حين تغرق في كنبةٍ من الخواء/ نجوى بركات
حين لا تطاوعك يدك، ولا تذعن لك أفكارك. حين لا تشعر بالرغبة في شيء، ولا يشعرك شيءٌ بأيِّ شيء. حين تجلس في كنبةٍ من الخواء، وتغرق فيها كما تغرق في مقعدٍ من فراءٍ وليونةٍ وريش، متمنيا أن لا تكونَ أكثر من برهةٍ، أن تمرَّ كما يمرّ الوقتُ، الدقائقُ الثواني واللحظات، ثم تختفي كفقاعة صابون، على هدأةٍ ومن دون صوت.
عندما لا يطاوعك الكلام، أو تهرب العبارة الملعونة منك، كسمكةٍ تبعط وتقاوم، حتى تفلت من الصنّارة. عندما لا تعود ترى وتسمع، تصير أبكم أصمّ أعمى، غير قادرٍ على الإتيان بحركة. عندما تغادرك الحياة، تلك الحياة، ثم تقف على مقربةٍ متعاليةٍ، أنفة، قبل أن تصفق وراءها الباب. عندما لا تعود ترغب ألبتة بأن تكون، فتخرج من مسامّ جسدك، وتنسلّ خارجا كمجرمٍ تائبٍ لن يعود على خطاه.
وإذ تكون في الدرجة صفر من العيش، ولا يرغب بك حتى الصمت، ولا تجد متّسعا ولا ثقبا تركن إليه، فما تراك فاعلٌ، يا ابن آدم، وخلف أية أسماء أخرى ستتلطى، كي لا تقع عينُه عليك فيناديك؟ لستَ في الجنة، ولا أنت في الجحيم. لا أنت قبلهما، ولا أنت بعدهما. أنت في اللامعنى. في اللا شيء. ياه، كل هذا وما زلت من اللاشيء وإلى اللاشيء تعود؟
تعال، قف بجانبي، وانظر إلى تلك الهوّة السحيقة، حيث تتدحرج أطياف وحجارة وعظام. رَ كل هذه الأطراف وقد تخلّعت، الرؤوس وقد قُطعت وتهشّمت، الصخور وقد تفتتت، رَها تتلاطم وتتقافز، وقد اختلط هباؤها بغبارها. والآن، أمسِكْ نفسَك ولسانَك، ولا تأتِ بحركة. أجل هكذا، أغمض عينيك… أتراه ذاك النفناف؟ رقعٌ ثلجيةٌ بيضاء تتساقط بهدوء، وثمّة سهلٌ غارقٌ في دمائه، ممتدٌ إلى ما وراء الأفق، إلى ما خلف ذلك الضباب، وصفحةٌ من ماءٍ تبدو وكأنها طافيةٌ في الهواء. ثمّة آثار خطى صغيرة على الثلج الهفهاف، وملائكةٌ طائرةٌ بأجنحة شفافة، وأثواب لامعة فضفاضة الأكمام، تصعد من الهوة إلى الأعلى، كألسنةٍ من نار.
وإذ تفتح عينيك، تراها تتراقص حانيةً في سديم رأسك، تلكزك في ظهرك: أتكون قد نسيتَ؟ أحقا نسيتَ؟ ياه، أجل، لقد نسيتَ. لطالما كان لديك منهم ثلاثة، أولئك الملائكة الصغار بأجنحةٍ شفافةٍ تذرّ في الأعين رمادا وفضّة. أسماؤهم؟ يا للعار. إنهم سيوران، بافيزي، وبيسّوا، رفاقُ يأسك وندماء شقائك، وحتما لاحقا خلاّن شيخوختك، لو قيّض لك أن تعيش يا مسكين حتى ذاك. أحقا نسيت سيوران وكتابه “في مساوئ أن نولد”؟: “علامة واحدة تثبت أننا فهمنا كل شيء، هي أن نبكي دونما سبب”، و”الرذائل مرنةٌ بطبعها، يساعد بعضها بعضاً، ويتسامح بعضها مع بعض. أما الفضائل الغيورة فهي تتخاصم، ويلغي بعضها بعضاً، وليس من مجالٍ إلا وتبرهن فيه على تنافرها وعدم تسامحها”… و بافيزي المتخبّط في ممارسته “مهنة العيش”، أنسيتَه هو أيضا؟ “نحن لا ننهي حياتنا من أجل حبّ. نحن نقتل أنفسنا لأن الحب، أيّ حبّ، يكشفنا في عرينا، في بؤسنا، في عجزنا وفي عدمنا”. وأخيرا بيسّوا و”كتاب اللاطمأنينة”: “كما نغسل أجسادنا، يجب أن نغسل أقدارَنا، وأن نبدّل حياتنا كما نبدّل ملابسنا”.
أجل، هو هذا. لقد تذكّرتَ. من الآن فصاعدا، لا تتخلَّ أبدا عن ملائكتَك تلك. أبقها قريبةً منك، في متناول يدك. إن يأسها وسوداويتها وتشاؤمها هي منارتك الوحيدة في كل هذا الليل. تشبث بأناجيلها، وثق أنّ زمنها الماضي ليس أسوأ من زمنك، إن لم يكن العكس. حسنا أنك تذكّرت. فلتجلس وإياها، في هذه الليلة التي سبقت انبثاق الليل والنهار. فلتجلسوا معا ولتتكاتفوا، ما هي إلا ساعاتٌ ويطلع الصبح.
العربي الجديد