ما هو تعريف سوريا اليوم، وفق مفاهيم ونظريات الجغرافيا السياسية؟ ميناء روسي ومطار إيراني، باستثناء ذلك، ليست سوريا في تعريفات السياسة الدولية، أكثر من جغرافيا يتجمع فيها الإرهابيون من كل بلاد العالم، وتتصارع على أرضها الأيديولوجيات الإسلامية المتخلفة السنية والشيعية، كما أنها مصدر لتصدير البائسين إلى أوروبا.
هذه الخلاصة، هي جملة إنجازات حكم آل الأسد على مدار أربعة عقود من الزمان؛ وطوال هذه المدة اتبعت العائلة نهجاً سياسياً يقوم على وضع سوريا على طبق، وعرض مزاياها في أسواق البيع الدولية، شرط أن تحقق عملية البيع تلك دائماً، ضمانة بقاء آل الأسد في السلطة. أما الترويج لهذا البيع، فكان يرتكز على ميزة القيام بالوظائف والأدوار التي تصنف في السلوك السياسي بـ« الوظائف والادوار القذرة»، بما يضمن تغليف العملية بطابع سري عميق. وهذا الأمر يوفر ميزتين، تساعدان في أداء الوظيفة، فمن جهة، يجري الانخراط بالوظيفة إلى أبعد الحدود واستخدام كل الادوات القذرة في إنجاز المهمات، ومن جهة ثانية يسمح للفاعل، بهامش للمزايدة على الأطراف المحلية والإقليمية، طالما أنه يصرّف قاذوراته السلوكية في العتمة.
بين حام لأمن إسرائيل وضابط للوضع في لبنان، ومدمر لهيكلية منظمة التحرير الفلسطينية، تدرّجت وظائف عائلة الأسد واكتسبت خبرة ممتازة في هذا المجال، ونالت الثناء من مراكز القوى العالمية على براغماتيتها ونظرتها الإستراتيجية العميقة وقدرتها على قراءة التحولات السياسية الكبرى؛ كما حصل في مشاركة حافظ الأسد في حرب تحرير الكويت تحت إمرة القوات الاميركية، وبعد إنتهاء عصر التوتّرات الدولية بزوال الحرب الباردة واتجاه العالم نحو العولمة، اختارت عائلة الأسد أقذر ما في عملية التحوّل هذه، عبر جعل سوريا كازينو لأثرياء المنطقة، خاصة أولئك الذين يديرون الصفقات المشبوهة .
هذه الذهنية التوظيفية المدرّبة والخبيرة، كان من السهل ان تخترع وظيفة جديدة للجغرافيا السورية في مواجهة الرفض الشعبي لها ولممارساتها، فكان أن إختُزلت سوريا بميناء روسي على شواطئ طرطوس ومطار في دمشق لتمرير الأسلحة والذخائر للقاعدة الإيرانية في لبنان. وعلى جانبي هاتين البؤرتين الإستراتيجيتين، يموت عشرات آلاف السوريين ويجري تهجير الملايين. وببركة وحماية هذين الموقعين يضيف الأسد أياماً جديدة له في الحكم وكأنه في لحظة سباق لتسجيل أعلى رقم قياسي في الحكم على مستوى عائلات الشرق الاوسط السياسية.
لقد أثبتت المداولات الأخيرة للقضية السورية على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة أن سوريا بالفعل، تحوّلت إلى مجرد ميناء ومطار، وأن الانقسام الظاهري الذي حصل في العلن لم يخرج في العمق عن هاتين القضيتين. هل يحق لروسيا وإيران احتكار خدمات هذين المرفقين والتحكم بهما أم السماح بتشغيلهما دولياً؛ اما سوريا الاخرى، شعباً وحضارة، فقد غابت تماماً عن النقاشات الجدية، حتى ان قضية تخويف أوروبا بالمهاجرين جاءت على هامش ابتزاز الروس والإيرانيين للعالم، بضرورة اعترافهم بحقهم المطلق والحصري بالانتفاع من الميناء والمطار.
على وقع ذلك، ليس غريباً أن يصار إلى شرعنة تعريف سوريا الجديدة ب «سوريا المفيدة»، ذلك الحيز الذي يطوي في تضاريسه ميناء طرطوس ومطار دمشق، وتجري المساعي إلى بلورة هذه المنطقة ضمن كيان منظم بحيث يضم في داخله أفضل السوريين، اولئك الذين كانوا مرنين ومتفهمين لوضع الأسد وظروفه وتحوّلاته، وشكلوا تالياً عاملاً مساعداً في تحقيقه لتصوراته الاستراتيجية وإكمال مسيرة ونهج مؤسس الوظائف والأدوار. أما ما تبقى من جغرافيا وناس في سوريا التي لا ينطبق عليها أي اسم حتى ولو بالمعنى السلبي، كأن يقال عنها «سوريا الضارة» وذلك لعدم تماسكها جغرافياً، هذا الحيز يجب أن تطبق عليه نظرية انتقام الجغرافيا وجعلها معزلاً أو مجموعة معازل بلا هوية ولا أفق مستقبلياً.
سوريا، ميناءً ومطاراً، هذه وظيفة ليست غريبة في السياسة الدولية التي حوّلت يوما الكاميرون إلى مجرد خط انبوب لنقل النفط النيجيري، كما حوّلت شعب الكونغو إلى قبائل متقاتلة على ضفاف مناجم الكولتان» المعدن الذي يستخدم في صناعة الهواتف النقّالة». وهذا النمط من الوظائف الذي يعتمد على رهن الجغرافيا لطرف براني، هو بداية لتمزيق نسيج ووحدة البلد وانحطاطه إلى مراحل ما قبل التكوين «الدولتي« وما قبل الحداثة؛ وهو إعلان عن خروج أي بلد من حيز التفاعل الدولي إلى خانة المفعول به. لكن لا بد من الانتباه إلى أن هذا الخيار كان دائما الخيار البديل لدى الحاكم غير الوطني والقبلي وغير الحداثي أيضاً، لأنه يضمن استمرار وجوده شريكاً، ولو بدرجة ما في الانتفاع من عائدات تأجير الجغرافيا الوطنية.
المستقبل
