حين يتحقق الحلم في فينيسيا/ بدرالدين عرودكي
إلى جيجي بون
هي المرة الثانية التي كانت الطائرة تتجه بي إلى فينيسيا، أو البندقية كما أطلق عليها العرب تحويراً ــ لا أدري كيف أمكنهم إنجازه ــ لما كان الإيطاليون يصفونها به: بونودوتشيا، أي الدوقية الجميلة. وعلى أنها رحلة مهنية من أجل الإشراف على أول معرض ينظمه معهد العالم العربي بباريس خارج فرنسا، فقد كنت أرسم في مخيلتي خطة الزيارة التي لم تتحها لي المرة الأولى حين وصلتها صباحاً وغادرتها مساء بعد أن تركت لديّ ذكرى لا تمّحي!
لكن صوت قائد الطائرة سرعان ما كبح توارد الأفكار في رأسي حين كان يعلن: “بسبب عاصفة تملأ الآن سماء فينيسيا، سنضطر إلى البقاء بعض الوقت في الفضاء بانتظار تلاشيها”. أدركتُ فجأة أنني، ربما، على وشك أن أقضي قبل أن أتعرف هذه المدينة التي كان من الأفضل لي أن أزورها بصحبة حبيبة ــ كما جرت عادة معظم الزوار ــ قبل زيارتها مدفوعاً بواجب العمل! سوف تنوب ابنتي عني وتقوم بمثل هذه الزيارة مع حبيبها. لكن ذلك حديث آخر..
وأنا أرتعد من اهتزاز الطائرة كغيري من الركاب، وزميلتي جويل إلى جانبي تداري مشاعر الرعب التي ترتسم في عينيها، مثلي على كل حال، لجأت في سرّي، كعادة أمثالي في الأوقات الحرجة، إلى الله! رجوته إن لم يكن قد سبق وعهد إلى ملاك الموت أن يستعيد أمانته، أن يحقق لي أمنيات ثلاث في هذه المدينة الساحرة: 1) أن يؤجل سقوط الطائرة هذه المرة؛ 2) أن ألتقي خلال هذه الزيارة امرأة فينيسية الأصل والمحتد؛ 3) أن أدعى إلى بيت فينيسي حقيقي، قصراً أو بيتاً عادياً أستطيع زيارته وقضاء بعض الوقت فيه.
بدا لي طبيعياً أن أخاطب الله بهذه الحميمية. تلك عاداتنا على كل حال. نرفع “الكلفة” بيننا وبينه. وابتسمت في سرّي ثانية مفكراً بهذه السذاجة الجماعية، إذ أتصرف بموجبها، ولو سرّاً!..
*** *** *** ***
حين مسَّت عجلات الطائرة الأرض أدركت أن أولى دعواتي كانت مستجابة.
كان “الفابوريتو” Vaporetto يسعى بنا إلى فندق حجز لنا فيه قنصل فرنسا في البندقية. رفضت النزول فيه حين تحققت من قذارته كما بدت لي ولزميلتي جويل. فعرض علينا فندقاً كان الفيلسوف والكاتب الفرنسي ريجيس دوبريه (وكان آنئذ أحد مستشاري الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتيران) ينزل فيه كلما زار المدينة. ذهبنا إليه. لكننا لم نعثر على غرفة. حينئذ اقترحت عليه أن يصحبنا إلى فندق غريتي، حيث كان إرنست همنغواي ينزل على الدوام.
على الطريق إلى غريتي كانت شمس ما بعد العاصفة قد سطعت وألقت بأشعتها على ألوان جدران القصور التي كنا أمامها، وقطرات الماء تتلألأ على سطوحها كما لو كانت خارجة للتو من حمام مشرقي.
قصور صماء. أو بيوت ما كانت نوافذها المغلقة لتشجع أحداً على زيارتها. لكنه الفضول. رجوتُ مرة أخرى في سري لو أنني أُدعى إلى زيارة واحد منها. ولم أكن أدري كيف يمكن لي تحقيق ذلك.
***
بعد اطمئناننا إلى انتهاء العمل في ترتيبات معرضنا بقصر الدوج، خرجت وجويل للنزهة في شوارع فينيسيا بانتظار حلول ساعة الافتتاح. عند خروجنا، استمتعت بمنظر اللوحة الحمراء التي علقت على مدخل أحد أبواب القصر تحمل عنوان المعرض وأسماء منظميه: بلدية فينيسيا، الإدارة الثقافية فيها ومعهد العالم العربي..
استوقفتنا فجأة واجهة زجاجية عرضت فيها لوحة فنية تمثل مقتل مارا على يد جولييت بخنجر تغرزه في صدره وهو في حوض الحمام. لكن الحوض يطوف على سطح اللاغون، البحيرة الشاطئية بفينيسيا.. وراء الواجهة كان ثمة رجل ستيني شديد الأناقة يراقبنا عن كثب. انتبهتْ جويل إلى وجوده وهمست لي: أعرفه.. إنه هو.. غالباً ما يشارك في ندوات فنية على شاشات التلفزيون.. أما أنا فقد راحت عيناي إلى عمق القاعة حيث كان هناك وجه أنثوي منكباً على المكتب يضيء قسَماته الفاتنة ضوء المصباح الصغير إلى جانبه.
دعانا الرجل إلى الدخول. كان واضحاً أنه سيد هذه القاعة أو الغاليري التي تعرض أعمالاً فنية مختلفة: منحوتات، ولوحات زيتية أو مائية، قديمة أو حديثة. علِمَ سبب وجودنا بالمدينة، فسألته إن كان تلقى دعوة إلى حضور افتتاح معرضنا. قال: “أنتَ تعلم، في فينيسيا كل يوم هناك عشرات المعارض.. قد آتي لمعرضكم.. لم لا”.
حيّتني صاحبة الوجه الساحر وقد تلقت نظراتي بهزة من الرأس.. قلت في نفسي: لا بد أنها عريقة المحتد في هذه المدينة؛ كان جمال سمات الوجه الدقيقة يشي بفرادتها.. ورحت أستعيد في مخيلتي وجوه بعض النساء في أفلام فيلليني…
***
كنتُ أنهي من على المنصة كلمتي الافتتاحية حول المعرض حين انفرج باب القاعة عنهما: الرجل الستيني والوجه الساحر. صمتُّ فجأة، دهشة وفرحاً. ثم اختتمتُ حديثي عن فينيسيا المدينة/المرأة: امتزجت فيها ملامح العالمين، الغربي والشرقي، لكنها بقيت لا تنتمي إلا إلى نفسها.. وكان هذا الانتماء الفريد هو ما رافقها على تقلب الأزمنة، منذ عصور وعصور.
***
بقي الستيني والوجه الساحر بصحبتنا حتى خروج آخر زائر من قاعة المعرض، ثم ما لبث أن دعانا إلى تناول شراب ما معاً. عندها عرفت اسمها، جيجي، واسمه: كارلو.
في مقهى فلوريان، بساحة سان ماركو، نجلس معاً: جيجي وكارلو، وزميلتي جويل وأنا. لأول مرة أرى الهاتف المحمول، حين أخرجت جيجي من حقيبتها اليدوية هاتفاً صغيراً وطفقت تتكلم. أمام أريحية مضيفنا، عبرت عن رغبتي بدعوتهما إلى العشاء. وكان جوابه حاسماً:
ــ أنتم في بلدنا.. وعلي أنا أن أدعوكم. ثم إني أعرف ما تحب: الماء والخضرة والوجه الحسن! أليس كذلك؟
أبتسمُ وقد فوجئت. بينما تابع:
ــ أما الماء، فكما ترى، لدينا الكثير.. وأما الوجه الحسن، فليس لنا إلا أن نحمد حظنا.. لكن الخضرة هي الندرة، وهي ما أريد أن أجعلك تراه هنا في بلد الماء والوجه الحسن!
أجبته: سترى إذن كيف سأحتفل بكما بباريس!
***
ها نحن في المطعم وأمامنا الماء وبصحبتنا الوجه الحسن، بينما ترتفع الخضرة أمام أعيننا عالياً متجسدة في شجرتي دلب على الأرجح. تجلس عن يميني جيجي، وعن شمالي كارلو، معلمها الفنان، وفي مواجهتي زميلتي جويل. سرعان ما ألحظ سهاماً ناريّة في ذهاب وإياب تطلقها العيون عن يميني وعن يساري. عرفت وقد سألتها، أن جيجي محامية، وأنها تميل كثيراً إلى الفنون، وخصوصاً إلى ترميم التحف الفنية، فاختارت أن تدرس على يد هذا الفنان، وهو ما أرادت أن تفسر به سبب وجودها في غاليري كارلو. أسألها: “هل أنت فينيسية الأصل؟” فيجيبني كارلو: “كان أجدادها هم من بنى قصر الدوج الذي كنا فيه قبل قليل”!
لكنها تصحح: لا.. كانوا مَنْ صنعَ الأبواب الخشبية! كانوا نجارين!
غبطة عارمة تغمرني فجأة. ها هي أمنيتي الثانية تتحقق: في حضرة امرأة فينيسية وخارقة الجمال أيضاً!
وبخفة مراهق طائش أسألها: هل أنتِ متزوجة؟ فتجيب بهزة من رأسها أن نعم. وتنطلق مني، مرة أخرى بالخفة نفسها، مع بعض اللهيب في لفظ الكلمة: “يا لها من خسارة!” وسرعان ما ينتهز كارلو الفرصة: “كل يوم أقول لها ذلك!”. لكني بدوري أسارع إلى سؤاله كي أفلت من آثار طيشي: “وأنت؟ هل أنت فينيسي مثلها؟” فتسارع جيجي إلى الإجابة بدلاً عنه: “يقول دوماً لزبائنه اليابانيين إنه حفيد ماركو بولو!”، ثم يسارع كارلو إلى إجابتي: “أنا من روما لكني أعيش هنا منذ طفولتي..”.
بقيت معرفته بالمثل السائر في بلادنا تستثير فضولي. أسأله. وها هو يفيض في عرض معارفه التاريخية بادئاً بأكثرها إثارة:
ــ العلاقات التجارية بين فينيسيا وبلاد الشام شديدة القدم.. بل هي تعود إلى عصر الأمويين! فقد كان دوج فينيسيا يبيع الأمويين المراكب الحربية لمساعدتهم في حروبهم ضد الروم في القسطنطينية! وحين احتج البابا في روما على ذلك، اتفق الدوج مع الخليفة الأموي على أن يرسل له العمال لبناء المراكب محلياً اعتماداً على الخشب المحلي..
كان حماسه في سرد ذلك يحمل على الإقناع.. ولن تذهبَ بسبب ذلك إلى التحقق من صحة ما سرده.. كان، على طريقته، واعياً أو غير واع، يقول إن الغرب كان دائم الحضور بصورة أو بأخرى في بلادنا!
***
كان علينا، جويل وأنا، أن نستجيب في اليوم التالي إلى دعوة صحافية أميركية تجاوز عمرها السبعين عاماً لنا كي نتحدث معها عن المعرض الذي أعجبت به، والذي ستكتب عنه في صحيفتها. حين أخبرتني جويل بمكان اللقاء ابتسمت في داخلي. لم تكن الدعوة إلى مقهى، أو إلى مكتب، بل إلى بيتها الذي لم يكن شديد البعد عن فندق غريتي.
يقف التاكسي المائي أمام المدخل. ننزل منه ونصعد سلماً لا يقل عدد درجاته عن الستين قطعاً. ذلك هو كما يبدو مدخل البيوت الفينيسية كلها تقريباً. تفتح لنا السيدة الأميركية الباب. وأجدني في قاعة فسيحة لا يُرى لون جدرانها.. لوحات فنية مختلفة الحجوم والأنواع: بالألوان الزيتية أو المائية أو الغواش أو الحبر الصيني أو الفحم.. معلقة ما بين سقف القاعة وأرضها.. أتعرّفُ من الأسلوب على بعض مبدعيها الأشهر بالطبع: مارك شاغال، بابلو بيكاسو، سلفادور دالي، جورج براك، بيير بونار، بول سيزان.. وآخرون وآخرون.. أسأل السيدة وتكاد الدهشة تلجم لساني: يا إلهي، هذا متحف للفن الحديث!.. تجيبني: “كلها لوحات مهداة إلى زوجي المرحوم. كان واحداً من كبار المهندسين المعماريين في إيطاليا وكان كل الفنانين الذين ترى لوحاتهم هنا من أصدقائه.. أردتُ بعد رحيله أن أعيش حياته من جديد عبر عيون أصدقائه الذين اختاروا ما يهدونه من لوحاتهم بعناية كما ترى..”.
على أحد الجدران، كان ثمة صورة فوتوغرافية متوسطة الحجم لطريق صحراوي مع شارة خشبية عتيقة يعلوها سهم حديدي عريض كتب عليه: إلى بغداد! تقول لي السيدة: نعم. كان زوجي يحب السفر أيضاً.. وقد زار بلادكم كما ترى.
نتحدث عن المعرض وعن السجاد: “هدية الشرق إلى الغرب” كما كان عنوان المعرض بباريس. تأسف السيدة الأميركية لأن الفينيسيين لم يحتفظوا بهذا العنوان.. ثم يأخذنا الحديث إلى حياتها.. تقول: “هل تعلم؟ لي في كل مدينة من مدن هذا العالم الجميلة شقة لي، إلا بباريس!”، أبادر إلى أن أقول لها: “اعتبري شقتي بباريس لك إذن منذ الآن!” ابتسمتْ (وكان بوسعها أن تضحك أيضاً بالطبع!) وأجابتني إن بيتها هنا يمكن أن يستقبلني متى شئت.. وهذا هو السرير..
كان السرير بالفعل وسط القاعة وقد وضعت فوقه قبة أو “بالدكان” شفاف نطلق عليه في بلادنا “ناموسية”.. ضحكنا جميعاً وهي تصر على أن نتناول طعام الغذاء بصحبتها.. كانت تلك الدعوة فرصة إضافية كي نزور الدور الأعلى من المبنى.. قاعة كبرى هي الأخرى تتناوب على جدرانها اللوحات والكتب.
وددت فعلاً لو تتاح لي فرصة البقاء يوماً أو بعض يوم كي أتأمل في هذا التاريخ الحافل للفن الحديث عبر شخصية معماري ربطته برسّامي وفناني أوروبا صداقة لا تبلى.. لكنها أمنية لم تكن ماثلة في الرأس حين رجوت في سري أن أدخل بيتاً فينيسياً.
***
تساءلت وأنا أخرج مما يشبه الحلم: ألم يكن بوسعي أن أتمنى شيئاً آخر ما دامت أبواب السماء كانت مفتوحة حينئذ؟ ربما لأن من كان يملي الأمنيات في تلك اللحظة كان هو من سيحققها فيما بعد.. ربما نعم.. وربما لا.
ضفة ثالثة