صفحات العالم

حول الاستعصاء الراهن


حسن شامي

هل يكفي الاعتقاد بلا أخلاقية النظام السوري وبصلف حلوله الأمنية لتوليد قوام سياسي يحفظ الرابطة الوطنية ويحول دون تمزق النسيج الاجتماعي والأهلي؟ هل تكفي الإدانة الصارمة لنمط فئوي استئثاري من السلطة يخلط بينها وبين الدولة للحصول على شروط تشكل دولة قانون ومؤسسات، يتساوى أمامها وفي نظرها جميع المواطنين؟ هل تتيح لعبة القوى المتصارعة داخلياً وإقليمياً ودولياً، وبالنظر إلى اعتبارات مصالحها وأولوياتها وربما أهوائها، نشأة جسم مؤسس للديموقراطية يحفظ الحد الأدنى من السيادة الوطنية ومن تماسك مجتمع متنوّع؟ نرجح أن كثيرين من متابعي الوضع السوري يطرحون على أنفسهم، خصوصاً في لحظات المراجعة الحميمة، هذا النوع من الأسئلة القلقة والمقلقة. ثمة بالتأكيد من يفعل ذلك ويده على قلبه والدموع في عينيه. هل يجوز الجمع بين تأثيم نظام تسلطي وبين الخوف على سورية بلداً ومجتمعاً؟ هناك ما هو أدهى وأصعب: هل يمكن أصلاً طرح مثل هذا السؤال من دون التعرّض لنار اتهامات متقاطعة بالتواطؤ أو بالعمالة أو بالمسايرة أو انعدام الحساسية؟

سنضع جانباً ضروب الابتزاز الأخلاقي الجاهز، خصوصاً في ظروف التأزّم الواعدة بالمزيد من التأزّم ومن اشتداد حدّة الاستقطاب والاصطفاف.

تصدر هذه الأسئلة عن مخاوف واعتقاد ثابت يتعدّى مقولة إنّ القتل يستدعي القتل ويستجلبه، وهو أنّ العنف ليس أعمى فحسب بل يعمي البصر والبصيرة. وتستقي هذه المخاوف صلاحيتها من انطباع تدعمه الوقائع وهو أنّ الأزمة السورية تتجه نحو مزيد من الاستعصاء على حل مقبول من أطراف النزاع. والاستعصاء، كما نعلم، يحضّ على الجموح وسياسات الهروب إلى أمام ويوفر مناخاً ملائماً للحلول الشمشونية (عليّ وعلى أعدائي يا رب).

باختصار يفتح الاستعصاء الباب لحرب أهلية لا تبوح باسمها وقد تتخذ شكلاً خاصاً يتراسل مع خصوصية الوضع السوري، اجتماعاً وتاريخاً ودوراً وموقعاً. ومن الدلائل على هذا الاستعصاء، في وجهه الداخلي، الاستقبال الفاتر لقرار السلطات السورية إجراء استفتاء بعد أسبوع على تعديلٍ للدستور يقر بالتعددية السياسية ويلغي المادة الثامنة التي تخول حزب البعث قيادة المجتمع والسلطة. قد يكون صحيحاً أن هذا التعديل تأخر كثيراً، ناهيك عن أن آلية إخراجه وطريقة تظهيره تنمّان عن إصرارٍ على التحكم بمسار الأمور أكثر منهما عن تنازل ضروري وصحي يقطع مع الوضع السابق. لو حصل هذا التدبير قبل تسعة أشهر لجاز ربما اعتباره حدثاً يستجيب بعض تطلعات الشعب السوري ولأتاح، ربما أيضاً، إطلاق عملية رسم لخريطة سياسية جديدة. يبدو القرار الاستفتائي حتى الآن بلا صدى وكأنه ليس حدثاً. يضاف إلى ذلك أنه يأتي في ظرف يطغى النزاع الدولي على ما عداه في الشأن السوري، وفق ما يظهر من مسارعة الإدارة الأميركية إلى اعتبار الاستفتاء أمراً مثيراً للسخرية فيما سارعت روسيا إلى اعتباره خطوة إلى أمام.

ومن الدلائل تصويت الأمم المتحدة بغالبية ساحقة على قرار يدين القمع وانتهاك حقوق الإنسان في سورية، إضافة إلى موافقة الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار غير ملزم بتأييد المبادرة العربية. فهذا التصويت من شأنه فقط تشديد العزلة على السلطة السورية وزيادة الضغط على دول كبرى كروسيا والصين وإحراجهما أخلاقياً. لكن تصويت 12 دولة ضد القرار وامتناع 17 عن التصويت ليسا أمراً تافهاً. وسوق المناورات مزدهرة.

هناك إذاً عوامل تساهم في استعصاء الأزمة السورية بطبقاتها الثلاث الدولية والإقليمية والداخلية. ففيما يتعلق بالبعد الدولي بات واضحاً أنّ روسيا لن تقبل بأي حل يخرجها من الشرق الأوسط أو لا يحفظ لها مكاناً في منطقة مهمة جغرافياً واقتصادياً وسياسياً. وفي خلفية التنافس الجاري عودة إلى «اللعبة الكبرى» التي كانت أفغانستان مسرحها في القرن التاسع عشر، بين روسيا القيصرية وبريطانيا الإمبراطورية. ولا يفيد كثيراً التركيز على البعد الأخلاقي. ففي هذه النقطة يمتلك كل طرف ما يدين ويحرج به الآخر. للدول مصالح فقط. الأخلاق تأتي لاحقاً، وتكون أحياناً في الواجهة مسبقاً لخدمة المصالح ولتعبيد الطريق إلى جهنم وتبليطها بالنيات الحسنة.

الطبقة الإقليمية للاستعصاء تتعلق بلعبة شد الحبال بين ما يسمى معسكر الممانعة الذي تقوده إيران وبين تركيا الساعية إلى موقع إقليمي يوصف بالوسطية وباستئناف الصلات التاريخية المتعددة الوجوه والمتفاوتة الثقل بين العرب والعثمانيين ومسلمي آسيا الصغرى والوسطى. وقد يكون مفهوماً أن تتراجع نبرة تدخل تركيا بالنظر إلى حجم تبعات موقفها. وهناك بالطبع الجامعة العربية ومحاولات بعض الدول فرض التطابق بين منظورها الخاص والفكرة والمصلحة العربيتين. ونقع ها هنا على مفارقات بليغة، في مقدمها غياب معايير مشتركة ومتفق عليها يمكن باسمها محاسبة هذا النظام أو ذاك على مخالفته أو انتهاكه قواعدَ عمل، يمثل الانصياع لها مصلحة عليا تتعالى على اعتبارات المصالح الضيقة.

الطبقة الداخلية تعنينا أكثر من غيرها. فهي بيت القصيد لأنها مهددة – في ظل التدويل والأقلمة المتزايدين- بفقدان مرجعيتها وتقلص هامش استقلالها. ويأتي دخول تنظيم القاعدة على خط المواجهات المسلحة ليزيد أخطار فوضى أهلية وثأرية على الطريقة العراقية، وفق ما يستفاد من تصريح مسؤول استخباراتي أميركي بارز ومن تقارير أمنية عراقية، إضافة إلى دعوة أيمن الظواهري الأخيرة.

لقد بنى النظام السوري سلطته، مثل سلطات عربية كثيرة، على الغلبة الفئوية المقنّعة بشبكة واسعة من المستفيدين والمستزلمين. وجرت محاولة لتعديل الصورة في ما عرف بربيع دمشق، لكنها لم تعش كثيراً. وفي كنف انفتاح اقتصادي ممسوك نشأت طبقة وســـطى حديثة وعصرية في مدن معينة كحلب ودمشق، لكنها بقيت عموماً بلا صوت فيما اتسعت دائرة المناطق والفئات المهمشة. هناك بالطبع مقدار من الإجحاف لدى توصيف السنّة بأنهم طـــائفة، إذ إنهم يشكلون ســــوسيولوجياً غالبية السوريين ومركز ثقل تاريخياً عريقاً. والحال أن «الأقليات» بدأت تحظى بمشهدية ســــياسية مستجدة منذ «التنظيمات» العثمانية وتعاظم النفوذ الغربي في المشرق. وازداد هذا الحضور قبل الاستقلال وبعده بالتوازي مع انتشار الفكرة الوطنية والعربية الجامعة. ولا تفعل عــسكرة الانتفاضة التي ربما سعى النظام إليها، سوى تعميق الخوف من غلبة مقلوبة. ويعني هذا أن المسافة لا تزال كبيرة بين الإنجاز المعنوي والأخلاقي للانتفاضة وتحققها السياسي.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى