حين انتصر “حزب الله” على السنّة .. وهزم الشيعة
إيلي عبدو()
الحسم الذي أحرزه الجيش اللبناني ضد مسلحي الشيخ السلفي أحمد الأسير في مدينة صيدا، يتعدى في دلالاته البعيدة، ما أسماه البعض انتصاراً للمؤسسة العسكرية ضد إحدى بؤر الفلتان الأمني في البلاد. فالمواجهة تلك، تندرج في سياق سياسي آخر، يتعلق بالصراع الذي يخوضه حزب الله ضد الطائفة السنية في لبنان وسوريا في آن معا. صراع يختزن في معانيه ذاكرة المذهب ومصالح السياسة.
ولا ريب في أن البدايات الأولى لهذا الصراع كانت لحظة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري سنة ،2005 ليتضح في نتائج التحقيق لاحقاً أن منفذي العملية ينتمون إلى كودار الحزب الشيعي المدعوم إيرانياً. ما حدث آنذاك كان ضربة قاصمة للسنة في لبنان، إذ فقدوا قائدهم السياسي وجسر ارتباطهم بالمحيط العربي. سرعان ما استكمل الحزب سلسلة انتصاره على الطائفة بالهجوم على بيروت سنة 2008 وترهيب أهلها، في واقعة لم يُخطئ أحد قراءة دلالتها الطائفية، واستثمارها في السياسة. بعد مقتل الحريري كان لابد من إلغاء وريثه السياسي عبر 7 أيار نفسي (القمصان السود)، والإتيان بشخصية سنية ضعيفة إلى رئاسة حكومة من لون واحد، يرعاها الحزب الإلهي. هكذا، فقد سنة لبنان مراكز قوتهم عبر سياسة ممنهجة مضبوطة اتبعها حزب الله بمساعدة حلفائه لتأتي الثورة السورية في 15 آذار 2011 وتحي آمالهم باستعادة ما فقدوه. إذ لم تتعدى الانتفاضة الدمشقية شهورها الأولى حتى تبدى وجهها السني الرافض لهيمنة نظام تمسك أقلية علوية بمفاصله، وتقاطعت استفاقة السوريين مع التقاط العالم السني انفاسه، عبر ثورات مصر وتونس واليمن وليبيا ووصول الإسلام السياسي إلى السلطة. كل ذلك انعش المزاج السني اللبناني.
لكن، حدثان متباعدان أعادا الطائفة في لبنان إلى يأسها القائم، الأول اغتيال اللواء وسام الحسن مسؤول فرع المعلومات والشخصية الأمنية (السنية) الأقوى في البلاد. هذا الاغتيال قُرأ بوصفه استكمالاً لتصفية رفيق الحريري جسديا وتصفية نجله سياسياً. بدت الطائفة مكشوفة بالمعنى الأمني بعد اغتيال الحسن، أو أقله صار قادتها وسياسييها تحت مجهر الاغتيال.
الحدث الثاني، كان انخراط حزب الله في الصراع السوري وحسمه معركة القصير ضد ما أسماهم “المجموعات التكفيرية ” وما رافق ذلك من كلام استفزازي واحتفالات وتوزيع ” بقلاوة” ورفع رايات الحسين مصحوبةً باستعادة خلافات تاريخية، وثارات وأحقاد.
في ظل سلسلة الانتصارات تلك، التي أحرزها حزب الله على الطائفة السنية غير آبه بالنتائج، قويت الجماعات السلفية والجهادية وراحت تنظم نفسها لمواجهة خطره. كان الشيخ أحمد الأسير واتباعه أبرز هذه الجماعات وأكثرها تحديا لحزب الله بحكم الموقع الجغرافي والخطاب العالي النبرة. وعلى الرغم من البعد الكاريكاتوري لظاهرة الأسير وتنصل معظم القيادات السنية منه، فقد اكتسب شعبية داخل الطائفة تعدت مدينة صيدا لتصل إلى بيروت والبقاع وعكار ومناطق لبنانية أخرى.
تعاطف الاجتماع السني مع الأسير لم يكن قناعةً بأفكاره المتطرفة، بل لأنه تبدّى كالحصن الأخير للسنة في مواجهة حزب الله بعد طرد قادتهم وتصفيتهم وإضعاف مراكز قوتهم في الدولة. لقد تولى الجيش اللبناني أخيرا مهمة القضاء على الظاهرة الأسيرية، تاركاً الكثير من الندوب في وعي الطائفة الكبيرة.
ليس الغرض من سوق الوقائع السابقة، نزعها عن سياقاتها السياسية التي وجدت فيها، فإذا بدت للوهلة الأولى متباعدة زمنياً منذ 2005 وحتى اليوم، فهي بنتائجها العامة تشكل مساراً طويلاً من “الاعتداء” على الطائفة السنية، مارسه حزب الله بأساليب ومناورات سياسية مختلفة. بدءاً من اغتيال رمز الاعتدال السني مروراً بضرب المواقع الرسمية وإزاحة القادة الأمنيين وصولاً إلى القضاء على أبرز الظواهر الجهادية المتطرفة وأكثرها نيلاً للتعاطف داخل الطائفة.
تكشف هذه الوقائع حجم الانتصارات التي حققها الحزب ضد السنة في لبنان دون أن يُحسن قراءة النتائج على مستقبل الطائفة التي يمثل سوادها الأعظم. ولن نأتي بجديد إن قلنا أن حزب الله يعمل وفق أجندة إيرانية هدفها الاستحواذ على أكبر مساحة للنفوذ في المنطقة. ولعل الثورة السورية والخشية من فقدان الحليف الاستراتيجي دفعا القيادة في طهران لتحصين مواقعها داخل العراق ولبنان. في هذا السياق يصبح دور الحزب في تهميش دور الطائفة السنية مفهوماً و مدروساً.
وعليه، فإن خطورة هذا الدور تتمثل بربط مصيره بمصير الطائفة الشيعية ككل. فانتصار الحزب على خصومه في الداخل هو مكسب للجمهورية الإسلامية الإيرانية التي من المرجح أن تلجأ في أي لحظة إلى عقد تسوية على مستوى المنطقة، حينها سيبقى حزب الله وحيداً، و ستغدو الانتصارات هزائم، لأن الأداة التي تستخدم في الحروب وإلغاء الطوائف الأخرى لا تصلح للسلم وعقد المصالحات. عندها، لن يجد حزب الله يداً سنيةً تصافحه لا في جهة الاعتدال الذي هجّره ونكل به و لا في جهة التطرف الذي اتخذه عدواً. سيضاف إلى ذلك، ذاكرة سنية فيها أكثر من حسين وسلسلة من الكربلائيات. والمؤلم هنا، أنه سيأخذ عموم الشيعة معه في هذا الخيار الانتحاري. فإذا وجد في لبنان شخص يدعى نبيه بري قد يعوض بعضاً من عزلة شيعية مرتقبة، فإن مثل هذا الرجل ليس موجوداً في المحيط السني العربي الذي بات نابذا للحزب (المقاوم) ولجميع مؤيديه من الشيعة.
سيكون الحزب حينها وجهاً لوجه أمام الطائفة التي يُمثل، وقد حوّلها إلى اجتماع معزول يفتقد سبل التواصل مع محيطه . حزب الله يملك من القوة ما يكفي ليحرز الانتصارات على الطائفة السنية في لبنان وسوريا، القوة نفسها التي ستؤسس في المستقبل لهزائم الطائفة الشيعية.