صفحات الرأيعزيز تبسي

حين تتفسخ الطغم السياسية: مِثال سوريا


عزيز تبسي *

يتذكر الأوادم بعضهم في الملمّات العصيبة، حيث الفرصة مؤاتية لاستنهاض حزمة القيم الأخلاقية ونفض الغبار عنها، ما يهيئ لإضاءة أنوار التعاضد والتراحم. الشرط القسري السوري يبدأها بتقاسم الرغيف وأطباق البرغل وحفنات السكر وضمادات الملح الذي يُشد على الجرح، في معنى ملموس للصبر المفضي إلى الفرج، الفسحة الحقيقية لاستدراج الأمل البري وتدجينه وتأهيله. وكذلك بمد شبكة تعاون لا يعيش الناس بغيرها. وهم طالما عبروا عن حاجتهم لبعضهم البعض بفرارهم من عزلة تراءت لهم عقوبة جهنمية غير محتملة، فاشترطوا الجماعية على ملاذهم المأمول، كمكافأة مجزية لاستقامتهم وورعهم: “الجنة بلا ناس ما بتنداس”. أما أبناء الطغمة العسكرية وأعوانها، فتكون الملّمات فرصة ليتنابحوا ويعضوا بعضهم، ويتناهشوا لحم بعضهم، ويلوكوه ببهجة.

نحن شرفاء، وهذا الرجل نذل

تتحول الأحزاب، التي يفترض بأنها الشكل الأعلى للتعبيرات السياسية ولانتظام الجماعات الاجتماعية وإنتاج وعيها ومعرفتها وفاعليتها، إلى مراح عائلي ترعى فيه قطعان الأغنام والأبقار والماعز الأرعن. وباتت تكنى بأسماء أصحابها وتورث لإبكارهم.

خالد بن قوطرش بكداش يكتشف انحراف ودناءة وعمالة نائبه لسنوات طويلة خلت، يوسف فيصل، في اللحظة عينها التي ينشق عنه، لا قبلها بثانية ولا بعدها بثانية. وابنه ووريث بردعته الفكرية والسياسية، يكتشف لصوصية وعمالة الرجل الثاني في حزب أبيه وأمه، المدعو قدري جميل آغا، وهو بالمصادفة الرعوية صهره لأخته الوحيدة، لكنه يكتشف كل ذلك بعد انشقاقه.

ويكتب هؤلاء على أبواب مقارهم المتخالفة: ليس لنا علاقة بأي مقر يحمل الاسم ذاته، وهو يتراءى لأصحابه قمة فكرية – سياسية، في نسخ للنمط التجاري وعلامته المسجلة. وهم، بعموم دكاكينهم، يؤدون الوظيفة نفسها التي هجرها معظم من يملك بعضا من وعي وكرامة وأخلاق، ويتنافسون في ما بينهم على أفضلية الجودة والإتقان، أي تلميع أحذية المجموعة الحاكمة وكي وتعطير ثيابها. ولأنهم كذلك، لم يعد الناس يهتمون بتلك العبارات التي تتوخى التمييز والتدقيق بين هذه الجماعات، وأساليب نطقها، ما دامت تعمل على تحقيق الغاية ذاتها وتسلك الطريق ذاته.

تكتشف المجموعة الحاكمة، التي تفتخر بإحصاء الشهيق والزفير على مواطنيها ومن في مقامهم من لبنانيين وفلسطينيين، أن رئيس وزرائها السابق (محمود الزعبي) لص كبير، فتقيله من موقعه وتفرض عليه الإقامة الجبرية، قبل أن يبكته ضميره ويدفعه إلى الانتحار، في لزوم ما لا يلزم من حوادثها، بثلاث طلقات لا غير! ويتبعه بعد سنوات انتحار آخر، العميد غازي كنعان، المكلف بموقع حاكم لبنان، ومحملاً كمكافأة مفتاح عاصمته، ربما لكونه شريك سارقيها، ومفتّت ما بقي متماسكاً في بنيته الاجتماعية، لا بقدرته الذاتية الآدمية، بل بالحجم المهول للقوى التي كانت تحت حيازته والمسخّرة لتحقيق هذه الغايات لا غيرها.

ويغادر نائب رئيس الجمهورية متشققاً ومنشقاً بذاته ولذاته، فيعقد أعوان المجموعة الحاكمة جلسات من مطولات الزجل والشروقي، يتحدثون فيها عن نذالات المنشق، ومنها على سبيل الحصر القاسم المشترك الأعظم بينهم جميعاً: لصوصيته، وتخريبه البيئة الطبيعية للكائنات الحية بدفنه نفايات ذرية، وقد سبقهم الناس في التهامس بها قبل سنوات من هذه الحفلة المخابراتية الصاخبة. ويظهر هذا المنشق كنجم على وسائل الإعلام، جالساً على مقعد من عصر لويس الخامس عشر الشهير في عالم الأثاث الباذخ لمنازل الأثرياء، في صالة واسعة حيث الجداريات الفاخرة والمزهريات البوهيمية وطرائح السجاد الأصفهاني، يتحدث بسلسلة تكاد لا تنتهي من الأكاذيب، يقدم نفسه نظيفاً شريفاً عفيفاً، واعياً لمصالح الشعب والضرورات السياسية التي يتوقف عليها تطوره ونهوضه، كالديموقراطية على سبيل المثال، التي ما انفك يطعنها حين كان نائباً للرئيس في صدرها وقلبها حين كان مدافعاً عن الطغمة العسكرية ومخوناً كل من عداها ومطالباً بأقصى العقوبات لمن يهمس بها، ومهدداً “بقص لسان” من يلهج بها. ولم يُسمع منه اي نقد ذاتي في مطولات مسلسلاته ولا أي اعتذار عن مشاركته السلطة الانقلابية في مراكز إدارية وسياسية عالية طيلة فترة تقارب أربعة عقود. ولم تسمع منه نيته تسليم ما تجمع له للخزينة العامة، أو كشفه للدوافع الحقيقية لانبعاث ضميره من الموت، فيكون لهذا الانبعاث فوائد تعليمية – تربوية تساهم في عدم فقدان الأمل بالضمائر الميتة. وسيتبعه بعد سنوات العميد في الحرس الجمهوري مناف طلاس والسفير نواف الفارس ويسبقهما بصمت رئيس الأركان حكمت الشهابي ووزير الزراعة أسعد مصطفى وقائد سرايا الدفاع رفعت الأسد، ولكل من هؤلاء سيرة سوداء.

