صفحات الناس

حيث المسلمون والمسيحيون يتكلّمون لغة المسيح

محمود الزيباوي

برز اسم معلولا في الأسابيع الماضية، وتضاربت الأخبار عن أحوالها. ألقت وسائل الاعلام العالمية والمحلية النور على هذه المدينة الصغيرة، وجعلت منها رمزاً للوجود المسيحي في سوريا، وهي مع جارتها صيدنايا أشهر المواقع السياحية المسيحية في ريف دمشق، ولا يزال سكانها حتى اليوم يتكلمون اللغة الآرامية، لغة المسيح.

في مقالة نُشرت في صحيفة “القدس العربي”، استعرض ابرهيم درويش احوال المسيحيين في سوريا، واستشهد بتقرير لصحيفة “صنداي تلغراف” من توقيع كريستين مارلو. بحسب هذا التقرير، كان هجوم جماعات جهادية على معلولا الشهر الماضي “بمثابة تحذير للمسيحيين من القادم، خاصة ان عددا من الاساقفة والقسس اختطفوا في اماكن مختلفة من سوريا”. معلولا، كما يقول احد ابنائها، “ذات قداسة بالنسبة للمسيحيين السوريين مثل القدس، وعندما وصلت الحرب اليها كانت حادثة مفجعة لكل المسيحيين في الشرق الاوسط”. كما حصل ويحصل في كل الأراضي السورية التي يحتدم فيها القتال بين مختلف الفرق المتصارعة، فرّ معظم سكان معلولا هرباً من هذه المعارك. وانشغلت وسائل الاعلام بوضع المسيحيين السوريين بعد رفع علم “داعش” فوق كنائس أرثوذكسية وأرمنية في الرقة اثر اندلاع الصراع على السيطرة على معلولا.

تشتهر معلولا بمعالمها المسيحية، وهي في الذاكرة الجماعية البلدة التي يتكلم أهلها لغة المسيح. تزدحم هذه البلدة بألوف الحجاج والزوار عند احتفال المسيحيين بعيد الصليب في الرابع عشر من أيلول، كما في ذكرى القديسة تقلا في الثاني والعشرين من الشهر نفسه، وفي ذكرى القديس سرجيوس في السابع من تشرين الأول. أشهر معالم معلولا المسيحية دير مارت تقلا البطريركي التابع للروم الأرثوذكس، ودير القديسين سركيس وباخوس التابع للرهبان المخلصيين من الروم الكاثوليك. نسج أهل العامة الكثير من الروايات حول معلولا وأديرتها وكنائسها، وأكثر هذه الروايات من النوع الذي لا يصمد طويلاً امام النقد العلمي. في كتابه “الديارات النصرانية في الإسلام”، رأى العلاّمة حبيب الزيات أن دير مارت تقلا “لم يكن معروفاً قديماً، وانما كان هنالك مغارة اشتهرت بنسبها للقديسة تقلا، وكان فيها شقّ يقطر منه الماء، فأقبل بعض النصارى على جمعه والاستشفاء به لاعتقادهم أنه من آيات شفاعة القديسة تقلا وكراماتها، ثم قام الدير من حولها في بعض السنين”.

في القرن الرابع عشر، ذكر شهاب الدين عمري “دير شق معلولا” في موسوعته المسمّاة “مسالك الأبصار في ممالك الأمصار”، وقال في التعريف: “هو بباطن جُبَّة عسّال، وهو بناء روميُّ بالحجر الأبيض معلَّق بسقف به صدع فيه ماء ينقط نحو الذي بصيدنايا، ويأخذه النصارى للتبرك، معتقدين فيه نحو اعتقادهم في الآخر، وإنما الاسم للذي بصيدنايا”. في القرن السابع عشر، مرّ الشيخ الدمشقي الحنفي عبد الغني النابلسي بمعلولا، ووصفها في كتابه “الحقيقة والمجاز في رحلة بلاد الشام ومصر والحجاز”، وذكر “دير شق معلولا” تحت اسم “المرتقلة”. كتب الشيخ في وصف معلولا: “سرنا إلى قرية معلولا، وكان السرور مطلقاً، وساعد الهم عنا مغلولا، فولجنا بين تلك الرياض، ودخلنا ما بين هاتيك الجداول والعياض، وفي ذلك نقول، وقد مرّ علينا نسيم يتعثر بذيله المبلول:

لقد اتينا لأرض معلولا/ وكان فيها النسيم معلولا

وذيل تلك الرياض منسدل/ لا زال فيه بالطل مبلولا

وقد جلسنا خلال مرجتها/ ندرك قصدا لنا ومأمولا

حتى اطمأنت بها الرفاق وقد/ شهدت سيف المياه مسلولا

ومن نحاها فقد غدا رجلا/ طبق الرجا عاملا ومعمولا”

بعد هذه الأبيات، تحدث النابلسي عن “المكان المسمّى بالمرتقلة” في معلولا، “وهي كلمة غير عربية، وهي مغارة كبيرة في نصف الجبل، والماء يقطر من أعلاها إلى أسفلها، في أماكن متعددة فيها، ويقولون إن ذلك الماء فيه خاصية النفع للرياح التي تعرض في بدن الإنسان، خصوصا الأطفال، ويحكون في ذلك الحكايات الطويلة. وأهل تلك القرية يتكلمون باللغة السريانية، ويعرفون اللغة العربية”.

قبلة الحجّاج

يربط شهاب الدين عمري بين “دير شقّ معلولا” ودير صيدنايا، أشهر أديرة سوريا في القرون الوسطى، وهو بتعريف حبيب الزيات “أقدم الأديار في دمشق وضواحيها، وكان ذكره في أيام الصليبيين قد شاع وملأ الأفواه والأسماع، فكان محطاً للقوافل والركبان وقبلة للحجّاج والعباد ومقصداً للمرضى ومزاراً لكبراء الافرنج لمكانة أيقونة العذراء، والاعتقاد الشامل أنها من رسم القديس لوقا الانجيلي مع ما كان يُعزى لها من الأشفية والمعجزات بفضل الزيت السائل منها”.

عربياً، اشتهرت صيدنايا بخمرها، وأشهر من تغنّى بها أبو نواس، وهو القائل:

قم فاسقني واشرب فقد ولّى الدجى/ وأتت ذكاء بنورها المتوقد

واسبأ لنا بنت الكروم وهاتها/ صرفا متى تقطب بماء تزبد

مما اصطافوه بحمص او ما اعتقو/ ه بصيدنايا أو حبوه بصرخند

خذها على دين المسيح اذا نهى/ عن شربها دين النبي محمد

وكتب من بعده ابن عنين:

ومدامة من صيدنايا نشرها/ من عنبر وقميصها من صندل

مسكية النفحات يشرف اصلها/ عن بابل ويحلّ عن قطربيل

بدوره، تحدث شهاب الدين العمري عن صيدنايا في كلامه عن خمر دمشق، وقال: “وصيدنايا معدن ذهبها وأفق كوكبها”. ذكر العمري كذلك دير صيدنايا، وقال إنه “من بناء الروم بالحجر الأبيض”، “وله بستان، وبه ماء جار، في بركة عُمِلت به، وعليه أوقاف كثيرة، وله مَغَلاَّت واسعة، وتأتيه نذور وافرة. وطوائف النصارى، من الفرنج، تقصد هذا الدير وتأتيه للزيارة”. مما يعني أن تدفّق الحجاج الفرنجة لزيارة الدير استمر بعد سقوط الصليبيين، كما في عهدهم. في ذلك الزمن، كان الزوّار يأخذون الماء من صدع يقطر، و”يأخذونه للتبرّك. ويدعونه في أوان لطاف من الزجاج، ويكسونها من فاخر الثياب. ولهم فيه أقوال كثيرة”.

جذب دير صيدنايا المسلمين الذين قصدوه للدعاء والتبرّك، وأشار الفرنجة إلى هذه الزيارات بكثير من الدهشة على مدى قرون من الزمن. في زمن الصليبيين، قال الرحّالة بركار دو ستراسبور إن المسلمين يأتون مع المسيحيين للتبرك في عيد ميلاد السيدة وعيد رقادها، وكانوا يقدّمون نذورهم بكل تقوى. في العقد الأخير من القرن السادس عشر، تحدث السينور دو فيلامون عن كنيسة الدير، وقال انها “كانت معظمة عند المسلمين، يصلّون فيها كثيراً حسب ديانتهم”. من جهته، رأى الشفاليه درفيو الى حضور المسلمين، “انهم كانوا حسني المعتقد في هذا المقام، يزورونه بكل احترام، بعد أن يكونوا قد توضأوا كما يفعلون قبل دخول الجوامع”. استمرّ هذا التقليد في القرن السابع عشر، كما شهد الأب نقولا بوارسون الذي كتب في يومياته: “زرنا دير صيدنايا على بعد أربع أو خمس ساعات من دمشق شمالاً، وهو دير قديم مشهور بالمعجزات التي تحصل فيه حتى للمسلمين، ولذلك لا يمسّون الدير والقرية بأذى”.

تجد هذه الشراكة تعبيراً آخر لها في أيقونة من محفوظات كنيسة الدير أثارت انتباه أكثر من متخصص. في الظاهر، الأيقونة تقليدية بامتياز، وتمثل المسيح بين السيدة العذراء ويوحنا المعمدان في مشهد “الشفاعة” الكلاسيكي، غير أن ما يميّزها ويجعل منها عملاً فريداً يتمثّل في حضور رجل يجثو في الطرف الأسفل من الصورة، مرتدياً فروة خضراء ومعتمراً عمامة بيضاء، مما يعني أنه من أكابر المسلمين. قيل إن هذا الرجل هو الملك الظاهر بيبرس البندقداري، وقيل إنه السلطان العادل أخو السلطان صلاح الدين، وهو الحاكم الذي “مرض ونال الشفاء في المقام، فنذر للعذراء خمسين كيلة زيت لإيقاد مصابيحها، تُحمل في كل سنة إلى الدير، فحُفظت صورته لهذا الشفاء”. ذكر حبيب الزيات هذه القصة الغريبة في “خبايا الزوايا من تاريخ صيدنايا”، وقال إنها غير معروفة في أيٍّ من الكتابات والآثار الشرقية، “على أن كتبة الافرنج ما فتئوا يتناقلون روايتها نثراً ونظماً من دون أن يعيّنوا السلطان الذي لم يذكروا زمانه، وأقدم من نقلها منهم المؤرخ متّى باريس سنة 1204، ومن بعده الحاج تيتمار سنة 1217”.

يقول نص تيتمار “إن أحد سلاطين دمشق كان أعور وأُصيب بالعين الأخرى فأصبح أعمى”، ولمّا سمع بأيقونة العذراء العجائبية، “جاء إليها، ولم يمنعه إسلامه من زيارة مقامها لثقته بالله وأمله بالشفاء، فسجد عندها وصلّى، ولما فرغ من الدعاء رفع عينيه الى السماء فأبصر نور الصباح يضيء أمام الأيقونة، ثم حدّق بمن حوله وسبّح الله مع الحاضرين. وبما أن نظره أول ما وقع على نور القنديل، نذر لله أن يزور المقام كل سنة، ويحضر له تسع كيلات زيت كانت تُحمل كل يوم إلى أيام نور الدين”. يعلّق الزيّات على هذه الرواية، ويؤكد أنها تثبت أن صورة الرجل المسلم الحاضر في طرف الأيقونة لا تمثل الملك العادل ولا السلطان بيبرس “لتأخرهما عن نور الدين”، حاكم حلب الذي بسط سلطته على معظم الشام، وتصدى للحملة الصليبية الثانية، قبل أن يضمّ مصر لإمارته ويقضي على الفاطميين. الصورة، تالياً، رسم متخيّل لأحد حكام دمشق تحضر هنا “حفظاً لصدى الحكاية المزعومة فيه”، “ومهما يكن من بطلانها أو صحتها، فهي تثبت على الأقل أن المسلمين كانوا قبلاً كالنصارى يزورون هذا المقام ويتعهدونه بالنذور”، كما تؤكد الشهادات الأدبية.

الشراكة الدائمة

عام 1759، تعرضت المنطقة لزلزال ضخم، وخربت كنيسة الدير. بعد ثلاث سنوات، أعيد إعمار هذه الكنيسة، كما روى مخايل بريك في “تاريخ الشام”، ولعب المفتي علي المرادي دوراً أساسياً في إعادة البناء، اذ قال “روحوا عمّروا، الدير ديري”. تلك هي صيدنايا، البلدة التي كان أهلها يتحدثون بالعربية والسريانية كما يجمع الرحّالة الذين مرّوا بها. اندثرت السريانية في صيدنايا، وبقيت حيّة في جارتها معلولا حيث لا يزال الناس يتكلمون بلغة المسيح، مسيحيين ومسلمين.

عرفت هذه الشراكة الاستثنائية الكثير من النكبات في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، الا أنها صمدت، وبقيت ثابتة في القرن العشرين، وجمعت كما في الماضي المسيحيين والمسلمين في الدعاء والتبرّك، وها هي اليوم تتعرض لمحنة جديدة، ولا يمكننا إلا أن نتمنى أن تصمد وتتجاوز المحن، كما حصل في الأمس القريب.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى