صفحات الناس

حين خرج طارق من حمص القديمة/ فادي الداهوك

 

اللحظات عصيبة، والترقب سيّد الموقف. طارق يرفض الخروج منذ ثلاث سنوات. يعتبر ذلك تخاذلاً، ولا سيما أنه كان مغتاظاً من الهجرة الكبيرة التي أكلت شباب حمص العدية، كما يطرب السوريون في تسميتها.

يصعب كثيراً الحديث مع أحد هناك. في الأحياء المحاصرة. وئام بدرخان، التي عرض فيلمها المشترك مع السينمائي أسامة محمد، “ماء الفضّة”، في مهرجان “كان” في فرنسا قبل أسابيع، واحدة من قلائل، يتمكنون من الدخول إلى الانترنت في حمص “المحاصرة

بكل وداعات الكون و الخذلان و حريق الاحتمالات” كما تصفها. لم تردّ على الدعاء الذي أرسلته لها. حتماً لا وقت لذلك، الحافلات تنتظر، والنظام مثل عقْرب. وئام زارت، وما تزال، كلّ ما يمكن الوصول إليه في الأحياء المحاصرة. قبر الأب فرانس فاندرلخت، آخر موتى الحصار. جامع “سيدي خالد”، خالد بن الوليد، ملتقطة له صوراً من بعيد، وكنيسة أم الزنار في حي الحميدية. وأزهار الحصار ” بخاطرك يا ورد يا محاصر..، بخاطرك يا عشب المحاصرين..، سامحونا طلعنا بالآخر متل غيم تشرين”. هذا كان آخر ما كتبته على صفحتها. قبل أن أتحدث إلى صبا، ابنة خالة طارق.

“كنا ننبسط كتير بس نعرف إنو طارق أكل” تقول صبا. طارق الشاب العشريني، كان في سنته الجامعية الثانية، عندما أصبح “جيش حر”. شقيقاه، الأصغر، كان في الجيش الذي يقاتله طارق. في جيش النظام. سرَقَ مأذونية في الوقت الذي كان فيه ذلك الأمر متاحاً للعساكر الجدد. قرّر أن يبقى في المنزل، مع الوالدين والأخت. كان ينام واضعاً تحت الوسادة مسدساً، النظام كانَ قويّاً وقتها، وبإمكانه دخول المنازل واعتقال أي شخص. أما الأخ الأوسط، الذي يصغر طارق بعام واحد، كان مغترباً قبل أن يدخل الأربعة والعشرين سنة من عمره. كان يعمل في الإمارات. تركَ كلّ شيء وعاد ليحضر ما لن يتكرر في سوريا. عاد ليشارك في الثورة.

تقول صبا مثقلة بالأفكار التي قبضت على رأسها “متربطة إيدينا..، أنا وإمو”. أم طارق تعتبر أن ولدها تغيّر منذ اعتصام الساعة. قبل ذلك كان يغطي وجهه عندما يشارك في التظاهرات. مجزرة الساعة شكّلت نقطة التحول في حياته، وتحديداً عندما هرب بشاب مصاب على دراجته الهوائية، بعد تفريق الاعتصام الشهير فجر التاسع عشر من نيسان/أبريل 2011.

كان يقول لأهله أنه ذاهب للتظاهر، لكن في ما بعد اكتشفوا أنه يتدرّب على السلاح. دخل إلى أحياء حمص القديمة في أيار/مايو 2012، ومنذ ذلك الحين لم يخرج. كانت تقام الاحتفالات في منزل العائلة، عندما يصلهم خبرُ أن طارق ورفاقه قد وصلهم لباس يقيهم البرد بين حجار حمص السوداء. والاحتفال الأكبر كان عندما يصل الطعام.

الحصار هناك خانق، مرعب، مميت. “هو من النوع اللي بحب بطنه (يحب الطعام)، مرّة أكل ملوخية.. متخيّل؟”، تشرح صبا. ضرب من الخيال أن يأكل المحاصرون طعاماً مثل الذي يأكله الآدميون، إدخال المعونات إلى تلك الأحياء انتحار، لكن ذلك كان يحصل في مرات قليلة. إحدى المرات كان الطعام سلحفاة، وأحياناً كثيرة، أكلوا أعشاباً. كانوا يقطفونها من القرابيص والحميدية.

الوقت ينفذ، والقلق يقضم قلب أمّه، التي شاءت الثورة أن يكون أولادها الثلاثة مطلوبين للنظام. صبا تعرف طارق جيداً، تحفظ عناده منذ أن كان صغيراً، وتثق أنه سيكون آخر الثوار في طريق المغادرة. لم يكن رغب بالخروج، وحاول كثيراً أن يضغط في ذلك الاتجاه. طارق لم يكن ضمن الدفعة الأولى التي خرجت من الحصار. وصلت الحافلة الثانية. أيضاً لم يكن بين رفاقه الذين وصلوا إلى الدار الكبيرة. الدفعة الثالثة ستنطلق، عادت صبا:

– طلع بالباص..

إنت أول واحد معي عالسمع

– الحمدالله..

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى