حين لا يميّز الوطن سينمائييه من أعدائه
مع ارتفاع موجة العنف في سوريا الى اعلى درجاتها، برزت ظاهرة قتل بعض العاملين في المجال السمعي البصري بأساليب بشعة. أمس، التقني باسل شحادة، وقبل أيام قليلة: بسام الحسين. كل منهما في معسكر سياسي نقيض، إلاّ ان التهمة واحدة: حمل كاميرا. هنا صرخة هادئة من المخرج السوري الشاب جود سعيد في هذه القضية.
حين لا يميّز الوطن سينمائييه من أعدائه، فإن وجهة النظر التي تحميها (أقصد تنقلها) كاميراتك، تصبح جرماً قد يقرر شعبك كلّه أو جزء منه أو نخبه أو أمنه أو مفتيّوه أو أحراره، أن يُقتل لأجلها.
حين يجنح المجتمع نحو القتل والقتل المضاد بين جماعاته لتغليب وجهة نظر على أخرى، وحين تدّعي كلّ جماعة امتلاك الحقّ والحقيقة، لا يعود ينفع الكلام التبريريّ للمثقف عن ممارسات فرديّة. هنا يقع المجتمع في المحظور، أي قتل الذات ونحر الهويّة. لن يبقى لنا بعد ذلك سوى أن نقول هنا مات شعبي كلّه.
أنت كسينمائيّ، لا ولن تمتلك، ولا تريد أن تمتلك، سلاحاً. أنت لا تعرف استخدامه أصلاً سوى في أفلام العنف الهوليووديّة التي تضخّها قنوات عربيّة كثيرة لشعبك في الوريد، صباحاً مساء، حتى صارت الصور التي تزيّن الجدران الحقيقية والإفتراضية، صوراً لقطعة سلاح، خلفها بشريّ ربما، أو بقايا بشريّ مع ابتسامة! أنت كسينمائي، تسقط حين تصير كاميراتك رصاصة أو نصيرة لرصاصة، مهما سما هدفك الأخلاقي. السينمائي ناقل أجواء وشاهد على زمن من وجهة نظره وليس ببغاءً تلحق صورته الغريزة! ليس السينمائي آلة تسجيل أو إبهاماً تضغط على زر. السينمائي يعمل لبناء عالم أرقى، لا لاستعادة الماضي الغابر وأمجاده! صانع الفيلم هو روح يمرّ الواقع من خلالها ليعود إلينا.
فلماذا ذبحها، هذه الروح؟
السينما باتت اليوم كتاباً تكتب فيه البشريّة تاريخها وتحاكم واقعها وتستشرف مستقبلها. كتابة جمعيّة أصواتها هم السينمائيون. السينما ذاكرة اليوم، بسيّئها وجيّدها وعظيمها، هي ذاكرة الأمم المتحضرة التي تبقيها ضمن كتاب التاريخ الإنسانيّ وتجعلها فاعلة في صنع الحضارة الراهنة. تُراكم هذه الذاكرة أجيالاً من السينمائيين تسجّل الواقع أو تعيد نقله وخلقه من خلال وجهات نظر متعددة. في تكاملها كصورة كليّة، يكمن جزء من حقيقة واقع هذه الأمة وماضيها، باختلافاتها وتنوعها، وضمن الهويّة الواحدة. الأمّة التي تعي إرثها السينمائي وتحميه، تبقى وتواصل صنع مستقبل البشريّة. يصنع هذه الذاكرة أفراد ينقلون أجواء الواقع من خلال اقتناعاتهم، يتلمسون بحساسية مفرداته ويعيدون طرحه ومحاكاته من وجهة نظر كلّ منهم. يعيدون قراءة الماضي بطرائق عدّة تمثّل قراءات شرائح المجتمع وأطيافه. أو تكون نقضاً لها وتأسيساً لغد أقلّ خلافاً وليس اختلافاً.
من يغتال ذاكرته؟ ما من أمّة تغتال ذاكرتها إلاّ تلك الأمم التي على ضفاف الإنتحار. هي الطوائف والأصوليّات المغرقة في ماضويّتها وتخلّفها تقتل السينمائيين، لا الأمم الراقية بإنسانيتها.
لن ترقى المقاطع “اليوتيوبية” المسجلّة بغاية دعم وجهة نظر سياسية (أيّاً تكن)، الى مستوى الأفلام. عبر التاريخ لم ترق كلّ التسجيلات الفورية في الحربين العالميتين وغيرهما من الحروب التي تلتها لتكون أفلاماً تشهد على الواقعة. هذه التسجيلات في أغلبها (قلّة منها ذات قيمة إخباريّة وقليل قليل منها يحمل روحاً) ليست اليوم إلا وجبات سريعة ساخنة للمحطات الإخبارية تستهلكها لدعم أجنداتها وشدّ عصب مشاهديها. وأيضاً: انها مواد دسمة أسبغ عليها البعض لقب أفلام، للتحريض والتحريض المضاد، تنفع للبرمجة في مهرجانات الغاز السينمائيّة.
¶¶¶
البارحة، سينمائي في بيته حرمه الموت الآتي من الماضي ذبحاً، آخر أيام عمره. قبل فترة، شاب لم ينفتح له باب السينما بعدما أخذه الموت المخيّم معه. هل يسقط أحدنا غداً في موقع التصوير لأنّ شكل الصورة التي يراها لا تتناسب والديموقراطية الجديدة؟! مَن يقتل سينمائييه، يدفن ذاكرته ويترك للغريب أو للشقيق “الزنكيل” أن يروي عنه ما يريد. المجتمع الذي يجهل سينمائييه فيقتلهم لهويتهم، له في ماضي أجداده “المجيد” أسوة.
مضى الشاب باسل لأجل قضيّة آمن هو بصدقٍ في أحقيتها، فعاد لأجلها من دراسته ووضع معرفته السينمائيّة في خدمة حراكها بكلّ أشكاله. ومضى الخمسينيّ بسام وحيداً في بيته لأن أحد الأحرار لم تعجبه هويته أو عقاباً لاختياره سلميّاً الضفة الأخرى.
السلام لروحيهما.
نُعي بسام فضّاً للعتب، فلون الجريمة هنا أقلّ إغراءً. ماذا لو كان بسام أحد روّاد المهرجانات الكبرى (سؤال برسم الذاكرة؟!). لكان ربما موته أكثر احتفالاً على شاشة السينما. بسام مات والأضواء مطفأة بعد انتهاء الجنريك. عذراً بسام، فموتك لا يصنع ربيعاً كموت غيرك…
كان أغنى للوطن أن يبقيا ويصنع كلّ منهما صوراً عن سوريا التي نعيش اليوم.
النهار