صفحات سورية

حول «اللاتضامن» مع ضحايا الثورة السوريّة/ داريوس الدرويش

 

 

تسبّب التضامن الشعبي الفرنسي والعالمي مع صحيفة «شارلي إيبدو» الفرنسيّة الساخرة بظهور اختلافات كبيرة في مواقف السوريّين تجاهه، المواقف التي يُعنى بها هذا المقال هي تلك الرافضة للتضامن، أو تتعمّد اللامبالاة تجاه الحدث، والصادرة عن سوريّين يقفون مع مبدأ حريّة التعبير، وهو المبدأ الذي نفترض استهدافه في ذلك الهجوم.

ينطلق هؤلاء من حجج من يمكن اختصارها في سياق واحد يقول أنّ لنا، كسوريّين، قضيّة راهنة (العاصفة الثلجيّة أو المأساة السوريّة بشكل عام) أكثر إلحاحاً من قضيّة «شارلي إيبدو«؛ فإن كان المستهدف في الأخيرة هو الحق في حريّة التعبير، فإنّ شروط الحياة نفسها هي المستهدفة في قضيّتنا، وعليه فإنّ المنطق، كما الواجب، يُحتّم على السوريّين التضامن مع قضيّتهم فقط، أو على الأقل أن تأتي في رأس سلّم أولويّاتهم، هذا إن بقي مجال للتضامن مع قضايا أخرى.

تبدو هذه المقاربة صحيحة إلى حدّ بعيد، فمن البديهيّ أن تكون الأولويّة لتلبية الحاجات الفيزيولوجيّة على أيّ حاجة أخرى، نعرف هذا سواء كنّا مطّلعين على (هرم «ماسلو» للحاجات) أم لا، إلا أنّها تُغفل أحد الشروط الأساسيّة لحصول التضامن. التضامن مع من نعتبرهم ضحايا جريمة ما هو (فعل) للتعبير عن مشاعر الحزن والتحدّي والإدانة… الخ، وتجد سبيلها للتعبير عادةً في «لحظة غضب» وقت الحادثة أو في زمن قريب منها، ليُكتفى به إلى هذا الحد ويُصار بعدها إلى اتّباع الاجراءات العقلانيّة، سواء أكانت تحقيقاً في جريمة قتل الصحافيّين مثلاً أم تحرّكاً دولياً لنزع السلاح الكيماوي. بهذا المعنى يصبح التضامن حالة «مناسباتيّة» لا يمكن أن تتوفّر دائماً، و تحتاج ألا يكون الحدث المحفّز لها معهوداً أو مكرّراً مسبقاً نسبيّاً. فكما أنّه من غير الممكن أن نشعر ببهجة ممارستنا لطقوس العيد لو كانت «كلّ أيّامنا عيداً»، كذلك لو كانت أيّامنا كلّها مصائب لن يمكننا التعبير باستمرار عن الحزن أو التحدّي المترافقين معها، بل لن يكون مفيداً إبقاء أنفسنا غاضبين دائماً بدل البحث عن حلول عقلانيّة لتلك المصائب. وفي الثورة السوريّة أمثلة كثيرة على هذا، منها تضامن الأهالي (من غير المشاركين في المظاهرات) مع ضحايا الثورة؛ حين كانت المظاهرة (المطلبيّة) التي لم يتجاوز عددها خمسة آلاف متظاهر، تستنفر غالباً مشيّعين (متضامنين) لضحاياها يتجاوز عددهم عشرة أضعاف المتظاهرين، خاصّة في بدايات الثورة، ولكن لاحقاً، ومع تزايد وتيرة القتل، تضاءلت أعداد المشيّعين كثيراً حتى ما عادت تقارب عدد المتظاهرين، ليس لأنّ الأهالي لم يعودوا مهتمّين أو مقدّرين للتضحية أو أصبحوا بليدين تجاه الموت، بل لأنّهم، إضافة إلى عوامل أخرى، رأوا «عدم الجدوى» في التضامن مع حدث شبه يومي.

ولا تمييز في التضامن هنا بناءً على «أولويّة» أو «خطورة» مفترضة للقيم الإنسانيّة المستهدفة في حدثٍ معيّن إلا بالحدّ الأدنى الذي يشكّل فيه الحدث استهدافاً مباشراً لهذه القيم، وخاصّة حين تكون المقارنة بين الحق في «حريّة التعبير والرأي» وبين «الحق في الحياة»، فكلا الحقّين مرتبطان بالوجود الإنساني نفسه وبمعنى هذا الوجود، ومرتبطان ببعضهما البعض إلى الحدّ الذي يصعب فيه اليوم ذكر كلمة «الحياة» من دون اتباعها بكلمة «الحرّة». فالتضامن القوي مع «شارلي إيبدو» والضعيف مع عموم الحالة السوريّة ليس تفضيلاً لـ»حريّة الرأي والتعبير» في الأولى (إذ أنّ «الحق في الحياة» ليس هدفاً بذاته في هذه الحالة عند الإرهابيّين) على «الحق في الحياة» (المستهدفة لذاتها بغرض الإبادة الجماعيّة) في الثانية، بل لأنّ عامل «المناسباتيّة» لا يتوفّر في المأساة السوريّة المستمرّة منذ ما يقارب الأربع سنوات من القتل بكافّة الأشكال والطرق، والتي تأتي العاصفة ضمن سياقها لتكون طريقة أخرى للموت تضاف إلى ما سبقها. هذا لا يعني أنّ الحزن غير موجود، ولكنّه لا يستدعي حالة فوران المشاعر تلك. فالمتوقّع بشكل أساسي من التضامن مع ضحايا العاصفة مثلاً هو إدانة إهمال مؤسّسات المعارضة في تلبية احتياجات مخيّمات اللاجئين، وإدانة الحرب التي أوجدت حالة اللجوء. لا جديد في الأمر إذاً، فهذا هو بالضبط ما كان يتمّ فعله على مدار عمر الثورة السوريّة تقريباً.

ولا بدّ من التنويه أخيراً أنّ افتراضاً من قبيل «دماء السوريّين رخيصة عند الآخرين» قد لا يكون مفيداً في شرح الفرق بين التضامنَين، بل قد يكون ضارّاً تماماً. هذا الافتراض هو اتّهام صريح للآخرين بالعنصريّة، فقط لأنّ «الآخرين» هم شعوب وحكومات تضامنت مع 12 قتيلاً من «شارلي إيبدو»، ولم تتضامن مع مئات الآلاف من قتلانا! الضرر من افتراض كهذا لا يكمن فقط في مجرّد كونه اتّهاماً باطلاً يستند إلى التنكّر لحجم المساعدات الماليّة والسياسيّة وحتّى العسكريّة التي قدّمتها كثير من تلك الشعوب والحكومات للثورة السوريّة، ويتجاهل العوامل الموضوعيّة اللازمة لاستنفار تضامن ما، بل يتجاوزها إلى ما يمكن اعتباره دعوة للعنصريّة والكراهيّة، إذ إنّ تبرير كراهيّتنا اللاحقة للآخرين تستند غالباً إلى ترويج افتراض كراهيّتهم المسبقة لنا. إجمالاً، فإنّ مقاربة كهذه لمسألة التضامن مع القضيّة السوريّة قد تُظهر أصحابها أمام الآخرين على شكل أناس عنصريّين وفاشلين لا يتحمّلون مسؤوليّتهم؛ أناسٌ يرون (بغير وجه حق) أنّهم فشلوا في تحقيق التضامن مع قضاياهم، فهربوا من تحمّل مسؤوليّتهم تجاه هذا الفشل ولجأوا إلى العنصرية لتبريره.

( كاتب كردي سوري )

المستقبل

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى