صفحات الناس

حياة وآلام مجانين الدفاع المدني في حلب (1 من 2)

 

 

ترجمها عن الانكليزية طارق أبي سمرا

في غرفة المرْكَز الضيِّقة، طلع الفجر عليهم منطرحين كجثث على حُصُرٍ متسخة، وعلى سرير معدني يميل بثقلٍ الى أحد جوانبه. أجسادهم متلاصقة، بعضهم لايزال في ثيابه منذ ليلة البارحة. إنه يوم من أيام حلب المعتادة، ولن يلبثوا أن يستيقظوا على هدير المروحيات والطائرات المغيرة لتلقي براميلها المتفجرة وقنابلها على هذا القسم من المدينة الخاضع لسيطرة الثوار، والذي سعى النظام إلى أن يحيله غباراً. غير أن هذا الصباح كان هادئاً، فواصلوا نومهم.

كان خالد حجّو، قائد فريق الدفاع المدني في حي هنانو، واقفاً خارج مكتبه المجاور للغرفة. أخذ مجّة من أولى سجائره الجيتان التي يستهلك منها الكثير يومياً، ثم راح يستطلع إقليمه الصغير. يقع المرْكَز- وهو منزل من باطون من طبقة واحدة – في إحدى زوايا رقعة أرض إسمنتية بحجم ملعب كرة قدم، يحوطها جدار من حجر علُوُّه ثلاثة أمتار ونصف المتر. في الطرف المقابل، هنالك كومة إطارات قديمة وونش معطَّل. رقعة الأرض هذه كانت سابقاً موقفاً للسيارات المحجوزة، فاستعملت لدواعي الحرب، كحال الكثير من المواقع والمباني في حلب.

بالرغم من موقعه في حيّ هنانو القريب من خطّ التماس، والمعرَّض للقصف الجوي ونيران المدفعية، لم يكن المركز متين البناء. فقذيفة هاون بإمكانها اختراق سقفه على الأرجح، فما بالك بقذائف الهاوتزر التي تسقط أحياناً في باحته. مع ذلك فإن للمركز مزاياه. فهو يقع على هضبة، وتحوطه قلّة من المباني المنخفضة، ما يسمح لأعضاء الدفاع المدني برؤية الغبار المتصاعد وأعمدة الدخان، فيباشرون فوراً عمليات الإنقاذ. منذ تأسيس الفريق، قبل أكثر من سنة، اتخذ أعضاؤه هذا المبنى مقرا لهم، ومكثوا فيه طوال شتاء المجازر الطويل وأصعب المحن، حينما أضطر السكان الى الفرار من المدينة هلعين، فصارت قنابل بشار الأسد تسقط الآن، بالوتيرة نفسها، على المباني الخالية والمسكونة.

شاحنة صغيرة حمراء مركونة في الخارج، على بابها الجانبي عبارة FREIWFEUERWEHR» « أي «رجال الإطفاء المتطوعون». تحتها، بالعربية والأسود: «الدفاع المدني- حلب». على هذه الشاحنة المتينة التي تبرع بها الغرب، بدأت تظهر علامات استخدامها لأشهر عدة في منطقة حرب: ثقوب الرصاص منتشرة على أبوابها وزجاجها الأمامي المتفسّخ. لكنها لا تزال تقوم بالمهمة المطلوبة، مسرعة بالمسعفين إلى موقع الانفجار.

أعضاء الدفاع المدني هم من عمّال الإغاثة القلائل الذين عايشوا الصدمات التي توالت على حلب، فمكثوا فيها للعناية بالمدنيين العالقين على خطوط القتال الأمامية. أجلوا الجرحى والجثث وكافحوا الحرائق، لكن ما عُرفوا به وأذاع صيتهم في سوريا والخارج، هو انتشال الأحياء من تحت الأنقاض في عمليات إنقاذ دراماتيكية.

لدى سماعهم دوي انفجار، يتكدسون في مقصورة الشاحنة الأمامية: عشرة رجال أو أكثر على مقعدين طويلين فقط، ينطلقون بحثا عن الموقع المتضرر. كعملات معدنية في علبة تنك، تخضُّهم الشاحنة صعوداً وهبوطاً، كلما مرَّت فوق حفرة، فيما يعلو صوت صفارة الإنذار قديمة الطراز، فيصمُّ الآذان. يلمحون أحيانا سيارة إسعاف، فيلحقونها، لكنهم غالباً ما يكونون أول الواصلين إلى موقع الانفجار. أثناء سير شاحنتهم المسرع، يخرجون أجسادهم من نافذتيها، ويسألون المشاة عن مكان سقوط القذيفة. من ردات فعل الناس يعلمون مدى اقترابهم من المكان. أثناء تقدم الشاحنة – فيما العابرون يشيرون بأيديهم إلى مكان ما، أو يهزّون أكتافهم كناية عن جهلهم مكان الانفجار – يصير المحتشدون، أخيرا، أكثر هيجاناً، إلى أن يلمح المسعفون في عيونهم وحشية الموت ورعبه ، أو هلعهم على جارٍ حوصر تحت الأنقاض.

عمليات الإنقاذ شديدة الخطورة، بسبب تكتيك الضربات المزدوجة التي يستخدمها النظام، معيدا قصف الموقع نفسه مرة ثانية، لإصابة عمال الإغاثة والحشود التي تكون قد تجمعت. هكذا قتل ثلاثة من فريق هنانو في شهر مارس/ آذار 2014، إضافة إلى مصور كندي من أصل مصري أتى لتوثيق عملهم.

قذف خالد سيجارته في الباحة التي كانت موقفا للسيارات. عمره ثلاثون عاماً. بشعره الأشعث وأنفه المستقيم وحنكه البارز الذي يخفف من حدته امتلاء خديه وشفتيه، يبدو كطالب دراسات عليا أكثر منه شخصا أمضى السنة الأخيرة من حياته منغمساً في الدماء وغبار الأنقاض. كان حتى وقت قريب، يسرّح شعره على شكل ذيل الحصان في مدينة سيطرت عليها تدريجاً مجموعات إسلامية مناهضة للغرب. بدأ كرشه يبرز جراء الليالي الكثيرة التي يمضيها جالساً، متناولاً الفاكهة والمكسرات، مصغياً إلى أصوات القصف، ومنتظراً نداء إستغاثة. تظهر تجاعيد حول عينيه عندما يبتسم، لكنه غالباً ما يبقى هادئاً جامداً، محافظاً على رباطة جأش لا تتزعزع حتى في وجه الموت. هذا ما يبرر احترام أعضاء فريقه الجامحين وطاعتهم إياه: «عليك الحذر من الشخص الهادئ «، ردد سُرْخاي (Surkhai)، مهرج المجموعة.

داخل كوخ متهالك يستخدمونه كحمام على مقربة من المركز، غسل خالد وجهه، ثم عاد إلى مكتبه المجهز بكرسيين وطاولة تكسوها الخدوش ورف صُفّت عليه ملفات المركز. وعلى الحائط عُلِّقت شهادة تقدير من مجلس المدينة، وتدلَّت من السقف لمبتان عاريتان.

سمع خالد أصوات حركة أعضاء الفريق الذين كان حاضراً منهم في ذلك اليوم بعض من المخضرمين الأكثر جدارة بالثقة. هم على كل حال مجرد أولاد. أكبرهم سنا سُرْخاي و(Shahoud) سعود(؟): توأمان ضخمان في الثامنة والعشرين، يغطى الشعر الكثيف جسميهما، عدا قمَّة الرأس. الباقون معظمهم في العشرين عشرون أو في الحادية والعشرين. أما علي، النحيل بتسريحة شعره القصير في مقدم الرأس، الطويل في مؤخرته، ففي التاسعة عشرة. وحده أحمد – الغلام الذي يطوّح به طوله الفائض، وذو اللحية الصغيرة في مقدم ذقنه- يملك خبرة في أعمال الإغاثة ما قبل الحرب، حينما عمل إطفائيا مثل والده.

عددهم الإجمالي ثلاثون. 12 منهم تقريبا يتواجدون عادة، في الوقت عينه، في المركز. فهم يتناوبون على العمل، إلا قائدهم الذي لم يتغيّب يوما قط. أحب خالد الفريق، وأحب التقارب الجسدي والعاطفي بينه وبين أعضائه، فصار هؤلاء الرجال حياته كلها. شخصيته القديمة، عندما كان طالبا في كلية الحقوق ويعلِّم في مدرسة مهنية، تبدو بعيدة بُعْدَ منزل عائلته خلف خطوط النظام.

امتَدَّ سكون الصباح الى ما بعد الظهر. لم يصدق خالد الهدوء المخيِّم عميقاً على كل شيء. إنه لأمر مريب، فقد مرّ يومان على آخر مذبحة كبيرة، عندما سقط برميل متفجر في سوق خضرٍ وقتل العشرات. لعلَّ النظام كعامة الشعب في حال ذهول بعد سقوط الموصل في أيدي المجموعة المنشقة عن «القاعدة» والمعروفة ب»داعش»، يتكهن رجال المركز. كانت حرارة الصيف تشتد في حلب، فقرر خالد عدم حثِّهم على القيام بالتمارين أو أعمال التنظيف. أحمد راح يلعب مع القطة الجرباء، لولو، التي تتسكع عادة حول المركز، بينما انضم علي وسُرْخاي إلى لعبة ورق بليدة كانت تجري في غرفة النوم.

في الأثناء سحب خالد أَنَس جانباً، وجلسا على مقعد. كان خالد يُعِدُّه لدور قيادي، فراحا يتكلمان عن الفريق وعمن يحسن القيام بعمله ومن يبدو أنه بحاجة إلى فترة راحة. لأَنَس، بقامته الممشوقة ورموشه الطويلة وفكِّه المرسوم بدقة، هيئة نجم معبود من المراهقين. عمره 21 عاماً، لكنه يبدو أصغر بكثير. يحمل مسدساً مشكوكاً في حزامه خلف الظهر. يحاول الآخرون إغاظته أحياناً لكونه جميل جداً، فيتقبل الأمر بروح دعابة، قائلاً إن الرجال أخذوا يتحرشون به بعدما اختفت النساء من الأمكنة العامة في هذه المدينة التي دمرتها الحرب: «كنت في السوق منذ بضعة أيام – يخبر رفاقه ممازحاً- فلمحني جهادي ملتحٍ واقترب مني». قبل أن يتابع غيّر أنس لهجته، مقلّدا لهجة الجهادي:

-يا شيخ، يا شيخ!

-شو؟

-التدخين حرام!

يسحب أَنَس سيجارة ونستون قائلاً:

– بَعْرِفْ.

يُّذبِّل عينيه متظاهراً بأنه ينظر إلى شخص وهمي، من رأسه إلى أخمص قدميه:

– يا شيخ، يا شيخ!

– شو؟

– تعطيني الفايسبوك تاعك؟

انفجر الفريق بالضحك.

يستمتعون بهدوء ما قبل العاصفة، فَكَّرَ خالد. الجميع في سوريا، سواهم، متعطِّش للعمل. لكن خالد يعلم أيضاً كيف سيصيبهم السأم والتململ إن ظلوا على هذه الحال، بلا حركة أو نشاط. فسوى المخاطر المشتركة التي يواجهونها، لا شيء يجمع بينهم. لديهم أنشودتهم التي يرددونها، فيما هم يهرعون مسرعين إلى موقع الانفجار:

«يا منيك يلي تحت الأرض/ جايين نشيلك. يا منيك يلي بقلب النار/ جايين نطفّيك».

مساءً، فيما الضوء ينوس وتنتشر الظلال، سمع أعضاء الفريق صوت هدير منخفض وبعيد. لقد عادت مروحيات النظام. كصيادين أمضوا أوقاتاً طويلة متربصين في الغابة، يميزون الأصوات في المدينة. يقول أحمد أحياناً من غرفة النوم: «هذه قذيفة مدفعية»، أو «هذه طائرة نفاثة». في أحيان أخرى يقول: «الآن سيطلقون النار من الدوشكا»، فيسمعون إذ ذاك- كأنما أحمد كبس زراً ما- صوتَ تحطم طائرة ميغ على الجبهات الأمامية. قد تحلق هليكوبتر فوقهم تماماً، فلا يتأثرون. من صوت مراوِحِها يدركون أنها منحنية. هي إذاً في طريقها إلى مكان بعيد. الهليكوبتر التي تستعد لإطلاق البراميل المتفجرة، على خلاف ذلك، تحوّم فوق المكان ويكون صوتها أشبه بهدير محركات الطائرات النفاثة العميق.

بدت المروحية التي سمعوا هديرها الخافت كبقعة صغيرة شاحبة في السماء. بينما كانوا واقفين في الخارج لمشاهدتها، انفصلت عنها نقطة راحت تسقط بطيئاً بطيئاً. دويّ بعيد أعلن عن اصطدام تلك النقطة بالأرض. لقد أَسقَطت الطائرة – وهي مروحية نقل روسية من طراز هايند – برميلاً متفجراً، ذاك السلاح المرتجل، الفتاك، المفضل لدى النظام.

هذه القنبلة هي برميل للوقود فارغ، أو خزّان فارغ للغاز. يُحشى البرميل أو الخزان بحوالي 900 أو 1000 كلغ من قطع الخردة الفولاذية أو الحديد المسلح، يُداخلها فتيل بدائي الصنع. تتحول القنبلة هذه شظايا ملتهبة لدى انفجارها. هي بحجم قنبلة تقليدية، وباستطاعتها هدم واحدة من العمارات الإسمنتية الرديئة البناء التي تشكل الجزء الأكبر من المشهد العمراني في حلب. ليس بمقدور القوات السورية تصويبها بدقة. هذا أمرٌ بلا أهمية في واقع الحال. فالهدف من إلقاء هذه البراميل أو الخزانات المتفجرة، هو إرهاب السكان وجعل المدينة غير قابلة للعيش.

انتظر أعضاء الفريق سقوط القنبلة الثانية (تحمل الهليكوبتر قنبلتين عادة)، ثم صعدوا الى متن الشاحنة التي توجهت مقرقعة إلى مكان الانفجار. سائقها، أبو ثابت، رجل كبير في السن حزين الوجه يملك سيارة أجرة. كان يقود شاحنات ثقيلة قبل الحرب. لديه قدرة تحكم عالية بشاحنة الدفاع المدني الصغيرة، فيعرِّج بها برشاقة بين الركام. أبنية الحي، حيث سقطت القنبلة، قليلة ومتباعدة، وقال بعض الرجال الحاضرين على مقربة إن أحداً لم يصب. نزل خالد للتأكد، فتبعه أعضاء الفريق. تخطوا أحجار باطون متناثرة، وتقدموا بين البيوت الصغيرة المهدمة. كان الهواء لا يزال مثقلاً بغبار الأحجار المسحوقة، كسحابة ذهبية في الغسق. «في حدا هون»، صرخ رجال الدفاع المدني بين الأنقاض، فلم يتلقوا أي جواب. «خلينا نفل يا شباب، يمكن ترجع الهليكوبتر»، قال خالد مُلَوِّحاً باللاسلكي.

بعد عودتهم إلى المركز، وقفوا خارجاً يمزحون، فهذه العملية الوجيزة أيقظتهم من سبات دام طوال النهار. فجأة صرخ أبو ثابت، مشيراً إلى الأعلى: «طائرة!»، فقفزوا جميعاً متطلعين إلى السماء. لم تكن سوى نجمة، فالنجوم قد بدأت تنتشر في سماء الليل البنفسجية.

– هي لا تُحَلِّق، وأضواؤها مشتعلة، سخِر أَنَس.

– ربما نسي الطيار فرام اليد، قال سُرْخاي ممازحاً.

استقلَّ أبو ثابت سيارته، خجِلاً اتجه إلى منزله. زوجته وأولاده لا يزالون في المدينة. انصرف باقي أعضاء الفريق إلى روتينهم المسائي. تمددوا في أرجاء غرفة النوم التي تحتوي، إضافة إلى السرير والحُصَر، مروحة وموقد غاز وجهاز تلفزيون صغيراً، من على شاشته يتلقون نشرات أخبار الثوار والنظام. أحضر أحدهم من السوق خوخاً أحمر شهياً. لم يكن نصف المدينة الخاضع لسيطرة الثوار قد حوصر حصارا كاملا بعدُ (كانت قوات النظام وتنظيم «داعش» تضيّق عليه تدريجاً من كلا الجانبين). لكن موادا غذائية كانت لا تزال متوافرة في الأسواق القليلة التي بقيت مفتوحة. امتصُّوا حموضة نواة الخوخ وفتحوا علبة فستق. مرَّت ساعة. حدث دوي ووميض هائلين.

التعرض لانفجار قريب، هو اختبار الضوء والصوت كصمت في الظلام. صمتٌ، إذ يعلو طنين اذنيكَ فوق كل صوت. وظلام، إذ يطوقُكَ كلياً الغبارُ والدخان. امتلأ الفضاء بقطع أحجار باطون متطايرة، وقُذِف شباب الدفاع المدني إلى الأمام، فارتطمت أيديهم بالأرض التي صارت حقلا من الركام. نهض خالد واتجه مسرعاً، في الظلام الدامس، مع باقي الفريق، نحو موقف السيارات. لقد انهار نصف المركز، انقطعت الكهرباء، وأصيب عمر مع شاب آخر. المجموعة التي يرأسها خالد، رمت المصابين على أحد المقاعد الأمامية للشاحنة، وانطلقوا مسرعين. الباقون اجتازوا الشارع ركضاً، جلسوا القرفصاء في مساحة ضيقة بين منزلين. كان بإمكانهم سماع الطائرات تقترب من جديد، ورؤية رصاص أحمر خطاط يعلو لملاحقتها من مواقع الثوار. سُمِع دوي انفجار قريب آخر. فُتِحَ باب أحد المنزلين. هرع منه زوجان شابان مع طفل رضيع يحتضنه الرجل، واختفوا بسرعة في ظلمة الليل.

هدأ القصف بعد حوالى عشرين دقيقة فتجرأوا على التدخين مجدداً. خرج أَنَس وسُرْخاي. وقفا على جانب الطريق. هلال القمر الأصفر كان قد ارتفع فوق المركز. لم يرغب أحد بالعودة إلى الداخل تحسباً لعودة الطائرات. سُمعت جلبة سيارة إسعاف. ترجل سائقها وحدق بهم مذهولاً، وقال: «جئت بأسرع ما يمكن عندما رأيت الانفجار». كان بالإمكان رؤية بياض عينيه. «لقد نجَّاكم الله لكي تنقذوا الآخرين»، تابع قائلا.

عادت الشاحنة، فترجل منها خالد قائلاً: «عمر بخير. لقد جرحت قدمه فقط». وقف لحظة يتفقد الوجوه المتجهِّمة التي شكلت نصف دائرة من حوله. كانوا مضطربين بشدة؛ لكن أعضاء فريق هنانو لم يسبق لهم الفرار من موقع انفجار. خالد اتخذ قراره بسرعة: «سنبقى هذه الليلة لحراسة المركز وننتقل إلى مكان جديد في الصباح». أومأوا برؤوسهم، أشعلوا سجائر وراحوا يتمازحون لكسر التوتر.

– آمل أن ننتقل إلى مدرسة كبيرة ومريحة، قال أَنَس.

– إنهم يستهدفون المدارس دائماً، أجابه سُرْخاي.

جلسوا في صف واحد على حافة الرصيف، متكئين كتفاً الى كتف، مستمعين إلى أصوت القصف، فراحت جمرات سجائرهم تلمع واحدة تلو أخرى، حتى حلَّت الشمس محل القمر.

عند بزوغ الفجر رأوا كم سقطت القنبلة قريباً. كان البيت الكبير المجاور قد اختفى. حلت مكانه حفرة عملاقة مليئة بالحطام، وفي وسطها بضع صفائح فولاذية ملتوية من النوع الذي يستخدم لصناعة خزانات الغاز، وهي كل ما تبقّى من برميل متفجر أطاح، إضافة إلى المنزل، بعشرين متراً من جدار الحجر السميك الذي يحوط بالموقف وبقسم من مركز الدفاع المدني. لو سقط البرميل عشرة أمتار أقرب لكانوا الآن في عداد الموتى.

لا خيار لهم سوى الرحيل، فالمبنى على وشك الانهيار. تلقوا خسارتهم مركزاً بكوا فيه كثيرين من زملائهم، كصدمة معنوية. الأمكنة المهجورة كثيرة في حلب. باكراً في الصباح، كان خالد قد استطلع مدرسة في منطقة مجاورة. مبنى المدرسة صلب، من ثلاث طبقات إضافة إلى طبقة سفلية بإمكانهم اتخاذها مركزا وموقفا كبيرا للشاحنات. ستفي هذه المدرسة بالغرض. اتصل خالد بفريق دفاع مدني آخر (عددهم أربعة في حلب) لإحضار شاحنة ينقلون فيها لوازم المركز.

سمعوا وهم يحمِّلون المعدات في الشاحنة هدير مروحية مقتربة، فهربوا. كانوا لايزالون تحت تأثير رعب الليلة الماضية. بعد سَمَاع دويين متتاليين، خرجوا من مخبئهم ينفضون الغبار عن أجسامهم، متمازحين حول من كان منهم الأسرع في الفرار.

وصلهم نداء على اللاسلكي العتيق والرديء: لقد أصيب مدنيون. فَوَّضَ خالد ربيبه أَنَس قيادة شاحنة الإنقاذ، ثم قفز إلى داخلها مع مجموعة من شباب الدفاع المدني. انطلقت بهم الشاحنة مسرعة في اتجاه مصدر الدخان، بينما علا صوت صفارة الإنذار. أصاب الانفجار شارعاً رئيسياً في منطقة صاخور، على مقربة من حديقة عامة وتقاطع طرق يخترقه حاجز ترابي للوقاية من نيران القناصة. «توقفوا، توقفوا، توقفوا، توقفوا توقفوا»، صاح أَنَس لدى بلوغهم مسافة آمنة. قفزوا من الشاحنة وراحوا يركضون نحو موقع الانفجار. لقد أسقطت الهليكوبتر برميلين متفجرين ضخمين، فخلَّف الأول حفرة في الطريق. الثاني سقط على طرف الحديقة العامة، وأشعل شجرة نخيل كبيرة. سيارات عدَّة منتشرة في المنطقة صارت هياكل ملتوية. حشد من الثوار والمدنيين، إضافة إلى سيارات الإسعاف، كانوا قد تجمعوا.

ركض عليّ نحو شيء ما، بالكاد يمكن أن تعرف ماذا يكون. كان رجلاً بديناً عاريا يغطيه غبار الباطون المطحون. قُطِع إلى نصفين عند الصرّة. أمعاؤه متدلية مبعثرة وراءه. إحدى ساقيه مطوية فوق كتفه. ملقىً على ظهره، عيناه مغمضتان. لكن حينما دنا علي منه، ارتفع صدره ثم هبط لمرة واحدة. همد بعد ذلك. سحب علي قفازات لاتكس. لم يكن في الإمكان فعل أي شيء. أخذ حراماً وراح يجمع فيه الإشلاء بقدر ما استطاع، ثم رمى الحرام كصرة في مؤخرة سيارة الإسعاف حيث تتراكم الجثث.

صرخ أحد الثوار الواقفين على الطريق: «يوجد أولاد في تلك السيارة». هرع أَنَس نحو سيارة زرقاء صغيرة، مسحوقة ومجعلكة، على مقربة من موقع الانفجار الثاني. تبدو السيارة كأنها سقطت من الفضاء مع القنبلة. متوترا محموماً راح أنس يخلع الباب بواسطة قضيب معدني. أمٌّ وطفلاها في المقعد الخلفي. رأس الأم مقطوع، وجها الطفلين شاحبين جامدين. بدا عليهما الجمود والشحوب فيما يرفع أنس جسديهما الصغيرين. الصبي فقد رجله اليمنى من تحت الركبة. أخته تلقت شظية مميتة في الصدر.

مكان الانفجار على مقربة من مستشفيات عدة، نُقل الجرحى إليها، بينهم سائق السيارة الزرقاء، زوج المرأة المقطوعة الرأس ووالد الطفلين. أعضاء الفريق يدركون أن ما يقومون به ليس سوى انتشال الجثث من تحت الأنقاض، لكنهم تابعوا عملهم مستعجلين، لأن الموقع مكشوف وقد يتعرض لقنابل الهليكوبتر التي قد تعود في أي لحظة. الجو حار، عابق برائحة أكثر حدَّة من رائحة الدم. صرخ أحدٌ محذراً من قدوم طائرة، فتفرق الحشد إلى قطعان مذعورة راحت تركض في كل اتجاه. لكنه كان إنذاراً كاذباً، فعاد أعضاء الدفاع المدني- بعد انتشالهم آخر جثة- إلى شاحنتهم وتوجهوا إلى المركز القديم. كانت العملية برمتها قد استغرقت خمس عشرة دقيقة.

حتى لغسل الأيادي من الدم لم تكن المياه متوفرة. فالحمام دُمر في انفجار الليلة الماضية. في الأربع والعشرين ساعة الأخيرة، لم ينم أي منهم قط، لكنهم شاركوا جميعاً في إخلاء المركز من عتاده: الأسِرَّة، الطاولات، وعدة الإنقاذ التي تبرع بها الغرب. خرج أحمد وسُرْخاي من مكتب خالد يحملان الأريكة القديمة. بينما كانا يرفعانها صدر عنها مواء حزين. «لولو!»، قال أحمد. أمالا الأركية وبدءا يهزِّانها، وكأنهما يريدان إسقاط عملات نقدية منها، فوثبت الهرة بعد لحظة، ثم راحت تفرك جسمها بأرجلهما.

كانت هي أيضاً أحد الناجين من القصف.

المدرسة ذات الطبقات الثلاث قلعة متينة من الباطون والحجر، على عكس مركز هنانو. كانت قبل الحرب مدرسة ابتدائية، فتوالى عليها لاحقاً لاجئون مختلفون، كحال الكثير من المباني الرسمية. العلامات التي خُطَّت على جدرانها تمثل نوعاً من تأريخ للثورة السورية غير المكتملة. فوق رسومات الزهور والفراشات طبقات عدة من الغرافيتي: «أ. يحب م.»، تعود ربما الى حقبة ما قبل الثورة. وهذا شعار المتظاهرين «سوريا حرَّة»، ثم هذه أسماء بعض الميليشيات والكتائب التي تشكلت على عجل وفرضت سيطرتها تباعا على المنطقة. أخيراً هاهوذا علم داعش الأسود المشؤوم. ف»الدولة الإسلامية» تشكِّل خطراً على حلب ومناطق الريف الشمالية.

عندما ذهب خالد في اكتوبر/تشرين الأول 2013، لاستلام خمس شاحنات إطفاء تبرع بها الغرب، اعتقله قائد من «داعش» على الحدود، وصادر الشاحنات. لكن الثوار أخرجوا «داعش» بالقوة من المدينة في يناير/كانون الثاني 2014. لكن تنظيم «الدولة الاسلامية» عاد إلى الصعود مجدداً، فقواته متمركزة على أقل من ثلاثين كلم شرق حلب، وهو يتقدم.

بالرغم من أن جميع أعضاء الفريق يعتبرون أنفسهم مسلمين ملتزمين، فإن معظمهم كان غير معني بالإسلام الأصولي الذي راح يسيطر على مجموعات الثوار المقاتلين. ضاقوا ذرعاً بفساد النظام وممارساته القمعية، فشاركوا في التظاهرات السلمية التي اندلعت أثناء الربيع العربي سنة 2011. لكن هذا الحراك تحوَّل تمردا مسلحا، بعد المجازر التي ارتكبها النظام بحق المتظاهرين. بحلول يوليو/ تموز 2014، كان الثوار قد استولوا على نصف مدينة حلب، لكنهم وجدوا الطرق مقفلة على طول الجبهات الأمامية، فظل الوضع على حاله، عموما، منذ ذلك الحين.

بداية، كانت الحياة مليئة بالأمل في القسم الذي سيطر عليه الثوار من المدينة. التقدم الذي أحرزه الثوار في الأرياف، فتح لهم خطوط الإمداد إلى تركيا، فعاد لاجئون كثر من الذين فرُّوا اليها بعد المعارك الأولى. كانت الأسواق تعجُّ بالبضائع والمتسوقين، وتطوع كُثُرٌ من المدنيين لتسيير أمور الحياة في المدينة. خالد نفسه انضم إلى مكتب للثوار كان يوزع المواد الغذائية على المحتاجين، ثم تطوع معلما في مدرسة. لكن القصف الجوي تصاعد وراح يستهدف السكان، فتساقطت صواريخ ضخمة، من طراز سكود، في فبراير/شباط 2013، على أحياء تابعة للثوار، ودمرت العشرات من البيوت وأودت بحياة المئات.

آنذاك، صارت جليَّةٌ الحاجة إلى فريق إغاثة مدني. فالقنابل لم تقتل الناس وتتسبب لهم بإعاقات وحسب، بل كانت تدفنهم تحت الأنقاض. كل غارة كانت بمثابة هزة أرضية. لدى انهيار أي مبنى، يحتشد سكان الحي كلهم خارجاً، ويباشرون النبش في الحطام والركام، ضاربين بأدوات بدائية على كتل الباطون لتفتيتها. في خِضَمِّ هذا الصخب، يتعذر سماع صراخ شخص مدفون يطلب النجدة. أحياناً، قد يأتي أحد بجرافة ويبدأ بإزالة الركام، فيقتل، في أغلب الأوقات، من بقي حياً داخل الأبنية المهدمة. كان يمكن، إذاً، إنقاذ من علقوا، فهم عادة يبقون على قيد الحياة أياماً، إن لم تكن إصاباتهم بليغة، لكن هذا يتطلب عمال إنقاذ مدربين.

شُكِّل فريق هنانو من أشخاص منخرطين في المقاومة غير المسلحة، كان أول المتطوعين من حلب. سُرْخاي وأخوه التوأم، شَهُود (Shahoud)، هما العضوان المؤسسان، ثم انضم خالد اليهما بعد فترة قصيرة.

في ذلك الوقت تقريباً، كانت (أ.ر.ك:ARK)، وهي شركة مقاولات مقرها اسطنبول، قد حصلت على تمويل مصدره الولايات المتحدة وبريطانيا، غايته إرسال «مساعدات غير فتَّاكة» للمعارضة السورية. هذه الشركة جعلت فرق الإنقاذ من أولويتها. وتيرة القصف الذي مارسه الأسد، تعادل ما جرى في الحروب الأوروبية التقليدية، فأعادت (أ.ر.ك) إحياء عقيدة تعود الى وقت قصف الألمان لندن أثناء الحرب العالمية الثانية: الدفاع المدني. تعاونت (أ.ر.ك) مع منظمة (أ.ك.و.ت:AKUT) التركية التي تُعْنى بآليات الإنقاذ استجابة للزلازل، على إنشاء مركز في جنوب تركيا لتدريب فرق الإنقاذ الجديدة. هناك تعلَّم شبان هنانو تقنيات البحث والانقاذ الأساسية، إضافة إلى الاسعافات الأولية، وكيفية مكافحة الحرائق. وهناك أيضا جُهِّزوا بشاحنات وملابس مُوَحَّدة ومعدات، وأعيدوا إلى سوريا.

ما تلقوه من تدريب أثمر في حينه. ففي خريف 2013 بدأ ميزان القوى ينقلب لصالح الأسد. بعدما قتل النظام في 21 اغسطس/ آب 2013، أكثر من ألفي شخص بواسطة غاز السارين في ضواحي دمشق، ثم رَفَضَ الغرب التدخل، عاود بشار ضرباته. حلب، المحور الحيوي في الشمال السوري، احد أهدافه الرئيسة. ولكسر قبضة الثوار على النصف الشرقي من المدينة، لجأ النظام إلى سلاح كان قد اختبره في مناطق أخرى: البراميل المتفجرة.

[ نشر هذا التحقيق على موقع مجلة «ماتر» Matter الإلكترونية بتاريخ 15 سبتمبر/ ايلول 2014. العنوان الألكتروني لموقع المجلة هو: https://medium.com/matter/whoever-saves-a-life-1aaea20b782

 

كاتبه هو ماثيو أيكنز Matthiew Aikins الذي مكث مدة في حلب في يونيو/حزيران 2014. أيكنز كاتب وصحافي كندي عُرِف بتغطيته الحرب في افغانستان. عمل كذلك كمراسل من باكستان وسوريا، ونشرت كتاباته في العديد من الصحف والمجلات، ك «الغارديان» و «الأتلانتك» و «هاربرز» و «الرولنغ ستون» و «جي كيو». حاز عدداً من الجوائز من بينها جائزة جورج بولك للصحافة.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى