صفحات سوريةطيب تيزيني

حول “توقيت الثورة”


د. طيب تيزيني

يكثر الحوار في هذه الأيام القاسية في سوريا حول توقيت اندلاع الثورة السورية، فتبرز حالات من الاستقطاب بين الجمهور السوري الواسع لصالح هذا الموقف، أو لصالح موقف آخر يرى في ما حدث منذ سنة وما يقترب من ثلاثة أرباع السنة، أمراً لم يكن تأجيله محتملاً. ونلاحظ أن أحد أسباب نشوء هذا الحوار، الذي يبلغ أحياناً صيغة صراع بين أطرافه، تحدد في اتساع النكبة السورية وتعمقها من خلال تعاظم مظاهر التخريب والتدمير والقتل والتهجير والخطف.. الخ ها هنا، وأصحاب الرأي يعلنون بلغة الندم والتوبيخ أن تسرعاً قد ظهر في لجوء “الشباب وغيرهم إلى الخروج إلى الشارع”، وكان أحرى بهم أن “يضعوا ملحاً على الجرح” وأن يسعوا إلى رأب الصدع بنوع من المصالحة مع الآخرين، بل إن رأياً آخر يقوم على القول بأن مواجهة النظام، على نحو مباشر، ستعقد الموقف، ذلك أنه رأي النظام، ظل يعلن – على امتداد أربعة عقود – أن استراتيجيته المبدئية تقوم على الشعار الماورائي المغالب للتاريخ والذي هو القائل بـ “الأسد إلى الأبد”، بل ذلك الذي رفع مع أحداث الانتفاضة الراهنة، نعني “إما الأسد، وإما حرق البلد” أو الأسد أو لا أحد”.

هكذا راح الموقف يتشعب بكيفية مفتوحة على عدة آراء ووجهات نظر أهم ما يربط بينها الاعتقاد الصريح أو الخفي بأن مواجهة النظام خصوصاً بعد إرغام الانتفاضة السلمية، في أساسها، على الانتقال إلى عسكرتها، مثلت استراتيجية خاطئة تُنتج الخيار الذي يطرحه جمهور من الناشطين أو الباحثين، أو – كذلك – دُعاة للنظام، ويقوم على السؤال التالي: هل نفرط بالبلد، حيث يذهب إلى التصدع تحت تأثيرات التقسيم أو التفكيك طائفياً أو مذهبياً أو غيره، لصالح ثورة أو انتفاضة تفقد مصداقيتها وأهميتها ودورها، إذا جاءت في سياق تلك التأثيرات؟ ها هنا عند مفترق الطرق هذا، يجدر بنا التدقيق في ذلك عبر ملاحظتين اثنتين، أما أولاهما فتفصح عن نفسها في الإشارة إلى أن النظام الأمني القائم على الشمولية والأبدية، كما على التهديد القاطع بأن أي انتفاض مما يعتبره “حقوقاً أبدية له” من شأنه أن يدمر كل شيء، ومن ثم فإن الطريق السلمي والسياسي لتحقيق مشروع وطني ومدني وديمقراطي في سوريا، لم يكن ولن يكون – وفق ذلك – محتملاً، مما يسقط التأسف على أن طريق الانتفاضة أو الثورة المليئة بالأخطار، حال ويحول دون اكتشاف “طريق آمن” لتحقيق شعار الإصلاح والتحديث والتطوير، الذي تحدث عنه بشار في “خطاب القسم” الذي قدمه عام 2000، أي أن التأسف المذكور سيعلن عن نفسه حينذاك بمثابته افتراضاً خاطئاً، بل زائفاً، بالاعتبارين المنهجي والسياسي، المنظور إليهما من موقع النظام الأمني السوري المذكور.

أما الافتراض الآخر، الذي طرحه آخرون واعتبروا، بمقتضاه، أنه كان من الأجدى أن لا يُشعل الشباب ومن معهم ما أشعلوه تحت شعار الحرية والكرامة والعدالة في يوم الخامس عشر من مارس، لأن ذلك جاء ليس في الوقت المناسب، بل فرض نفسه في وقت لم ينضج فيه بعد “الحدث التاريخي الكبير”، ولذلك أخذنا نواجه الأخطار العظمى في سياق ذلك الفعل، ومن ثم وفي ضوء ذلك وضمن مقتضاه، كان الخطأ والخطر من وراء التسرع في ذلك. ويكفي القول هنا رداً على ذلك، بأن الأمر لو ظل “مؤجلاً لوقت مناسب” على ذلك النحو، كما كان هذا التأجيل إلا قوة جديدة متعاظمة للقوى الأخطبوطية في النظام المذكور والممثلة بفطاحل الفساد والإفساد والاستبداد.

فهل ذلك يعني أن اشتعال زمن الانتفاضة – الثورة جاء تماماً في وقته؟ من موقع مفاهيم التاريخ المفتوح والحتمية التاريخية والجدلية المفتوحة (وهي غير القول بحتمية مطلقة وكلية وذات بُعد ميكانيكي يكون حضور البشر فيها غائباً أو باهتاً): يتضح أولياً أن انطلاقة تلك الانتفاضة جاءت حقاً متوافقة مع حيثيات التاريخ الاجتماعي والسياسي في سوريا، دون أن يلغي ذلك ما يحدث من أخطاء وصعوبات، ولعل ما رفعه شباب ألمانيا وفرنسا في أحداث الستينيات من القرن المنصرم ما يفي بالغرض.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى