حي جوبر الدمشقي.. ما بقي ومازال في طور الزوال/ سامر مختار
لا يبدو حيّ جوبر في مدينة دمشق اليوم واضح المعالم، ولم يستطع أغلب أهالي الحي الصمود كثيرًا تحت آلة القصف، نظرًا لموقع الحيّ الحساس بالنسبة للنظام السوري، والمعارضة الموجودة على الأرض، إذ يُعدّ الحيّ أحد المداخل الرئيسية لمركز المدينة بالنسبة للمعارضة المتواجدة في الغوطة الشرقية. لهذا السبب كان الصراع على هذا الحي بالغ الشراسة، وما تسبب إلى نزوحٍ جماعي لأهالي الحي، منذ بداية عام 2012 حيث بدأ النظام بقصف المدينة من الطائرات المروحية، قبل أن يتطور الصراع على الأرض، ويتم قصف المدينة على مدار الأعوام 2013 و 2014 و2015 بطائرات الميغ، وبالصورايخ، بالإضافة إلى قصف المدينة بالكيماوي.
وفي مراقبة للصور الفوتوغرافية التي يتم إلتقاطها من قبل الناشطين لحي جوبر الدمشقي، تبدو أغلب الصور خالية من العنصر البشري تمامًا، باستثناء الصور التي تأتي بعد حدوث مجزرة، ليظهر العنصر البشري على شكل جثة مدماة، أو بشر يحتضرون، أو صور لبشر يختنقون بالغازات السامة إثر القصف بغاز الكلور أو غاز السارين. أما عدا ذلك تأتي مئات الصور صامتة، تؤرخ للحرائق، والدخان من المباني مدمرة، أو لأحجار أفقدها صاروخ عاجل تراكمها التراتبي والهندسي وأحالها إلى قبرٍ عملاق من ركام.
وهذه المدينة التي تلعب الصورة الفوتوغرافية فيها اليوم دور الموثق لخرابها، تبدو ملامح الحيّ شبه ممحوة، حتى الصور التي ألتقطت لـ”شارع الإصمعي” والذي يعدّ صورةً مصغرةً عن سوق الحميدية في دمشق. إذ كان هذا الشارع الطويل سوقًا حيويًا للحي، لكثرة المحلات التجارية فيه، وتنوعها، بدءًا من محلات الملابس والأقمشة، ومحلات الأكل التي تبرز عند مدخله، إنتهاءًا بمسجد جوبر الكبير أو مسجد الأصمعي – نسبة للشاعر عالم اللغة الشهير عبد الملك الأصمعي – وهو مسجد أثري ومن أقدم مساجد الحي، والذي يحيطه من كل جوانبه سوقًا صغيرًا، يسمونه أهالي الحي بسوق البزورية، هو أيضًا صورةً مصغرةً عن سوق البزورية الشهير في مدينة دمشق القديمة. ليبدو أكثر شارعًا حيويًا في حي جوبر فارغًا إلا من الدمار.
معروفًا عن حي جوبر شهرته في صناعات حرفية عديدة؛ منها النقش على النحاس، والنجارة بكافة أنوعها، وتجارة الأخشاب، ومعامل تلبيس الذهب والفضة، ومعامل الألبسة، والتي كانت أشهرها معامل تصنيع العباءات والمانطوهات، كما يوجد هناك سوق شهير يدعى “سوق المانطو”. إلا أن الصور الفوتوغرافية التي ألتقطت أواخر عام 2014 تُظهر ليس فقط إختفاء البشر، وصمود وتكاثر مقابرها، بل أيضًا تظهر “العباءة السوداء” الوحيدة المهيمنة على صورة المدينة؛ أبنية وشوارع ومحلات أحالتها الصواريخ وكثافة القصف إلى سواد متفحم.
تعجز الصورة الفوتغرافية اليوم أن تقتنص صورة للحياة هناك، الحي الذي كان أهله من أوائل من انتفضوا بمظاهرات سلمية ببداية الثورة السورية، تم سحقها مثل كثير من المدن والأحياء السورية التي شارك أهلها بالمظاهرات.
مصير الحي أن يكون بمثابة المنطقة الفاصلة بين العاصمة دمشق وريفها – أُتبعت منطقة جوبر منذ عام 1968 إلى محافظة دمشق لإعتبارها منطقةً استراتيجية للمدينة – وباعتبار هذا الحي بوابة لريف المدينة من جهة، ومدخل لمركزها من جهة أخرى، كان أهلها وقاطنيها عرضة للخطف والإعتقال كيفما اتجهوا. فكان الذاهب إلى الريف من خلال “جسر زملكا” – حي زملكا هو أول حي بريف دمشق بعد حي جوبر مباشرةً ويفصل بينهما جسر -سيتعرض للإعتقال من خلال الحاجز الأمني الذي كان متواجد في عامي 2011، 2012، وإن كان متجًا للمدينة سيتقبله أيضًا الحاجز الأمني المتواجد في نهاية شارع الخرار، باتجاه ساحة العباسيين.
ذاع صيت الحي أكثر عندما تعرض المعبد اليهودي المتواجد في الحي للدمار والنهب في عام 2013، والذي يعد من أقدم المعابد اليهودية في العالم، كما يحتوي المعبد على أقدم توراة في العالم، وفيه مقام النبي إلياس، والنبي خضر. لتتجه بعد تلك الحادثة أنظار العالم إلى الحي الذي كان يبلغ عدد سكانه في آخر إحصائية أجريت في عام 2008 ل 300.000 نسمة، نزح معظم سكانه إلى خارجه.
تبقى اليوم الصورة التي ألتقطت من فتحة جدار أحدثتها قذيفة عابرة، تجمع عنصرين مختلفين من الأحجار صالحة للعنصر البشري في مرحلتي الحياة والموت، وهو صورة لأطول وأحدث عمارتين في الحي؛ عليهم آثار الدمار والحرائق والنوافذ المتفحمة والفارغة، وأقدم مقبرة في الحي، المعروفة بأسم مقبرة جوبر القديمة، لتختصر تلك الصورة ما بقي من حي جوبر، وما زال في طور الزوال.
المدن