حين تختلط التخوم
جلال / عقاب يحيى
من زمان، زمان عقود نظام الاستبداد، كتبنا الكثير وأفضنا في تحليل بنيته الطبقية، والاجتماعية، وارتكازاته الأمنية، العسكرية، الطوائفية، المظهرية.. ودخلنا مراراً لبّ التحليل الطبقي والطبقوي، وتجلياته الصارخة، وتلك الرابضة في المخفي، والزوايا الضامرة للعين التي لا تريد التنقيب، وفصصنا كثيراً في “رأسمالية الدولة” وكيف تخلق طبقة بيرقراطية ليس لها من صفات البرجوازية إلا الاسم، بينما هي متوحشة، نهمة، ممسكة بكل القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهي ضد الحريات الديمقراطية على طول الخط لأنها أقلوية طبقية واجتماعية، وأقلوية فئوية، وأمنية الارتكاز، عسكرية القاعدة الحامية، كما تناولنا بقوة صفات البرجوازية الطفيلية التي نمت في أحشاء النظام وعلى هوامشه، ومساراتها، وشبكة علاقاتها، وفحواها غير الإنتاجي.. ثم نمنا طويلاً على فراش هذا التحليل الطبقوي.. في حين كان نظام الاستبداد التوريثي يمعن في احتقاره لأدنى حقوق الشعب، ويلبط بقوة الفشخرة والتبجح كل إصلاح سياسي ولو شكلياً، ثم يلتفّ على وعود الإصلاح بفذلكات لغوية، وتبريرية تؤكد أنه غير قابل للإصلاح مطلقا، وأن الحل الوحيد لضمان التغيير الديمقراطي السلمي لن يكون إلا عبر تهشيمه وتفكيكه ..
حين حدث الزلزال العربي.. ظنّ النظام، والكثير من المبوقين، واليائسين أن بلدنا بمنأى عن أي حراك، والعديد أمعن “البحث” في عوامل هذا الرأي مقدماً الأسانيد التي تتمحور حول موازين القوى المختلة لصالحه، وكمّ الخوف الذي يسود الساحة، وهو الخوف المزمن ـ المانع، وطبيعة النظام الأمنية القوية، ، وقاعدته الشعبية، وسياسته الخارجية..إلخ، وكان ذلك يصبّ في طاحونة خطابه التسويقي، الفوقي، الممعن في عدم رؤية التطورات والوقائع إلا من خرم ذات مصابة بعاهات النرجسية والسادية، وبأمل أن يبقى بمأمن من بركان الثورات العربية المتنقلة ..
*****
في سنوات البيات الطويلة، سنوات انتظار”كرم” النظام، وسنوات العجز، والتشتت واليأس من التغيير.. نزلت المطالب إلى السقف الأدنى، فغاب تماماً خطاب السبعينات والثمانينات بإسقاط النظام(حتى وإن كان مجرد شعار يتوافق والتحليل الموضوعي).. ونبتت شعارات أخرى تدور في فلك مزاج النظام وتوجهاته : انتظاراً، وأملاً..وتشتتاً.. حتى كانت درعا المفاجأة، ودرعا شرارة الثورة السورية ..
هنا تطابق التحليل الدقيق لبنية ونهج النظام مع ممارساته على الأرض حين ظهر عصيّاً على أي إصلاح، بل وحتى الاعتراف بالحد الأدنى من المطالب المشروعة للشعب(الإصلاحية المتصاعدة) . أكثر من ذلك : ذبح النظام جميع المراهنين عليه، وأصحاب دعوات الحوار معه(بشروط متفاوتة، متناوبة، أو بدونها) من الوريد للوريد، ووضع المجتمع السوري أمام خيار وحيد : إما نظام القتل والأحادية والتجييش الطائفي الذي يهدد بقيادة البلاد إلى الحرب الأهلية، وحتى استدراج الخارج.. وإما لا شيء . أي الخنوع التام، فالتحلحل قليلاً في خطاب الوعود الموعودة الذي فرضته ضربات الشعب السوري وبعض الضغوط التركية وغيرها، ولا شيء غير ذلك أبداً ..
******
إن كل التحاليل، كل الوقائع، كل الظواهر تؤكد أن النظام برمته(بدءاً من رأسه ـ بل وقوفاً عنده) إلى أخمص طغمة فيه، هو الأزمة، وهو بيت الداء، وهو العقبة التي يستحيل الانتقال بوجوده إلى الديمقراطية، وأن المخرج الطبيعي، الحل والممر الوحيد لبناء الدولة الديمقراطية المدنية، وإيقاف الدماء والقتل والتهجير، ومنع انحدار الوضع إلى مزالق خطيرة لن يكون إلا من خلال سقوط الاستبداد بالقوة، أو بالتآكل، وعبر ثورة الشعب أساساً وما تحدثه من متغيّرات يومية، وليس باستقدام الخارج، أو التعكيز عليه.. وإن كان لمواقف الخارج الرافعة للغطاء عن النظام أثرها في التعجيل بإنجاز هذه المهمة المحورية، وخاصة الهيئات والمنظمات الأممية والحقوقية والإنسانية، وعبر المواقف السياسية …
في زحمة هذه الحقيقة التي يُجمع عليها الشعب السوري الثائر، بلجانه التنسيقية، وفعالياته الفاعلة على الساحة، تبرز أسئلة مشروعة عن الكيفية التي سيتمّ بها تحقيق الهدف المركزي، فتتعدد الاحتمالات والسيناريوهات، وتدخل على الخط آراء معارضة تبدو أنها تغني خارج السرب العام، والداعية إلى الحوار مع النظام، ورأسه بالتحديد، على قاعدة : القناعة بأن ذلك هو الطريق الوحيد المتاح لإيجاد “مخرج للأزمة”.. وإلا .. السقوط إلى المجهول، وفق رأيهم .. ولهذا تكثر، وتتكاثف الدعوات لترجمة هذا الاتجاه في خرائط طريق، ومبادرات، فالدعوة لعقد مؤتمر لما يسمى ب”قوى التغيير” من داخل النظام وخارجه.. في حين أن النظام لم يقدّم شيئاً، ولم يلبِ شرطاً واحدة من الشروط التي أعلن البعض عنها كمقدمة وتمهيد للحوار ….
لقد سبق وكتبت تصوري للمخرج السوري المتمحور حول قناعة راسخة : وجوب تفكيك وإنهاء نظام الاستبداد كمدخل وحيد للعبور إلى التغيير الديمقراطي وإقامة النظام البديل، ولم يك بوارد قناعاتي المبنية على حقائق فهمي للنظام والذي أكده في كل خطواته، وإيغاله بعيداً في القتل والسادية والاعتقال والتعذيب والتهجير.. أن التغيير سيمر عبره وبالحوار معه، لأن فاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه، ولأن النظام لن يُقدم على أية خطوة جدّية هي بمثابة الانقلاب عليه، وبداية النهاية له، وأن أقصى ما يسعى إليه كسب الوقت والالتفاف بالقوة القامعة على الثورة الشعبية، ثم تكييف الوضع وفق آلياته وخدمة لبقائه مع بعض التعديلات الشكلية، إن فرضت الضرورات ذلك .
وحددت، كما كثير ممن تناولوا الاحتمالات، أفضل الحلول التي يصنعها الجيش الوطني بوضع حد لنظام الطغمة العائلية، وهذا ممكن وكامن في بطن إنقاذ الوطن وتوفير الكثير من المخاطر والتضحيات والوقت، وإلا فإن صمود الشعب، وتعاظم الثورة وشمولها معظم مدن ومناطق القطر، وتوحيد، وتنسيق فعالياتها، وخطابها، وتكتيكها هو الطريق الموصل إلى الغاية، وإن استلزم ذلك الوقت والتضحيات .. تلك حقيقة تلوح معالمها بكل وضوح .
أما فزاعات الحرب الطائفية، والأهلية، والتدخل الخارجي.. فرغم التلويح بها من النظام، ورغبته القوية في استدراجها بطرق متعددة، واصطفاف بعض الحلفاء والقوى معه، وبعض المعارضين الخائفين بصدق على بلدنا ومستقبله.. ووجود جيوب لها مصلحة في تأجيجها، أو التلطي خلفها، فإنها تبقى مجرد احتمالات أبعد لا يمكنها أن تبرر، وتغطي فعل الجريمة اليومي بحق شعبنا .
إن وعي الشعب بكافة أطيافه وخلفياته الدينية ومعتقداته، وتنسيقياته القائدة لثورته، وبياناتها، وخطابها وشعاراتها، وجوهرها يقطع الطريق على محاولات النظام التطويفية، وعلى جميع من لهم مصلحة بدفع البلاد إلى هذا الاتجاه الخطير، بما في ذلك الحرب الأهلية .. على العكس من ذلك، ورغم الدفع ببعض الشعبيين، ومحاولات تعبئة بعض الجيوب طائفيا، وانفلات تصريحات، وممارسات منعزلة هنا وهناك، وتشدّق عدد محدود من التكفيريين المتشددين، فإن هوية الثورة الوطنية، وحرصها على الوحدة بين جميع المكونات، والالتفاف حول الدولة المدنية الديمقراطية التي يتساوى الجميع فيها بالحقوق والواجبات، يمثل واقعاً قادراً على الرد، وتجسيد البديل .
أما بعابع الخارج والمؤامرات، فبقدر ما ترفضها الوطنية السورية بكل مشاربها، بقدر ما هي فزاعة للاستخدام والتوظيف .
إن الشعب السوري يتقبل كل ألوان المساندة المعنوية، والإنسانية من الهيئات الدولية ومنظمات حقوق الإنسان وغيرها، بل يعمل على تأمين دعمها له في نضاله، كما يعمل على وقوف جميع الدول إلى جانب ثورته، وبما يرفع الغطاء عن نظام القمع القاتل، لكنه يرفض جازماً أي تدخل سافر في شأنه الداخلي، مؤمناً أن مهمة التغيير، والانتقال إلى النظام الديمقراطي هي مهمته بالأساس، وهو كفيل بها، وقادر عليها مهما غلت التضحيات، ومهما استغرقت من وقت منظور . بينما يدرك جيداً أن مقولات التدخل العسكري التي يفزّع بها النظام، أو يتمناها بعض المرتزقة.. ليست أكثر من فزاعة لأنها لا تتوفر على مقوماتها المختلفة .
*****
لقد أجمعت الأغلبية الساحقة من فعاليات الشعب السوري : المرسّمة والمستقلة، والشعبية على رفض ما جاء في خطاب رأس النظام، ولم ترَ فيه سوى مجرد وعود برسم الوعود، وكان مخيّباً لجميع آمال من تأمل شيئاً من النظام، أو رأسه، والغريب أن يبني بعض المعارضين موقفاً حوارياً على” كومة” الإيجابيات” التي تضمنها الخطاب، فيروح يعددها ويستفيض في شرحها وتفصيصها، ثم الدعوة إلى عقد مؤتمر(حواري) تحت هذا السقف والخيمة، وبيافطة : إما هذا الطريق وإما الدمار والخراب وتفتيت البلد!!!!.. في حين أن مروحة الاحتمالات أكبر، وأن شعبنا يملك بوعيه وسائله، وهو يعلن رفضه القاطع لأي حوار مع القاتل الذي لم يتراجع أنملة عن نهجه وممارساته اليومية .