن أبداً أن يقال عن أي أمر من أمور المجتمع أنّه تامّ الاكتمال أو أنّ له التمام في أي بلد أو قارّة وفي أي مرحلة زمنيّة، ذلك أنّنا بصدد ديناميّات لا بصدد أحوال قارّة. كما أنّ الأحداث التاريخية لها الكثير من النتائج غير المتوقعة، إذ أن الرياح تجري كما لا تشتهي السفن. وبالتالي، لا يمكن القول أنّ الإسلامية، أو أياً كان مّما تشير إليه أنت بالتعبير الغامض «الإسلام الأول»، في تناقض محتم وإجباري مع هذه الديناميات. ولد الإسلام السياسي وتمدّد في كنفها، إلا أنّه حمل من قبل قوى معارضة لتلك الّتي أولدتها، وهي قوى تقدم ثقافة تتعارض مع نتائج العمليات الّتي أُنجبت منها، وكأن ذلك شكل من أشكال قتل الأب أو قتل الأم على يد سليل مختل. ولا بدّ أنْ نضع بعين الاعتبار من باب المقارنة أنّه لا يمكن التفكر في الرومانتيكية (وهي ظاهرة تاريخية معقدة للغاية) في أوروبا دون اعتبار الحداثة، حيث إنّها تعارضها في أسسها المخياليّة وفي تمجيدها لما قبل الرأسمالية (في المقابل، أدت الرومانتيكية إلى ابتكارات مهمّة في الموسيقى والأدب؛ وكان العديد من الثوريين والتقدميين رومانتيكيي الهوى). وبالمناسبة، أعتقد أنّه ينبغي علينا أيضاً أن نكون واضحين حول ما تدعوه أنت بـ»الطهرانية».
الطهرانية
حسب تقديري، فإنّ هذه اللفظة (الطهرانية) هي تعريب مباشر لـPuritanism: التي كانت حركة بروتستانتية راديكالية بل ثوريّة، نشطت سياسياً محاربة التصاوير والتماثيل في الكنائس (كما هو حال طالبان وداعش والنصرة)، عاملة على محو أو تدمير الأعمال الفنّية في الكنائس. تقدّر خسارة بريطانيا من الاعمال الفنيّة في الكنائس، على مدى القرن السابع عشر إلى ما يربو على 80. ثمّ تحولت من الهجوم إلى الدفاع بعد هزيمتها السياسيّة والعسكريّة عندما انتقل مناط نشاطها إلى مجال الورع والأخلاق، وإلى حدّ كبير إلى الهجرة من حيث تركت أثراً قوياً للغاية على المجتمع الأمريكي وجسمه السياسي. ودون الرّغبة في الدخول في التفاصيل التاريخية، فإن الطهرانية تشير عموماً إلى ما يشير إليه النّاس العاديون بالورع الّذي يشكّل سلطة أخلاقية شديدة السطوة والورع على السلوك الشخصي، ممّا يعرف عادة بالتزمت. والعديد من الجماعات البروتستانتية كان لديها أو لا تزال متّسمة بهذه الخاصيّة. وإن حزب النّور السلفي في مصر قد أضفى على الورع، والورع الوسواسيّ أحياناً، نكهة سياسية؛ أمّا جماعة التبليغ فقد زودها بنكهة الدعوة والتدروش. ومن جهتهم فإن المطّوعين السعوديين وجبهة النصرة وداعش يتشددون في ذلك – داعش تقوّم السلوك باستخدام الحجارة والسوط والسكين. لهذا، في الحقيقة فإنّ الكلام حول الطهرانية يجب أن تكون له مدلولات عينيّة. علينا القول أيضاً أن ليس كل السلفيين طهرانيين، فمحمد عبده لم يكن طهرانياً بهذا المعنى، وهناك تاريخ طويل من المراوغة السياسيّة والاجتماعيّة في الإصلاح الإسلامي، وهو ما أحبّ أن أشير إليه بتربيع الدوائر. من بين أمور أخرى، لم يقرّ لا عبده ولا آخرون بوضوح، أنّ العبودية أو الرّق (المشروعة تماماً في القرآن كما تشير داعش) قد تقادمت بمعنى أن الفقه قد تقادم مع تغير الأحوال في العمران، وأنّه بالتالي أصبح لاغياً. ينطوي هذا الإقرار الّذي لم تجرؤ عليه الاصلاحيّة الاسلاميّة على فكرة أنّ القرآن هو منتج تاريخي، وهذه فكرة ما كان الاصلاح الإسلامي قادراً على الإقرار بها ولو أنّه أقر عملياً في كثير من الأحيان بنتائجها. الطهرانية هي حقيقةً التزمت، ظاهرة عصابية شديدة ضمن فضاء أوسع من الدين. وينطوي عليها عموماً شخصيات مُوَسوَسَة، كما نقول نحن في سورية، أشخاص يمارسون التدين عُصابيّاً وقهرياً. ويمكن أنْ يقال أيضاً أنّ الثورة الثقافية في الصين استدعت اضطرابات عصابية شبيهة.
تتطلب السلفيّة الجهاديّة قدراً باثولوجياً من النرجسيّة، هذا إضافة إلى الوسواس القهري، الّذي يتعزز من خلال الاغتراب عن البيئات والتحويم فوقها، والعمل على تقويم هذه البيئات باستخدام العنف المحض من خلال سلوك مبرمج سلفاً وردود فعل – بل استجابات – بافلوفيّة (نسبة إلى عالم النفس الروسي إيفان بيتروفتش بافلوف Pavlov صاحب مدرسة الارتباط الشرطيّ في سلوك البشر والكلاب) آلية تقريباً. إنّه نموذج يمكن ربّما أنْ يفهم هذا من خلاله كونه إخراج لسايكودراما، حيث تكتب الأدوار بإحكام وتحدد النتائج مسبقاً وتتم فيها مسرَحَة السلوك بغرض الممارسة القهريّة العلنيّة. كل هذا يرمز إليه من خلال استعراض المؤشرات المادية على الاغتراب والغرابة، ومن خلال الإيغال في مسرحة وإخراج الغربة والتوحّش، وهو على النقيض من التأنّس: العبارة الغريبة المنمّطة والنبرة الزاجرة مع السبّابة المرفوعة دوماً واللّغة المتقادمة والهندام واللّثام والتسمّ والتمتمة والتكبير والصلب وهكذا دواليك. هذا هو معنى الغلوّ. ارتباط مثير: لقد استخدم لوثر المفردة الألمانية Schwaermerei (الغلوّ) ليشير إلى الغلاة من البروتستانت المتمردين على سلطة الأمراء المنتقلين إلى مذهبه الجديد (أمّا تعصبه هو فقد كان مسألة مختلفة): وهذه المفردة تعني الاحتشاد، والمجاز هنا هو السرب من الحشرات، ما وصفه ابن خلدون، بالإشارة إلى بني هلال (ليس على نحو دقيق تماماً) بالجراد المنتشر. ودعنا لا ننسى كيف تثبتت هذه الفكرة في الثقافة العربية الكلاسيكيّة: أن المعنى القاموسي الأصلي لكلمة الغوغاء تشير إلى سرب الجراد الّذي يهم بالطيران.
[ الإصلاح الإسلامي
لنعد إلى الإصلاح الإسلامي لتوضيح بعض النقاط الّتي أثرتها. إن الاصلاح الإسلامي، كمشروع فكري، غير متماسك ومحكوم عليه بالفشل مفهومياً: فهو يسعى باستمرار إلى المراوغة الموضوعيّة، إلى تربيع الدوائر مدّعياً بأن القرآن يمكن قراءته كمصدر للقضايا الحاصلة في عالم الحداثة، وبأن الحداثة يمكن أن تستوعب استناداً إلى مطابقتها للقرآن. لقد علّقت سابقاً على هذا (وبإمكاني الإحالة على كتابي العلمانية لمناقشة مستفيضة، لكنني أضيف إلى ذلك أنّ لهذا الاتّجاه نتيجتين ممكنتين في الاطار الأوسع لانتشار السلفيّة بمعناها الأصلي: إمّا الاهتمام الكبير بالنّص الّذي يفهم على نحو حرفي (ومن هنا نجد نزوع رشيد رضا إلى الماضوية المتزمتة بعد موت محمد عبده عام 1905)، أو الاهتمام الشديد بالضروريات الحداثية مثل الأعمال المصرفية والتأمين والداروينية وغير ذلك من المعارف الحديثة والشؤون السياسيّة كالاشتراكية واتفاقيات كامب ديفيد. يندرج هذا في سياق أساليب توفيقية خطابية مارسها عبده (ويوسف السباعي، وبعض مشايخ الأزهر). وفي 26 سبتمبر 2014 أعلن مفتي طاجكستان، البلد العلماني الواضح، أنّ انتقاد الحكومة هو إثم عظيم سيعاقب عليه الله. ناهيك عن أمور غريبة مثل العملية الجراحية لاستعادة العذرية (الّتي شرّع لها شيوخ الأزهر) والفيزياء، وعلم التحكم الآلي والمحرك النفاث. إنّ المعيار الحاسم هنا ليس معرفياً، بل هو سياسي، إنّه يتعلق بالظرف وبما قد يعتبر محموداً ومناسباً من المقال في هذا الظرف أو ذاك. وهنا دعنا نتذكر أنّ الشابّ رشيد رضا أصدر فتوى يشرع فيها الماسونية، حيث كان كل من خديوي مصر ومحمد عبده أعضاء في المحافل الماسونية. أما في أوروبا فإن انعطاف الدين باتجاه العقلنة على نحو حاسم ما كان إلاّ لأن الظروف المعرفيّة والاجتماعيّة أرغمته على ذلك. ولكن بتفاوت. فقد أنتجت الكنائس اللوثرية (والاصلاحية اليهودية) تعديلات لاهوتية لم تقم بها الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية، وهذان الطرفان الأخيران يفضلان التسويات السياسية دون العمل على مراجعة العقيدة. وقد كان للمجتمعات في غضون ذلك ما يكفي من الزمن لاستحكام الحداثة ونظمها المعرفية وهيمنتها الاجتماعية بما فيه الكفاية لترويض الدين. إن الإصلاحية الإسلامية بصورتها المألوفة مشروع يبدو وأنّه أصبح منتهي الصلاحيّة في وقت انتشرت فيه الأصوليّة شعبياً وعسكرياً، ممّا يفرض عليها إعادة صياغة الذّات على نحو مطابق للّحظة – وهذه صياغة لن تتاح لها الاستقرار والمقدرة على الاستنساخ الذّاتي دون دعم بل ضغط مستمرّ وقاهر، سياسياً واجتماعيّاً.
إذاً، ما الّذي حدث لنا؟ بشكل مختصر: ما تشير إليه الشروط الجديدة الّتي ذكرتها في بداية هذا الحوار تتعلق، من جهة، بضمور الشروط القديمة، الّتي ما كانت ممكنة إلا خلال فعل الدولة الّتي لعبت لعقود دوراً تمدينياً على مدى عقود. ومن جهة أخرى، وعلى نحو متلازم، تتعلق الشروط والظروف الجديدة هذه بالقطيعة في المسار التاريخي الّذي كان ناظماً لتاريخنا الحديث حتّى العقود الثلاثة الماضيّة. إنّها القطيعة هذه الّتي تخوّل المرء القول، كما أشرتُ سابقاً، أنّ غير المتوقع وما كان غير قابل للتّصور قد تحقق على نحو فجائي. أتفهم أنّك والكثيرين قد ولدوا في وقت أصبح ينظر فيه للمستقبل على أنّه نكوص نحو ماض معياري يسمّى تراثاً، نكوص كثيراً ما يفصّل على مقاس السلفيّة باعتباراتها المختلفة. إلّا أنّ جيلنا المخضرم كان على تماس مع عالم آخر: إنّه عالم لم يكن من السّهل، على سبيل المثال، أنْ تجد فيه امرأة محجبة في دمشق، إذا ما استثنينا أجزاء من دمشق القديمة. لقد كانت النساء من القرى النائية يظهرن بلباس محلي يتضمن غطاء الرأس، بألوان وأشكال كانت مميّزة بالنسبة للمزة وكفرسوسة ولداريا وغيرها من قرى الغوطة. لم يكن هذا حجاباً، بل كان لباساً محليّاً، كما هو حال العباءة السوداء، وهي لباس محليٌّ نظائره لدى الرجال الدشداشة والغترة والعباءة المقصّبة في العديد من بلدان الخليج. إنّ الحجاب، بالتعريف، هو زيّ موحد شامل وليس ناجماً عن التراث والعادة، بل متأتّياً عن التّمدد الاسلامي السياسي والقيَمي والضغوط السياسيّة والاجتماعيّة والمعنوية المصاحبة له؛ إنّ التدرّج في الألوان والموديل والتفصيل عند القبيسيات، مثلاً، هو مثال واضح على هذا. وحينما أخبر جمال عبد الناصر الجمهور، في خطاب له، بأنّ مرشد الإخوان قد طالبه بإجبار المصريات على ارتداء الحجاب، على الرغم من عدم استطاعته على أو رغبته بتحجيب ابنته طالبة الطبّ، وانه – أي عبد الناصر – لن يقوم بتحجيب المصريات (ونذكّر بأن زوجته ما كانت محجّبة)، ضحك الجمهور من ذلك ومرح وقهقه. ويمكن للمرء أنْ يكتب عن تاريخ التحجيب عند العرب (وآخرين كذلك) على مدى السنوات الثلاثين الماضية، ما يفسره الاقتداء الأبله والنفاق الاجتماعي والوجل من لعنات الاسلاميين وتعاليمهم.
دعني أكرر: أن للموجة الراهنة من النكوص في العالم العربي أسباباً وشروطاً لا يمكن أنْ تستمد من «الإسلام الأول» وأعترف بعجزي عن فهم ما عنيته بتلك العبارة – أو من جوهر طهراني ما. إنّنا بحاجة إلى صورة للوضع تلم بتعقيده، لا أنْ نلجأ إلى حتميّة ميتافيزيقيّة خالية من التدبر التاريخي أو التحليلي، وغير حكيمة سياسياً. إنّ الموجة الحالية هي نتاج قوى قامت أثناء الحرب الباردة، وتمرّدت بعدها. يكمن سرّ دين الدنيا في دنيا الدين.
أستأذنك لنقاش نقطة كنت قد تعرضت لها في مناسبات أخرى. غير خوسيه كازانوفا ان اي نقاش في العلمانية يقتضي الأخذ بالاعتبار انبثاقها كـ«تصنيف ثيولوجي للمسيحية الغربي، ولم يكن لها مماثل في التراثات الدينية الأخرى، حتى في المسيحية الشرقية. وهو في المسار نفسه يؤكد ان «الحداثة الغربية العلمانية هي اساساً وحتمياً ما بعد مسيحية. الا ترى ان مثل هذه التأكيدات، التي تنتشر الآن على نطاق واسع في ميادين الدرس الغربي، تنسجم مع تلك المقولات الستاتيكية التي كانت، ولا تزال، تصعد، في البيئات الأصولية الاسلامية مشددة على ان العلمانية لها «مسار غربي خاص»، قامت اساساً ضمن سياق الصراع الديني الغربي ولا علاقة لنا به؟ أين يقع هذا التناغم بالضبط؟
ـ نعم اتفق مع هذا تماماً. موقف كازانوفا ليس فريداً، بل يشاركه فيه العديد، وهو في فحواه ومعناه ومقصده خطابي وجدالي. إنه يفتقر الى اي اساس في واقع التاريخ الذي نراه مفصلا وفق هوى ايديولوجي، بيد انه منتشر على نطاق واسع. كما انه يتموضع في تناقض افتراضي بين تواريخ يفترض انها مغلقة غير متعدية، يدعى احد هذه التواريخ بـ»الغربي»، والآخر بـ«الشرقي»، واحد غربي، الآخر مسلم، واحد مسيحي، والآخر مسلم. كل هذه الآراء شائعة جداً، ومن السهل مباشرة تصريفها على نحو ايديولوجي، بحيث تستخدم في سياق اطروحة صراع الحضارات، او في اطروحة الحوار الحضاري. هي تعبير استشراقي قديم جداً، يسعى للتوكيد على ان العلمانية ليست غربية فحسب، بل هي مستحيلة في المناطق الأخرى. ومن المهم ان نذكر ان هذه الأطروحة تخلط بالأسلوب المعتاد بين الجذور المفترضة والنتائج الآيلة. لكن هذه الأطروحة هي ايضا من التعبيرات الاسلامية القديمة والمستمرة. والحال، انه لطالما كان الاسلاميون والمستشرقون من الأجيال السابقة يعكس كل منهما الآخر. فكلاهما يخلط الجذور بالنتائج، وكلاهما يزعم ان هذه الأصول المفترضة هي دينية حصراً، يتم تقليصها الى نص مقدس. كلاهما يتحدث عن الشروط الثقافية او الاسس الحضارية التي لا تتغير بمرور الزمن.
في الوقت الراهن، نلاحظ ان كلا هذين الطرفين قد تعزز بعد نهاية الحرب الباردة، مع ضمور الفاعليات التمدينية للدولة، وانسحار الآفاق التطورية في الاقتصاد والمجتمع، وذوبان نصاب المدنية في الروابط الأهلية، جنباً الى جنب مع سياسات الهوية والدم والأصل. ينخرط كازانوفا، وغيره الكثيرون ممن يقدمون وجهات نظر متشابهة، في جدال ضد افكار التنوير، وبعضهم على نحو واضح من منظور كاثوليكي اعتذاري، اعتقاداً انه يؤكد نفسه بنفيه للواقع النقيض له. بالتالي، فـ «التناغم» الذي تشير اليه هو تناغم تصوري، ليس جديداً بل يناظر استشراق القرن التاسع عشر الذي عكس صورة الدين الاسلامي من مرآة الاصلاح اليهودي، ولاحقا الاصلاح الاسلامي (ان ذلك التراث الذي ينطلق من الكتاب على شاكلة النموذج البروتستانتي، أما التاريخ فهو شأن عرضي في هذا الصدد). هو ليس جديداً، لكنه وليد ظرف معين، إذ نشأ من الشروط التي تلت الحرب الباردة، الشروط التي يمكن ان نطلق عليها عبارة سياسات الهوية.
اما بالنسبة الى اولئك المثقفين العرب غير الاسلاميين الذين افتتنوا بهذه الآراء حول امكانيات امتناع العلمانية ـ وهم كثر ـ فأود القول ان هذه الآراء قد ساهمت في الواقع الى حد كبير في انتقال الافكار الاسلامية حول مجتمعاتنا تاريخياً ومستقبلاً من الهامش الى المركز، وذلك بتلقيها وتمثلها لمقالات الاسلاميين حول ماضينا وحاضرنا ورفعها الى منزلة المسلمات. لقد كان البعض مدفوعاً بانطباعات سطحية تم استجماعها تحت ضغط تحولات الدين في العقود الماضية. انتقد العديد من هؤلاء فكرة العلمانية على نحو غير مختلف في المضمون عن نقد الاخوان المسلمين لها. اعتقد آخرون ان في الامر فهلوة سياسية موجهة الى «الشارع» الذي اعتبر مفطوراً على التدين بمعناه الاصولي ومطبوعا على التخلف والفوات، مما ساعد في تحول الشارع الى الاسلامية: هذه هي الحال في ممالأة جمهور مفترض من قبل اشخاص لا يتمتعون بجمهور، بل يتخيلونه وفقاً لقالب ايديولوجي شعبوي. وبالطبع، هذا تقصير في الواجب التثقيفي للمثقف، الذي يزداد سوءاً طالما ان هؤلاء المثقفين يعتقدون ان الجمهور مطبوع على عدد من الميول والسجايا القارة، وأنه بطبيعته متخلف ومناهض للتقدم. نلاحظ اموراً لا تختلف في هذا القبيل لدى العديد من المثقفين العلمانيين الأتراك، ممن اعتقدوا من الشطارة الوقوف الى جانب أردوغان ضد العسكر والقوى العلمانية التركية، وممن يعضون اصابعهم ندماً الآن. مثل ذلك العالم الوهمي غير المسؤول يستمر حتى اللحظة، بدليل منح جائزة ابن رشد سنة 2014 لراشد الغنوشي، لاسباب يمكن للمرء عزوها اما الى حكمة لدنية لست قادراً على استكناهها، او الى البلاهة او الخرف؛ ثمة مجال كبير للاجتهاد حول هذا السلوك الذي حط من قدر هذه الجائزة.
[ لتذكير القارئ هناك عنوان مهم لك هو «استشراق الأصالة»، حيث تتناول التقاطع الاستشراقي الأصولي الذي تحدثت عنه في ميدان الثقافة والإحالة إليها. بصراحة فوجئت الى حد ما بآراء كازانوفا الأخيرة الفاقعة جداً، وهو عالم اجتماع كانت له جهود جثيثة في مسائل «الدين العام» و»الدين الخاص». وما زلتُ أدين له بإفادته في هذه الجهود. على أية حال، طالما أننا دخلنا في هذه النقطة على نحو مباشر، دعني أسألك: ألا يمكن للفضاء الديني الأصولي، ومن «داخله» أن يُعَلمِن توجهه؟ أليس هذا ما حدث في علمانية الفضاء الأنغلو ساكسوني، ولم يحدث في اللائكية الفرنسية؟ أليس هذا هو ما يُمكّن الباحثين من الحديث عن تصنيفين اثنين للعملانية في المسار الغربي (وربما يضيفون العلمانية الدستورية الأميركية، وكذا الهندية)؟ عن علمانية بروتستانتية، وعن لائكية كاثوليكية فرنسية، حادة يعقوبية؟
ربما بالفعل يقصد كازانزفا هذا في بعض المناحي (لا أوافق على الإطلاق، إنما فقط لإضاءة ومناقشة هذه النقطة): كيف أن العلمانية الأنغلو ساكسونية قامت أولاً كرد على الثنائيات التي يعبق بها الفضاء الديني من داخل الكنيسة، في حين أن اللائكية الفرنسية اتخذت مساراً آخر. لكن، بالوقت نفسه لاحظت سابقاً في هذا الحوار وإشارتك الى أن بريطانيا هي «واحدة من أكثر الدول علمانية في العالم» (رغم استمرار التزام ملكيتها بخط تنصيب الكنيسة). هذا الكلام قد يتوقف عنده كثيرون. لا شك أن العملية التاريخية هي في النهاية ما تُجبر هذا الفاء الديني على الانصياع لحركة التاريخ وتقدمه، بخاصة أن الفضاء الديني عموماً فضاء مطاطي مرن يتحول لونه مع التغييرات التاريخية.
لكن، إذا لم يكن للفضاء الديني دور تأثيري في السياق الغربي على المسمار العلماني، لماذا وجود مسارين للعملانية، لائكية يعقوبية فرنسية، وأخرى أنغلو ساكسونية؟ هذا، بالفعل، ما تشدد عليه أصوات حديثة: أنّ الثقافة الدينية هي، في البداية والنهاية التي تحكمت بما يجب أن يكون عليه شكل ومسار العلمانية في الفضاء العام. واسمح لي أن أضرب مثالاً عن المسألة النسوية. فرغم سلوكها في مسارات وتقلبات حداثية وما بعد حداثية وفقاً للسياقات الثقافية والتاريخية، فهيه ولدت من داخل جدران الكنيسة، كما تعلم. ما تشدد عليه الآن بعض الأصوات النسوية أن تلك كانت «نسوية مسيحية» ولا يمكن نقلها الى فضاء غير مسيحي، إلا أنهم في الوقت نفسه يؤكدون على نسويات تعددية وفق التراثات الحاضنة: هكذا نجد الاصطلاحات المراوغة «نسوية اسلامية» نسوية بوذية»، ما هو الحال في «علمانية إسلامية»، «علمانية مسيحية».
التشوّه الأساسي في توجهات آراء كازانوفا، والآراء الأخرى حول الاختلافات بين العلمانية الكاثوليكية والعلمانية الأنغلو – ساكسونية (وبالطبع، لا بد من التسجيل منذ البداية أن شروط المقابلة هذه تمثل مشكلةً: أحد الطرفين يعرّف بالانتماء الكنسي الكاثوليكي، والآخر بالانتماء اللغوي والجغرافي) هو أننا نرى فيها طبائع العمران معكوسة. ليست العقائد هي التي تحرك التاريخ، بل التاريخ هو ما يجعل العقائد ملائمة لأزمنة وأمكنة محددة. فالافتراض بانفصال المسارات الكاثوليكية والأنغلو- ساكسونية للعلمانية، وعدم إمكانية جمعهما تحت مظلة مفهوم واحد يستغرقهما، هو افتراض غير مفيد يستبطن قولاً بالحتمية الثقافية، ويهمّش العمليات الاجتماعية والسياسية والمعرفية الفعلية ويعطي العمليات الافتراضية أو الثقافية المتخيّلة أولوية عليها، بل هو أيضاً ضمناً إنكار للتحول التاريخي ولوجود القطيعات التاريخية.
وبصرف النظر عن هذا، ثمة العديد من التفاصيل (ويطيب للشيطان المقام في التفاصيل) تشير إلى انتهاج نمطية انطباعية في النظر إلى القضايا المطروحة. يمكن القول حول العلمانية الأنغلو-سكسونية المزعومة أنه بينما العلمانية الدستورية للولايات المتحدة الأميركية عملت على استقلال الممارسات والمؤسسات الدينية والطوائف المختلفة من سيطرة الدولة، نلاحظ أنّ بريطانيا، التي قد تكون من أكثر الدول علمانيةً، هي بلدٌ له كنيسة دولة رسمية يرأسها ملوكه وملكاته، وأن بريطانيا دولة يقرر فيها البرلمان – وليس الكنيسة أو الشعب- العقائد الرسمية لكنيسة إنكلترا. لا ننسَ كيف أنّ اليمين الديني في الولايات المتحدة منذ أيام ريغان أضحى يحاول استخدام الدولة كأداة. فبريطانيا هي دستورياً نقيض الولايات المتحدة في هذا المضمار. أما التمايزات والاختلافات فمردّهات للمسارات المختلفة للتطورات الاجتماعية والسياسية في البلدان المعنية التي تتشارك في البروتستانتية (على الأقل من حيث الأساس في الولايات المتحدة؛ في حين أن البروتستانتية مخففة في كنيسة الدولة البريطانية، وتدعى طقوسها الأكثر رسمية في الواقع بالأنغلو-كاثوليكية). لقد قام الملوك البريطانيون في القرن السادس عشر بعلمنة ممتلكات الكنيسة وأخضعوا الكنيسة للملك. وبهذا المعنى، ترتبط الدولة بالمؤسسة الكهنوتية بشكل مضارع لما كان عليه الحال في الإمبراطورية العثمانية في علاقة السلطان مع الفرق والطوائف والكنائس كافة وقد ورثنا الاربتاط في سوريا وتونس ومصر ورثة ذلك.
أخيراً، إذا ما نُظر عن كثب في سؤالك ينتابني المرء تساؤل عما هو المقصود بـ«الثنائية« في الحقل الديني في الحقل الديني الكاثوليكي. لقد كانت الكاثوليكية، وحتى المجمع الفاتيكاني الثاني في الستينات، تعاند بحزم التيارات الرئيسية للتاريخ من أواخر القرن الثامن عشر فصاعداً. وإذا ما توغّلنا في التاريخ، نجد أن الكنيسة اتخذت طابعاً ملكياً (وفي الواقع، ولعدة قرون، كان الباباوات من الناحية الوظيفية)، بينما نجد أنّ الملكية في أوروبا في العصور الوسطى وحتى في وقت قريب، اتخذت طابعاً إكليريكياً. أما كون العلمانية الفرنسية كانت نشطة وقوية، فهو نتاج مقاومة الكنيسة الإمبراطورية التطلع لنتائج الثورة الفرنسية، وقبل ذلك مقاومتها محاولات القصر للسيطرة عليها. ولكن دعنا نتذكر أنّ الأمر قد تطلب أكثر من قرن، حتى سنة 1905، لكي يُنص على العلمانية في الدستور الفرنسي (المادة الأولى). لقد شهد القرن التاسع عشر سلسلة من النزاعات والمفاوضات بين الكنيسة الكاثوليكية والدولة الفرنسية في سياقات اجتماعية وسياسية بالغة السعة والتنوع. أما إيطاليا الموحّدة في القرن التاسع عشر فاحتاجت إلى التغلب على الدولة البابوية لاستكمال عملية التوحيد الوطني. الحال في إسبانيا أنها تعلمنت أساساً بعد فرانكو، وذلك غداة فترة من التعاون الوثيق للغاية بين الكنيسة الكاثوليكية والفاشية، وبأثر من تطور المجتمع بسرعة بالغة.
في الحقيقة، لا يمكننا في الحقيقة أن ننمّط ونبسّط، كيلا نغدو عرضة للهجمات السجالية والشتائم الأيديولوجية. أما بالنسبة إلى إشارتك أن النسوية قد ولدت من داخل الكنيسة، فلا أعلم بالضبط مقصودك.
[ النسوية
[ أتمنى أن تصح لنا مناسبة للعودة الى النقطة الأخيرة بما يخص النسوية.
تعليقاً على ما أشرت إليه في مداخلتك قبل الأخيرة، فالانسجامات الفكرية، بالفعل، بين الأصولية وبين الأصوات المابعدية تجاوزت ذلك الى نواح أكثر عملية. ما زلنا نتذكر العلاقات العملية التي كانت تجمع مثلاً، بين ميشيل فوكو والأصولي الخميني (وعندنا أمثلة عربية تعرفها في هذا الشأن) وتمجيد فوكو للنظام الإسلامي. وما زالت هناك دراسات تحاول فك طلاسم هذه العلاقات.
قولك «ليست العقائد هي الّتي تحرك التاريخ بل التاريخ هو الّذي يجعل العقائد تتلاءم لأزمنة وأمكنة محددة« يلخص كثيراً من الإشكالات الّتي تتعلق بالألوان الكثيرة الّتي تلبسها الأصولية بحسب السياق الّذي تعمل فيه. لكن ألا توافق معي أنّه من طبيعة الثقافة الأصولية ميوعتها، نظراً الى طبيعة التفكير الديني المرن؟ ومن جهة أخرى، هل الألوان الّتي تتلون بها الأصولية علاقة بالفضاء الثقافي العام الّذي تخرج منه الأصولية؟ في الحديث عن العلمانية دائماً ما تُدرس كثافة الأصولية بمدى انتشار وتموضع الثقافة العلمانية في المجتمع. أليس هذا ما يفسر كثافةَ الحركات والفكر الأصولي بسبب غياب العلمانية كثقافة عن الفضاء العربي؟ ربّما بإمكاننا سحب هذا حتّى إلى بدايات ظهور الحركات الإحيائية، قومية كانت أم أصولية. تحديداً، أليس هناك من ربط بين الفضاء الثقافي وبين الأصولية؟ ولا أعلم إذا كان لديك من كلمة حول تحديد مفهوم الثقافة في سياقنا…
يأخذنا هذا إلى مسألة العلاقة بين المعرفة والسياسة والمجتمع، وبشكل أكثر تحديداً إلى سوسيولوجيا المعرفة. وكما أشرت سابقاً، فإنّ الفكر الأصولي الاصلاحي ذرائعي للغاية، إنّه من الناحية المفاهيمية مراوغ ويربّع الدوائر. لقد أشرت مرات عديدة الى اعتقادي أنّه منذ الحرب الباردة، تحديداً منذ انتهاء الحرب الباردة، فإنّ البيئات الاجتماعية والثقافية لدينا قد تغيرت على نحو كبير باتّجاه نكوصي. وقد ذكرت تواطؤ المثقفين العلمانيين مزدوجي الوجدان. لا بد من الإشارة، على نحو حاسم، إلى النّزوع الديماغوجي نحو تدين استعراضي محافظ بل رجعي للدول العربية العلمانية: أسلمة الدولة للأفكار والخطابات وبعض مظاهر السلوك الفردي في العراق بعد عام 1991 (عندما اكتسب العلم العراقي تكبيره)، والتّقوى النابية للسادات، والتورّع المظهري أو المخلص للطبقة السياسيّة المصرية منذ عهد السادات مع وسم الجباه على نطاق واسع، ورعاية الدولة السورية للمؤسسات الإسلامية التعليميّة والاجتماعيّة والاعلاميّة الّتي بثت خطاباً بالغ الرجعية في الأخلاق والاجتماع، وصورة زين العابدين بن علي في كامل أرجاء تونس وهو في فوطة الإحرام تحت عنوان «حامي الحمى والحرم«. خلقت هذه الحالات وضعاً يكاد يكون شيزوفرينياً من الفصام بين الواقع والكلام حول الواقع. نحتاج أنْ نؤكد على الدور الحاسم للبنية التحتية ذات المحتوى الديني، التعليميّة والتواصليّة والتنظيميّة الواسعة، الممتدة عالمياً والّتي بنيت بسخاء ورعيت من قبل الهيئات والدول – الخليجية في الأساس – الّتي رعتها ومولتها، والإلهام الشعبوي والمادي والسياسي الّذي قدمته الثورة الإيرانية لكثير من اليساريين العرب المثقفين – وهي مسألة شبيهة بقضية فوكو الّتي ذكرتها أنت، هذا على الرغم من الاقرار بتعقيد العلاقة بين حماسه الأولي وموقفه اللاّحق. لقد أتت كل هذه الأمور مجتمعةً في حالة من التهتّك القيَمي والتشظي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الّذي نتج من اقتران خصخصة الدولة وما دعي بالترشيد النيو- ليبرالي، بما في ذلك تفكك نصاب الثقافة الجامعة التالية لضعف الفاعليات الثقافيّة والتربويّة والتعليميّة للدولة، ا ما خلق شرطاً مفتوحاً لتبلور وضع جديد الآن أمام أعيننا. وضع أتاح انتشار جملة من الأفكار والأمزجة والأهواء الإسلامية وانتقالها إلى المركز في حيوات الكثيرين.
بالتالي، أجل، ازدهر الفكر الأصولي في ظلّ هذه الظروف، فضلاً عن ازدهار نوع من القوميّة الثقافيّة الإسلاميّة المصابة برهاب الآخر الأجنبي، المؤكدة على الهويّة والحصريّة الوحشية للهويّة (حماس، حزب الله، وغيرهما ممن يمانع باسم الله). وكما تشير: الفكر الأصولي فكرٌ مراوغ، لأنّه غير متماسك، ولا يكتسب التماسك الكامل إلّا عندما يُدفع إلى منتهى التطرف، لأنّه قائم على الموازاة والموائمة بين نقائض. دعنا لا ننسى أنّ هذا التطرف يمثل حالة ثابتة في الأيديولوجية الدينيّة الرسميّة في السعودية وفي النظام التعليمي في هذه الدولة وغيرها من الدول، النظام الّذي تخرج منه جهيمان العتيبي وأسامة بن لادن والعديد من قضاة داعش وغيرها في سورية والعراق. حالم يتم التماسك في هذا الفكر، فهو يدفع بالمواقف الأصولية الأخرى الأقلّ ثباتاً نحو التطرف، حيث يتم التوصل إلى اتّساق وتماسك مريح، لا يزعجه التّفكر، وينفي البهجة عن الحياة والخوف عن الموت، ويسلم نفسه لإله مكفهّر.
حينما وجد التوافق بشأن مرجعية القرآن أو القرآن والسنّة (السنية أو الإمامية)، تأمنت قابلية الانتقال الى التطرف والقول أو بحصرية الأصول وتيسر الانتقال من السلفية الإصلاحية المعتدلة الى سلفية داعش، فبينهما استمرارية مفهومية واضحة. كما أشرت سابقاً بعبارات مختلفة، ثمة مستمر بين طرفين تجمع بينهما أولوية النص المقدس ومرجعيته: أحد الطرفين اعتبار القرآن كناية عن الحداثة، والآخر اعتباره نموذجاً ومخططاً ينبغي إلزام العالم والتاريخ على التوافق معه. القلة فقط، في العشرين أو الثلاثين عاماً الماضية قاومت هذا النزوع بالقول على نحو واضح أنه، في هذا اليوم وفي هذا العصر، فالنصوص التأسيسية المزعومة ليست ذات صلة من الناحية العملية وأنها معايير غير مشروعة وغير ضرورية، منتهية الصلاحية، لمناقشة أو تثبيت أو نقض هذه النقطة أو تلك. في الواقع، بلغنا مرحلة نجد أنفسنا مضطرين للتساؤل، في ظل هذه الظروف الراهنة، عما اذا كان ممكناً وجود اسلام معتدل على الاطلاق: لا يمتلك الاسلام المعتدل أجندة مفهومية ونظرية تختلف عن تلك التي يمتلكها الجهاديون ولو اختلفوا سياسياً واجتماعياً وأخلاقياً وسلوكياً، كما أن أصحاب ما يدعى بالإسلام المعتدل لا يمتلكون إشكاليات ومفاهيم مختلفة نوعياً خارجة عن الجامع السلفي بمعناه العام.
من الواضح اليوم أنّ الإسلام يُبرز إلى السطح أسوأ وأبشع ما يمكن أنْ تشي به الأديان التوحيدية، وإن الحجّة المتداولة أنّ داعش لا تمثّل الإسلام الحقيقي أو أنّ صورة المسلمين تتعرض للتشويه من الأمور المشكوك بها. من الصحيح أنّ الإسلام والمسلمين يمثلون سلة واسعة من الممارسات والأوضاع والأفكار والأهواء وأنّهم مختلفون في نواحٍ كثيرة حيث أنّ الإسلام هو ما يفعله المسلمون حقيقةً. لقد مارست المسيحية ومارس المسيحيون العنف والهمجية في لحظات شتّى: محاكم التفتيش وبعض الأشكال الراديكالية من البروتستانتية وحروب المائة عام وجيش الربّ في أوغندا ودور الكنيسة الأرثوذكسية في الحرب الأهلية في يوغوسلافيا و الكاثوليكية في الحرب الأهلية في اسبانيا. ومارستها بين بعض الجماعات الأصوليّة اليهوديّة في إسرائيل وغيرها كما حدث في عصر الملوك الحشمونيين وكما نراه في العهد القديم. أو مثلما ترغب في ممارسته بعض الجماعات الأصولية في اسرائيل. ليست داعش شذوذاً ولا انحرافاً عن الإسلام، بل بالأحرى شكلاً ممكناً له، يرُكز خاصّة على طابعه العدواني والجوانب الدمويّة في تاريخه، انطلاقاً من قراءة سلفية متّسقة لأجزاء من القرآن (إن العهد القديم أكثر وحشية، إلا أنّه ليس سوى قلّة من اليهود تأخذ به حرفياً، وعلى نحو متحفظ، وعلى نهج موجّه إلى جمهور خاصّ لا إلى العالم بأسره، كما أنّنا لا نجد بين السلفيين اليهود من يقتل عشوائياً أو يفجّر نفسه في الجموع والأسواق). ليست هناك صورة مشوّهة عن الإسلام عالمياً، بل أن هذا يؤخذ بجريرة ذاك استناداً إلى سلوكيات إسلاميّة غريبة ووحشيّة بكل المعايير. لا يمكن أن نلقي باللّوم على الإسلامو- فوبيا (رهاب الإسلام). هو موجود فعلاً، ولكن ليس بالضرورة بجرعة أكبر من عداء الأصوليين للمسيحية والممانعين للغرب دونما توصيف أو حصر، إنّ رهاب الإسلام ما كان له أن يسبب ردود الفعل عند بعض الغربيين لولا سلوك المسلمين أنفسهم. (…)
[ النظام السوري والاسلاميون
[ إذن من الواضح أن لسلطة الدولة في أغلب البلدان العربية اليد الطولى في استكمال تدمير الفضاء السوسيولوجي. لا أعلم بالضبط العنوان الذي يمكن أن نضع تحته مثل هذه الديماغوجيات الدينية المحافظة للدول «العلمانية»، سيما هذه الديماغوجيات الدينية المحافظة للدول «العلمانية»، سيما في بلدين مثل سورية وتوس، اللتين أشرت اليهما من بين دول أخرى. ألا تجد حرجاً في تسميتها بالعلمانية بعد كل ما فعوله في المساهمة في النكوص والإفراغ الذي بدأت الأصولية تملأه منذ عقود- هذا إن لم نتحدث عن بنية هذه الأنظمة السياسية أصلاً؟ لقد عاصرت الصراع بين إخوان سورية وبين النظام السوري، ورأيت كيف كان النظام يضرب الإسلاميين بيد، واليد الأخرى ممدودة لإسلاميين من نمط آخر، لا بل المساهمة في أسلمة المجتمع ككل كما أشرت منذ قليل (حركات بناء الجوامع و»معاهد الأسد لتحفيظ القرآن» والحد من المراكز الثقافية ودور السينما، والتركيز على إعادة انتاج التراث في الاعلام واعادة أسطرته، لهي مجرد أمثلة من ضمن سياق أسلمة كبير. ما أنتج لاحقاً حركات مثقفة رهيبة سواء أكانت من داخل أو من خارج عباءة النظام السياسي: بذريعة colonisationde تقوم هذه الحركات بكل ما له علاقة بـIslamisation. النظام السوري يتبع الأسلوب نفسه لكن بأشكال أخرى: الدفاع عن الاسلام كهوية لسورية، وفي الوقت عينه يضرب الاسلاميين. هو نفسه اليوم الذي يحاول «مرجَعَة» سلطة الإسلام إليه (على الأقل من خلال انتاج قرآن خاص به، كما حدث في بدايات الأزمة السورية)، هو نفسه اليوم من يقوي سلطة «القبيسيات» الدمشقيات، مع العلم أنه من داخل هذا الجناح النسائي الأصولي الإسلامي «تنشق» فتيات ونساء الى الضفة الأخرى في معارضة النظام. هذه العمليات هي بالضبط ما تشير إليه أ. عزيز بالديماغوجية الإسلامية المحافظة. ليست نيتي أن أنجرّ الى سلطة الألقاء والأسماء، لكن في الوقت ذاته أليس ثمة إشكال علماني في دعوة هذه الأنظمة بالعلمانية، وهي التي تساهم في تفريخ الأصولية؟ الآن الإسلاميون لا يتخذون مسلكاً في الهجوم على العلمانية إلا من خلال التذرع بسلطات الأنظمة «العلمانية» هذه (هناك بعض الأصوات المثقفة السورية تشارك الإسلاميين هذا النفَس في الهجوم على العلمانية والعلمانيين، لكن بأساليبها الملتوية، بحجة لفظة ديماغوجية: «علمانويين». ياسين الحاج صالح هو أحد هذه الأصوات في هذا الخط الهجومي، ومعه لائحة عريضة من المثقفين). هل لديك من تعليق على هذا؟
– دعنا لا ننظر الى هذه التسميات كما لو كان المرء يقدم شهادات حسن السلوك. إن وسم العلمانيين بالعمانويين، وعطف ذلك على رعاية الاستبداد، ليس إلا نقضاً خطابياً للعلمانية يتسم بموقف مضطرب من طرف علمانيين معطوفين على الشعبوية. القول بأن النظام السوري علماني، رغم رعايته رغم رعايته النكوص الاجتماعي، الطائفي والقبلي ولاديني، ليس قولاً لصالح العلمانية ولا ضدها. أدرك تماماً الجدل الذي تشير إليه أنت، وأنا شخصياً تعرضت للنقد في هذا الشأن، والزعم بأنني موالٍ للنظام أو مثقف استبداد كما يقال، مع قدر كبير من التجني والاختلاق عليّ؛ والإدعاء بمعرفة مواقفي على نحو غريب لست قادراً على التعرف عليه، إذ أراقب في السنوات الأخيرة تفسّخ النظام الى نظام مسلح للصوصية والابتزاز والسطو الذي أخذ الدولة رهينة إرجع الى ما سبق أن قلته حول اختلاط الرسمي باللارسمي. هذا الكلام سهل جداً ومجاني. ما يترتب عليه هواً أنه، موضوعياً، رديف للتيارات الأصولية. أحياناً بوعي تماماً، وأحياناً من دون وعي. ياسين الحاج صالح، كما استشف من الكتابات الأخيرة، قد راجع رؤاه حول الإمكانيات الثورية للقوى الإسلامية، وأراني متأكداً من أنه على وفاق معي الآن حينما أجزم بأنها ليست من جانبنا نحن السوريين، وأن الخيارات السياسية (هذا اذا حق لنا أن ندعو خيارات في هذه المرحلة من الزمن وبعد كل ما حدث) ليست واضحة.
لطالما ارتبت بالجماعات الأصولية. خلال فترة ما أطلق عليه حركة المجتمع المدني في دمشق، وربيع دمشق الذي سبق الربيع العربي، بعد وقت قصير من استلام بشار الأسد السلطة، أوضحت وجهة نظري (مع صديقي فيصل دراج) في جريدة «الحياة»: أن النهج المشجع على استجلاب القوى المعادية للحداثة والديمقراطية والعلمانية، في اشارة الى الاخوان، الى ما يسمى بـ»التسويات التاريخية» في ظل ظروف غير واضحة، ومن موقف الضعف تنظيمياً، والذهاب الى ان الديموقراطية شعار فضفاض دون توصيف، تعويذة تشفي كل العلل الاجتماعية والسياسية كل ذلك من السذاجة بمكان، وكان لدى العديد تشاطر وفهلوة وما ندعوه بالعامية «زعبرة»، على منوال ما قلته سابقاً حول تعامل الكثير من المثقفين العرب مع العلمانية في العقود الثلاثة الماضية.
أكثر سذاجة هو الشعار السخيف الذي يعلن بالسبابة المرفوعة أن «الإسلام هو الحل». موقف الآن كموقفي في أيام ربيع دمشق حول الرؤية الساذجة عن المجتمع المدني، باعتباره ببساطة ما هو غير الدولة الاستبدادية (أو في تونس بن علي، ما هو ليس إسلامياً)، وحول الترهة الشبه سوسيولوجية الذاهبة الى أن المجتمع ليس متمايزاً عن الدولة وحسب، بل هو مقابل لها حتى التناقض. هذه نظرة شائعة، روج لها أستاذ علم الاجتماع السوري برهان غليون الذي تحدث بنحو غريب عن «الدولة ضد الأمة» وفق اطلاقية ايديولوجية تحول دون أي وصف سوسيولوجي لأي منهما، أي المجتمع والدولة. هناك كثير من الانتقادات على مواقفي ولكن قناعتي بها راسخة. قبل عدة سنوات مما داهمنا من الحوادث الجسام والفتن في السنوات الأخيرة، كنت مقتنعاً أن الخطابات الإسلامية (وكان المرء آنذاك مهتماً بالإخوان أكثر من داعش) حول الديموقراطية هي شعبوية أكثر منها ديموقراطية، أي هي استبدادية المآل، وأن مثل تلك القوى ليست من الشركاء في أية تسويات تاريخية تبتغي المصلحة العامة. لقد قيل في الردود النقدية أنني أقوم بـ» الحكم على النوايا». هذه تهمة صائبة أتحمل وزرها، ذلك أنني قدمت في هذا الموقف حكماً سياسياً، والحكم السياسي دون الحكم على النوايا ساقط، ولا تنطوي الأحكام السياسية على المجاملة. أعتقد أن ما حدث في مصر في ظل حكم مرسي دليل كاف على ذلك: جوع الى السلطة، جوع كأنه خلقي لا يمكن اشباعه أبداً، ما نسميه «العين الجائعة» التي تروم تمام الاستحواذ، جنباً الى جنب مع شعور هؤلاء الإخوان بأهلية وبأحقية حصرية، فضلاً عن خطاب مستفيض في المظلومية وأيديولوجية تستبدل الشعب بالإخوان (التمثيل كأن الاستبدال: تمثيل الإخوان لجوهر المصريين والمسلمين، وهكذا دواليك). كان شخص مرسي سبيلاً للاستيلاء على الدولة: فهو من الناحية الإسمية رئيس للجمهورية، بيد أنه كان في الواقع الفعلي ممثل الإخوان في مكتب الرئاسة.
ثمة نقطة أخيرة تتعلق بسؤالك عن الثقافة: إن الثقافة الرومانتيكية عن الأصول والجواهر والعصور الذهبية قابلة للتعليب والنقل من مكان الى آخر: يمكن أن تشير الى الأديان والأمم والطوائف أو القرى. وقد تعرضنا لها جيلاً بعد جيل في مناهج مدارسنا، بالإشارة الى الأمة العربية. التحول الى الدين هنا سهل: ازالة لفظة «العربية» ووضع لفظة «الإسلامية» محلها. وقد أخبرني أحد الأستاذة المعروفين أنه اثناء اعطاء دروسه في جامعة خليجية لا يحتاج الى التحضير لمحاضراته. جل ما عليه فعله استخدام المنهاج المعد لجامعة دمشق مع استبدال عبارة «العربية» بـ»الإسلامية».
المستقبل