حياة السوريين اليومية
حسين العودات
يحلل المحللون، ويراقب المراقبون، ويتحدث السياسيون، وتتصارع المنظمات الإقليمية والدولية، وتنشغل وسائل الإعلام بالشأن السوري، وجميعهم يبحثون في الكليات، والقضايا الرئيسة، والتوجه العام، والآفاق المقبلة، وبالسلم والحرب والتأثر الإقليمي والدولي بما يجري في هذا البلد، ولكنهم جميعاً ينسون أو يتناسون أموراً يرونها صغيرة وهي الأكبر بالنسبة للسوريين وأعني بها ما يلاقونه يومياً من تضييق واستفزاز وغلاء أسعار وخوف وإهانات وتهديد وقتل ومختلف أنواع الانتهاكات لكرامتهم وحياتهم وهدوء بالهم.
يمر السوري بين بيته وعمله، مهما كانا متقاربين، على عدد من الحواجز داخل البلدات والمدن لايقل عن ثلاثة وقد يصل إلى عشرة حواجز، وأحياناً يكون الفاصل بين الحاجز والآخر خمسين متراً، ومع ذلك، وفي كل مرة يقوم جنود الحاجز بتفتيش سيارته والتدقيق في هويته وسؤاله ما يشاؤون من الأسئلة، وأحياناً شتمه بدون سبب، ويتعرض لمختلف أنواع الاتهامات.
ويلام لأنه من هذه المدينة أو تلك باعتبارها من المدن الثائرة، ولنا أن نتصور الخوف الذي يتلبسه عند كل حاجز، عندما يتذكر أن للجندي الحق في إطلاق النار عليه بدون سبب ودون مساءلة، ولا يجوز محاكمة رجل الأمن إلا بموافقة وزير الدفاع الذي لم يوافق حتى الآن على محاكمة أحد.
يواجه السوري صغيرات أخرى عندما يريد شراء حاجيات أسرته اليومية، ويجد أن أسعارها ارتفعت بين 20 و 50% عن اليوم السابق، دون مسوغ منطقي أو موضوعي، وإذا سأل البائع عن سبب ارتفاع الأسعار يجيبه بعنجهية هذا هو الموجود واذهب إلى غيري، وأحياناً يشير البائع إلى التضخم وارتفاع سعر الدولار بالنسبة لليرة، وكأن (جرزة البقدونس مستوردة من أميركا).
من الصغيرات أيضاً عندما يراجع المواطن السوري دائرة من دوائر الدولة بعد أن يمضي أكثر من ساعة بين بيته ومكان الدائرة بسبب الحواجز فيجدها خالية من الموظفين، ويقال له إنهم لم بستطيعوا اليوم الالتحاق بأعمالهم فعليك المجيء غداً. ويضطر أحياناً إلى التردد عدة أيام على دائرة الدولة ليجد موظفاً لايهتم به ويعامله (بقرف وتثاقل وقلة أدب).
لايجرؤ السوري غالباً على الخروج من بيته بعد السابعة أو الثامنة مساء، خوفاً من الحواجز أو العصابات أو الباحثين عن فدية، وتتضاعف مصيبته إذا كان قد نسي بطاقته الشخصية في بيته، وتتضاعف أكثر إذا كانت زوجته إلى جانبه، ويباشر الحاجز الأمني توجيه الكلام البذيء إليها بدون سبب، وزوجها لا يلوي على شيء. بل إذا تحركت حميته تكبحه زوجته وتطلب منه الهدوء، باعتباره أقل الخسائر.
يعتبر السوريون أن كل ما هو أقل من القتل هو من الصغيرات، وعليه، فليس نادراً أن يعود السوري إلى بيته ليجد أسرته مكدسة أمام البيت، وقد سُرقت محتوياته من قبل جهات أمنية فتشته وتأكدت من خلوه من أي شيء مخالف وبطريقها أخذت كل ما فيه. وهذه تبقى على أية حال أصغر من أن يجده محروقاً أو مدمراً بحجة أنه بناء عشوائي مخالف، وهذا ما جرى في عدة أحياء دمشقية يقال ان عدد سكانها يتجاوز بضع مئات من الآلاف.
أصبح أمراً عادياً أن تُقطع الكهرباء يومياً لبضعة ساعات ودون أن يعلم المستهلك عن موعد القطع أو موعد الوصل، ولايهم إن كان في منطقته من يستخدم أجهزة صحية تحتاج للكهرباء أو أجهزة أخرى يحتاجها في حياته اليومية، أما الوقود فالحصول عليه أمر شبه مستحيل مثله مثل الغاز حيث تضاعفت أسعارهما.
من الأمور العادية والدارجة أن يعطل سائق التاكسي عداد السرعة ويقرر بنفسه أمرين: الأول هو قبول أو عدم قبول نقلك إلى المكان الذي تريده، والثاني هو أن يقرر الأجرة التي يريد، والويل لمن ينبس بأي كلمة احتجاج فلم يعد لشرطة المرور أهمية، وحتى الدولة تجدها غائبة باستثناء الجانب الأمني من مهماتها، فهو حاضر بكثافة ووحشية.
كان الروائي الفرنسي الشهير (أنوريه دي بلزاك)، وهو من مؤسسي النظرية الواقعية في الأدب، يهتم في كتاباته بالأشياء الصغيرة، التي ما أن تلتقي وتتراكم حتى تصبح كبيرة، وتعطي صورة حقيقية وجادة وواقعية عما تتناوله من أحداث، أي أنه كان يستقرئ الواقع والأحداث، كما كان يعمل الفيلسوف سقراط الذي كان يولد النظرية من أجزائها كما كانت أمه (القابلة) تولّد النساء.
وذلك على عكس ما يفعله (محللونا) السياسيون الذين ينهجون نهج الاستنتاج، فيبدؤون بالكبيرات، وبعدها لا يستطيعون توصيف الصغيرات، ظناً منهم أن الكلام الكبير هو أكثر إقناعاً، أو أنه يثير دهشة السامع أو القارئ، فهم إذن يطمحون للدهشة، والدهشة هي بداية الفلسفة، والمهم أن يقول الناس عن (المحلل) انه مثقف وليذهب الشعب السوري إلى الجحيم.
بمناسبة الأشياء الصغيرة هذه، تحضرني قصة ما حدث مع مجموعة أولمت لنفسها، فقال أكثرهم ثرثرة وقدرة على الكلام وبصوت جهوري متهدج (عليّ النار أوقدها) وتوجه إلى أحدهم وبصوت منخفض خجول (ومنك السمن واللحم) ويبدو أن هذا هو شأن المحللين والسياسيين مع الشعب السوري، حيث يشرقون ويغربون ويقولون كلاماً كبيراً وخطيراً، ويرون الظروف المحيطة بسوريا والمنطقة والعالم، ولايرون ما يحيط بالشعب السوري.
يعيش الشعب السوري مصاعب يومية قد تصل إلى المآسي، وقد انتظر العرب والعالم طوال سنة ونصف السنة علّهم يساهمون في إنقاذه مما هو فيه دون جدوى، فهم يراقبون وينتظرون وهو أحوج إلى من يرفع عنه كاهل الأمور الصغيرة، لا إلى من يحلل ويركب الأمور الكبيرة فقط .
حقاً إنه إذا تم حل الكبيرات يتم تلقائياً حل الصغيرات، لكن حال السوريين يدمي القلب ويثقل على الضمير إن وجد هذا الضمير.
البيان