والشعب المغلوب على أموره ينظر متأملاً، بعد أن يشعل لفافة التتن، في سؤال: هل نحن من أتى بكل تلك الدببة إلى كرمنا أم أنهم اقتحموه عنوة، وهل يحْتمل كرمنا كل هؤلاء؟

عوالم مغلقة وغامضة

تلك، العائدة الى الطغمات العسكرية، لا يُعرف عنها شيء بشكل يقيني. وهي بعمومها عوالم أشرار، يُتلصص عليها كخدم مسرحيات موليير وهم يتعقبون أسرار السيد والسيدة من غرفة النوم إلى الشرفة إلى فرار يأخذ شكل رحلة استجمام. وبعد أول “دوش” دافئ في بلاد الفرنجة، تنحل أصبغة القومية العربية المزيفة، وتظهر الطائفية المبيتة كأيديولوجيا بديلة، سهلة التداول والإقناع لمستمع تم تجهيله ببرامج منهجية عُمل عليها لنصف قرن. وأما ما تبقَّى له فرأسمال فكري متواضع تحدده مستوطنات الخوف، زوّادته التامة أمام نشرة الأخبار السلسة وسهلة الهضم والتي تنتهي كل يوم، بالمصادفة، ببضعة كلمات متشابهة: تبدأ بالخلط المتعمد بين الشعوب المقهورة وحكامها، وتستمر بتنظيف ما لا يُنظَّف في بعض الأنظمة العربية وحكامها، وتجميل ما لا يُجمَّل في سياساتها وارتباطاتها، وتنتهي بالإيحاء بأهمية التاريخ الدوراني وحتميته، لتعود الشعوب إلى تفهّم صعوبة التغيير الثوري والإقرار بنمط من المصالحة التوافقية.

الفرار أو التملص أو الانشقاق عن الجسم الحربي أو السياسي للمجموعة الحاكمة، يأتي من عشرات الدوافع التي تحمل عناوين عريضة، منها الوطني والديني والطائفي والانتهازي والمدفوع الأجر والثوري… وأبرزها اليأس من إمكان إنتاج مشروع إصلاحي تأتي به الطغمة من داخلها المغلق، ليفتح بقعة نور في النفق الطويل. فبوضوح وتجريبية، يمكن تلمس غياب أي اتجاه إصلاحي منذ غزوة 8 آذار، رغم كل هزليات الإصلاح بطرقه السريعة أو قادومياته التي أنتجتها القوى السياسية التقليدية واعتاشت على مضغها لنصف قرن مضى. ففي جميع مسارات صراعاتها، احتفظت الطغمة العسكرية بالداخلية الانغلاقية (تموز 63، شباط 66، تشرين الثاني 70، صراع 83-84) ولم تسعَ لتوسيع الصراع، وكسر مملوكيته بإدخال قوى جديدة والاستعانة بها، كالاستنجاد بالعامة على سبيل إكساب الصراع طابعاً شعبياً وتلوينه بألوانه. وترافق ظهور الحتميات التوريثية في أواسط الثمانينيات وبداية التسعينيات (باسل الأسد)، مع ميول احتكارية تحددت ملامحها في الخيارات الاقتصادية للطغمة العسكرية بضروب من الليبرالية الانتقائية. ومع التوريث بدأ تضييق دائرة القرارات لضمان حصريتها. وفي إعادة إنتاج الطبقة الحاكمة/المالكة وفق هذه الشروط الجديدة، طُرح بالعديد من أعوانها إلى خارجها، ما أسس موضوعياً لحالة من التذمر، وانتعاش متأخر لرغبة في نقد التجربة، تأخذ تبرئة الذات ركناً أصيلاً فيها، ويجري انتحال صفات من التمايز والنقدية الصارمة لمحطات انتقائية وكيدية. وهي لاأخلاقية بما يخص أناس تقاسموا الغنائم والمسرات والقمع لعقود من الزمن. درج العموم على تسمية هذا النمط من السرديات المخادعة التي يلفقها المنشقون بـ”الكذب على الأحياء”، ليبقى لها جانب مفيد في سياقات غير نضالية راهنة: كسر السرية عن الممارسات السياسية، وفتح بضعة كوى في جدران قصر السلطة المصمتة، لإطلالة العامة عليه واكتشافه. وهذا كله يمكن توصيفه كمظهر من مظاهر تشقق السلطة وتفسخها، أكثر من كونه حالة ثورية مولّدة لاستقطابات وبناءة لاتجاهات تتأسس على نقد الطغمة بوصفها السلطة السياسية. فلا جديد يقدمه أعوان تلك السلطة وزبانيتها المطرودون، أو الفارون منها، سوى إعادة مضغ الحكايات التي باتت تأخذ شكل نمائم مبتذلة.

* كاتب من سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى