صفحات الثقافة

حين دعاني أورهان باموق إلى زيارة الرواية – المتحف

اسطنبول- من مازن الياسري

على الرغم من تناقضات آرائه واصطدامها بثقافات العلمانيين والاسلاميين في تركيا، يشكل أورهان باموق ظاهرة ثقافية تركية تواصل حفر اسمها بعمق في الواقع الثقافي للبلاد وخصوصاً بعد نيله نوبل الآداب 2006.

سافر هذا المهندس المعماري الشاب الى الولايات المتحدة لدراسة الثقافة والفنون وعاد ليكتب مجموعة روايات استثنائية ملهمة. ارتفعت شهرته مع “اسمي احمر”، “ثلج”، “الكتاب الاسود”، و”اسطنبول”، انتاجاته الاخيرة منذ اواخر تسعينات القرن الماضي حتى نيله الجائزة الأدبية المرموقة، التي جعلت العالم ينتظر جديده، متمثلاً في الرواية والمتحف اللذين قدمهما إلى قرائه كوصفة سحرية للخلق.

نشر عام 2008 روايته الجديدة “متحف البراءة” ليلحقها بافتتاحه متحفا يحمل العنوان نفسه، مستوحياً الفكرة من عيشه لروايته ومن شغفه العاطفي بالمتاحف. ادرك من خلال زيارة العديد من المتاحف الصغيرة أن واقعها كالقصص والروايات. فهنا يتحدث عن شخص وهناك يتحدث عن حالة، معتبراً أن التاريخ قادر أن يؤرخ بمتاحفه للبساطة، للانسان العادي، كما للملوك والممالك، فخطرت له حينذاك فكرة إقامة متحف خاص به، وبعد سنوات تحققت الفكرة مرتبطةً برواية من روائعه.

يبين باموق وجهة نظره بالمتاحف العالمية كاللوفر، متروبوليتان، قصر توبكابي، المتحف البريطاني، برادو، وارميتاج، معتبراً أنها إذ تشكل كنوزاً للإنسانية، فهي تؤرخ للامم والحضارات والحكومات، لكنها لا تؤرخ للانسان العادي، في حين أنه يؤمن بأن تأريخ حياة الانسان الفرد أهم، فاختار ان يؤرخ للانسان العادي، وحدد من ارّخ لهم بأنهم ابطال روايته الرائعة “متحف البراءة”. كمال، ابن العائلة الاريستوقراطية الثرية، يحبّ فوسون، ابنة عمه التي تعيش مع عائلتها الفقيرة في أسطنبول، فتقدم الرواية خلطة معقدة يتحكم الكاتب بمقاديرها، مركزاً على الفردي الشخصي، كمال الذي يعشق فوسون حد الهيام فيصبح مهووساً بجمع مقتنياتها البسيطة، وكل شيء يذكر بها، حتى اعقاب سجائرها. يغوص الكاتب في تفاصيل حياة ابطالها البسيطة، ومتغيرات العاطفة والفصول والاحداث وواقع البلاد، وارهاصات الحياة الثقافية في اسطنبول.

المتحف عبارة عن 83 واجهة، واحدة لكل فصل من فصول روايته، فيستعيد خطوة خطوة، قصة الحب المستحيل الذي يتحول على مر صفحات الرواية عند كمال إلى عشق للأشياء التي تحيط بحبيبته، فنجدها معروضة في المتحف، من قرط الأذن فوسون إلى الفستان الربيعي، انتهاء بغرفة النوم التي امضى يها كمال ايامه الاخيرة حيث روى قصته على الروائي باموق، ليحولها الاخير الى رواية.

الرواية هي الأكثر تجريبية بين روايات باموق السبع السابقة، خصوصاً على مستوى الأسلوب. فهي ليست قصة حب تراجيدية فحسب، بل حفر في ذاكرة البطل وفي ذاكرة مدينته إسطنبول، حيث يسرد الروائي فيها قصة تركيا المعاصرة من خلال التأمل في التاريخ، ليعود إلى الماضي العثماني، وعصر الجمهورية وتركيا كمال أتاتورك، رغم أن الأحداث تبدأ عمليا عام 1975.

تسرد الرواية احداثها بين ذكريات العائلتين الثرية والفقيرة ومتغيراتهما في حوار بطليهما العاشقين. فالمتحف محصلة لحظات عشق لفوسون، ومقتنيات الطبقات الثلاث للمتحف مكملة للمشاعر والاحاسيس والضحكات والدموع والفرح. لا تكمن الخصوصية في الرواية فحسب بل في تحويل منزل كمال القديم المبني عام 1897 في احد ازقة باي اوغلو القديمة في منطقة تقسيم باسطنبول، الى متحف يضم عصر الرواية ومقتنيات فوسون، بائعة قس متاجر الملابس، فقيرة بسيطة، لكنها ثرية بجمالها اللامحدود، وبحب ابن عمها الثري كمال الذي فقد ثروته هوساً بعشقها. الرواية هي سرد لما قصه كمال بصمجي على اورهان باموق حول حياته مذ كان في الثامنة عشرة عام 1975 حتى وفاته في العام 2008، في المنزل الذي اقتناه عام 1999 لقربه من منطقة عمل فوسون، وهو المنزل القديم نفسه الذي اصبح اليوم “متحف البراءة”.

في أحشاء المتحف

البحث عن المتحف لم يكن يسيراً. ففي الشارع المحاذي لمدرسة غلطة سراي الشهيرة في شارع الاستقلال بمنطقة تقسيم، وفي انحدار جبلي قاس لطريقٍ تقع المكتبات على جانبيه، سرت منهكاً بسبب انحدار الشارع الجبلي الضيق الذي بات يزداد قدماً كلما تقدمت نحو اسفله. قبيل نهايته وعبر شارع فرعي صغير، انعطفتُ يساراً خطوات قليلة لأجد البيت الاحمر القديم على مفترقاً لأزقة بالغة الصغر. على جداره لوحة عمودية: متحف البراءة. الطلاء الجديد يضفي هيبة، ربما لتذكّر بعمر هذا الصرح الذي يزيد على مئة عام.

دخلتُ مجاناً لأني صحافي. شاب تركي عشريني حدثني بالانكليزية معرّفاً بنفسه: أورهان، موظف في متحف أورهان. قال لي ان المكتبة في الطبقة الارضية، اما المقتنيات فمشروحة بالتركية، والكتاب – الرواية متوفر اينما تنقلت. رحت استكشف اندماج البساطة بالابداع، وراحت مخيلتي تستذكر احداث الرواية التي عرفتها بنسختها التركية. انعطفت يميناً إلى صالة المتحف الارضية المغلفة بخشب الصاج اللامع وغلف الجدران البنية السمراء. عند اقصى الصالة لوحة جدارية غاية في السوريالية والتجريد، ضمن اطار خشبي بحجم الجدار، الصقت بداخله اعقاب سجائر مرصوفة بدقة متناهية تحت السنوات من العام 1976 حتى العام 1984. انها اعقاب السجائر التي دخنتها فوسون في الرواية، كأنها تأريخ لإنسان مما بقي منه! ازدادت اعقاب السجائر تحت اشارة العام 1979 لتترك اثراً مفاده هنا ان فوسون كانت تدخن اكثر، لأن همومها اكثر. بعض اعقاب السجائر عليها بصمة أحمر شفاه. في جوار هذا الجدار المدهش، شاشة صماء تعرض فيلماً قصيراً بالاسود والابيض لأيدي اشخاص تنفض رماد سجائرها داخل المنافض الزجاج.

عند الحائط الجانبي تشتعل مشاهد القبلات الحميمة بين عشاق، من افلام سينمائية تركية كلاسيكية بالابيض والاسود، تعرضها شاشات صماء متناثرة على الجدار، كأنها تحاكي ذلك العصر وعشاق الامس بعشوائيتهم التي تنتشي بقبل الحب. محاكاة انطباعية عن كمال وعن فوسون وأفراد عائلتها الذين كانوا يمضون ساعات طويلة في مشاهدة التلفاز.

سلالم المتحف ضيقة جداً لا تتسع الا لشخص واحد. في الطبقة الاولى نشاهد مقتنيات اسطنبول القديمة كما هي. كل ما اراه حولي حقيقي، لكنه قديم. استذكر براعة السرد لحياة فوسون عبر نظرة كمال اليها. على طرف السلم ادوات مطبخ متكاملة قديمة الطراز من مقتنيات مطابخ ما بعد الثلث الاول من القرن العشرين في تركيا. ملاعق وطناجر طبخ واشواك وسكاكين وادوات تقليب الطعام في القدور وزجاجات رش الملح. على الجدار المحاذي للسلّم صور لأشخاص وساعة قديمة ببندولها الراقص الكبير، وقارىء لموازنة الكهرباء القديمة التي كانت تستخدم في دور ذلك الزمان، ومفاتيح الغرف. هنا رف يضم حذاء وحقيبة نسائية قديمة من تقليعات العقود الماضية. ثمة حزام اصفر اللون ثم معدات خياطة قديمة: بكرات الخيوط والمقصات والابر المسننة والدبابيس الابرية: لا شك في أنها مقتنيات الوالدة، ثم اقداح الشاي الزجاجية الصغيرة، فعلب العصير الزجاجية الرائجة في تلك الحقبة، وقناني المشروبات الغازية المزججة. خلف الرفوف اعلانات ومقاطع من صحف قديمة ملصقة في كل مكان. هذه لمبة نفطية، وهنا علب اعواد ثقاب قديمة متعددة الماركات. في الرف القريب اقداح زجاج للشراب، زجاجة ويسكي قديمة من صنف likoru واقداح النخب الصغيرة. انها من بيت فوسون. هنا صور لعلب المشروبات الروحية القديمة، خلفها الصقت صور من بارات ومطاعم اسطنبول القديمة. علبة سجائر ماركة samsun ومنفضة خزفية مزخرفة. مكواة قديمة للملابس، مزاليج ابواب وشبابيك، صور من بيت فوسون للأقاربه والاصدقاء. اطفال على اسرتهم، رجال قرب سياراتهم. هذه عائلة وتلك امرأة اربعينية تجلس خلف ماكينة خياطتها القديمة. انها ام فوسون. مقصات لحلاقة الشعر، قربها خصلات شعر ابيض.

يتصف المتحف بالشمولية، تماما مثل الرواية: ساعات يدوية بأحزمتها الجلدية، خريطة قديمة، امشاط شعر نسائية مختلفة لاشكال والاحجام والالوان. معظمها سرقها العاشق كمال من مقتنيات حبيبته فوسون. ثم الطبقة الثالثة، حيث غرفة كمال التي أمضى فيها ايامه الاخيرة. عشرات الكتب والاوراق والمحابر الفارغة تعكس سنوات من الكتابة. اوراق غطت الجدران بعشوائية ما كُتب بها وما عيها من ملاحظات وعبارات مشطوبة ومخططات ورسوم عشوائية واقواس ودوائر. علق اورهان باموق اوراقه التي كتب عليها ملاحظاته حول الرواية ومسوّداته العديدة، مع رسوم مختلفة لوجوه واشكال عشوائية. حال من التخطيط غير المنضبط عندما يبدأ الكاتب بالتفكير. هكذا تأمل اورهان باموق بطله وهو يروي له هذه الرواية. نعم انها غرفة كمال بصمجي بطل الرواية.

هنا احترقت روح كمال بجنون حبه لفوسون، وبهوس عشقه لها ولأشيائها. على جانب الغرفة الايمن سرير كمال المعدني، على الجدران صور قديمة، وشباكان بستائرهما الدانتيلية البيضاء. شماعة ملابس معدنية علقت عليها بيجامته البيضاء المخططة بالازرق. حقيبة ملابس جلدية باللون البني الداكن، كرسيه القديم، دراجة اطفال قديمة بثلاث عجلات، ومنضدة صغيرة قرب السرير فيها جاروران خشبيان، وعليها مصباح زجاجي للقراءة وصورة صغيرة مؤطرة غير واضحة الشخوص وزجاجة عرق تركي وساعة يدوية ومشط للشعر ومفتاح ومصباح يدوي صغير يعمل على البطارية وفرشاة اسنان. انها مقتنيات كمال الاخيرة.

اذا كانت الروايات الكبيرة تخلد عبر السينما بفيلم يحاكيها، فباموق اجتاز هذه الفكرة نحو تخليد بطله كمال بصمجي بمتحف يقتفي حياته ونهايته كما رواها وكما عاشها وكما كتبت في الرواية. انها رواية لبراءة الانسان، لبراءة الحياة، قبل ان تزدحم تعقيداتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى