حين تسامح الضحية القاتل هل يرجع ذلك إلى أزمة ثقافية فقط
براء الموسى
أشار الرئيس السوري في مستهل حكمه بداية القرن الحالي إلى مدى الحرية في بلاده بقوله: “ها هم في منتدى الأتاسي يقولون ما يشاؤون”، كان ذلك بعد إغلاق السلطات الأمنية لبضعة منتديات سبقت منتدى الأتاسي فيما دعي بربيع دمشق، واعتقل عدد من الرموز الثقافية والسياسية لتجرئهم على انتقاد أوضاع البلاد وغُضّ النظر فقط لمدة لم تستمر طويلا عن اجتماعات منتدى الأتاسي الذي طال هيئته نصيب من الاعتقالات بعد ما أُغلق نهائياً وعنوةً على الرغم من استخدامه كدليلٍ على “حرية البلد”.
كلمة منتدى الأتاسي تُحيل إلى تصوّرٍ لقاعة اجتماعاتٍ تُعقدُ فيها دورياً الأنشطة السياسية لواحدٍ من مكونات المعارضة السورية، ولكن حقيقة الأمر هي أن هذا المنتدى وغيره كان عبارةً عن منزلٍ سكني شخصي لفردٍ أو أسرةٍ، وكان أحياناً يغصّ بحضورٍ يُرهقه زيادةُ بضعةِ أشخاص لضيق المكان وشروطه المنزلية، ومع ذلك كانت حريّة الرأي تُمارس في البلاد بحسب المعنى المُعبّر عنه على لسان الرئيس الحالي
وفي سؤالٍ لوزير الثقافة السوري في تلك الفترة تقريباً عن الديمقراطية في سوريا أجاب: “هناك من يتكلّم بحريّة دونَ أن نعتقله”!، أوليس ذلك دليلاً كافياً على الديمقراطية؟
نستطيع تفهّمَ هذا التعريف للديمقراطية في ظلِّ نظامٍ شموليٍّ مستبدٍ، فهذه واحدةٌ من مزاياهُ، ولكن بعد انتفاضة الكرامة السورية منذ أكثرَ من سبعة أشهرٍ، ما زال يُدهشنا وجودُ نسبةٍ من السوريين توافق على رأي الرئيس الحالي و وزير ثقافته السابق.. وهي لا تُدركُ أو تعرفُ موقعها “العلمي” في ظلِّ هذا النظام الشموليّ ومن ثمَّ تُدافع عن عنجهيّة هذا النظام وقمعه مما يُجسّد المصيبة أو الطامّة الكبرى تماما كالقول الشهير للشاعر:
إن كنت تدري فتلك مصيبةٌ أو كنت لا تدري فالمصيبة أعظم.
في هذا العمق لم تعد مناقشة الأزمة الثقافية السورية بما أنتجه ذاك التعريف للديمقراطية ذات جدوى، فالأزمة أكثر تعقيداً من كونها ثقافيةً فقط، بل هي مزيجٌ صادمٌ من خللٍ منطقي في بنية الوعي ذاته، مع أزمةٍ أخلاقية مستفحلةٍ نتج عنها بعضُ مانراه اليوم من ردود الفعل في ذروة الدماء المسفوكة يومياً على مذبح الدّفاع عن تسلّط النظام وعسفه. وفي ذلك ما يُحرّض فضولنا المعرفي لفهم هذا الخلل الذي يبدو “بنيوياً” لدى المؤيدين للنظام السوري الممعن في الوحشيّة والقمع الدموي،.فكيف تتسامح الضحية مع القاتل؟
أول الآليّات الدفاعيّة في دفاع الضحية عن القاتل، هو تكذيب فعل القتل ذاته إما بالنفي الكامل أو إحالة الفعل إلى غير فاعله الحقيقي باختلاق قاتلٍ مُتَوهّمٍ. عدم التصديق هذا تتوفر فيه إرادةٌ مُسبقةٌ لعدم التصديق، إنه تصوّرٌ مرعبٌ للاختلال في مواقع الرسوخ الروتيني للحياة وأسبابها. اهتزازٌ في الأمن والاستقرار، وخوفٌ باطنيٌّ في المُساءلة والمحاسبة على تفاصيلَ مخفيّةٍ في ساحة الضمير، وخوفٌ واضحٌ على مُكتسباتٍ معتادة.
وثاني آليّات الدفاع هو التبرير، ففي حال التصديق الذي “لا مفرَّ من أدلّته وبراهينه “يختلق العقل مبرراتٍ تُخفف من أوجاع الضمير “المتمرّن” لصالح مجموعةٍ من المصالح أولها: دفع الشرور الباعثة للخوف وآخرها أنانية النجاة مع أحلامٍ في مكتسباتٍ وافرة.
على أن التكذيب والتبرير هما أنشطةٌ عقليةٌ قائمةٌ على المحاكمة المنطقية للعقل وذلك ما تُجسّده على الأرض النخبُ المستفيدة والمُتزلّفةُ للنظام (مثقفون إعلاميون مشايخ شخصيات عامة… الخ)، وليس من خافٍ أنّ هؤلاء يمتلكون الحدَّ الأدنى من الاستقراء والاستنتاج، وهم قلّة بالنسبة إلى جمهور المؤيدين للنظام، وذلك بفعل “تجهيلٍ” مزمنٍ أرساه النظام عبر نصف قرنٍ تقريباً من حكمه.
فالتجهيل والإفقار المُمنهجان وإشغال الناس حتى الانغماس في ظروف الحدّ الأدنى للمعيشة هي وقود دوام السلطان وبقاء الكرسي دون منافسة. وللإفقار منافع أخرى في ترسيخ الارتباط الجذري للحاجة مع السلطة. فعبر نهبٍ ممنهجٍ ومكثفٍ ترافق مع انفجارٍ سكاني، دخلت إلى سوق العطالة أفواجٌ غير مسبوقةٍ انعكست أميةً وجهلاً منذ التعريف الأولي للأمية وحتى ذلك الفقر الحضاري في ميدان الثقافة، التي هي الحجر الأساس للنهوض بالأمم والدول.
وراء هؤلاء النخب الأمامية للدفاع عن الاستبداد يصطفُّ أتباعٌ لهم، و يبدون في نوعين مكمّل أحدهما للآخر:
1 المقلّدون (المتماهون):
ليس لهؤلاء المقلدين شخصيةً مستقلةً برأيها، فهم على هوى الشخصيات التي يتبعونها رأيا. مهمتهم التي يتنطّعون لها -حتى دونما تكليف -هي الدفاع عن الآراء والأشخاص في مخبرٍ عقليٍ يختلط فيه الأشخاص والآراء معاً في ضبابيةٍ يصعب فيها الفصل بين الأشخاص “القدوة” و آرائهم مما يُرهق العقل غير المتمرن على إنتاج الأفكار بل استهلاكها، لتكون النتيجة هي الاتّكال على الثقة المُسبقة بالقدوة في تسليمٍ انهزاميٍ من مواجهة الحقائق الجديدة ومعالجتها العقلية “المُتعبة”.
2- الببغائيون:
في أسفل هرميّة جمهور المؤيدين للنظام، وبعد كلّ جرائمه، يقبع أولئك الذين يفتقرون إلى نسبةٍ معينةٍ من المحاكمة العقلية، ناهيك عن المحاكمة الأخلاقية ليردّدوا ما قد سمعوه متوهمين بالاقتناع كآليةٍ دفاعيةٍ للإحساس بوجودهم، ويتّصف هؤلاء بالشراسة والجبن في آن:
الشراسة للتعجيل في الهروب من المسؤولية الأخلاقية كحلٍ تخديريٍ مؤقّتٍ لأوجاع ضميرٍ كامنة، والجبن كآليةٍ معتادةٍ لإبعاد ثقل التفكير والمحاكمة العقلية.
من فهم هذه الخلطة بين الشراسة والجبن ربّما نستطيع إشباع بعض فضولنا المعرفي حول المشاهد المؤلمة التي نراها في ممارسات السلطات السورية من القتل والتعذيب والتنكيل، وفوق كل هذا الألم تتحفنا أبواق النظام في كل طلّة إعلامية لهم بمزيد من “الضحك الأسود” المرير.
فهل تراه سيأتي قريبا ذلك اليوم الذي ستتاح للعلم فرصة الشرح لهؤلاء المؤيدين وزعمائهم بأنّ ما يفعلونه الآن هو عبارةٌ عن “انتقامٍ احترازيٍّ مُسبق”؟
() كاتب سوري
المستقبل