حُجّابُ الخَراب… أدبُ الوقوف على باب السلطان في التراث العربي
محمد حيان السمان
من الممكن تنظيم عدد من التحليلات والاستنتاجات الكاشفة عن علاقة السلطة السياسية بالمجتمع في التاريخ العربي الإسلامي؛ من خلال موضوع الحجابة والأدب الذي انتسج حولها شعراً ونثراً في التراث العربي. وهو ما أرغب بتسميته هنا : ( أدب الوقوف على أبواب السلاطين ورجال الدولة وأعيان المجتمع ).
جرى إغفالُ هذا الأدبِ بشكل واضح في الدراسات الحديثة، على الرغم من تخصيص مسارد طويلة له في الأمهات، مثل ( كتاب الحجاب ) للجاحظ،، والمسارد الخاصة بالموضوع في عيون الأخبار والعقد الفريد ورسوم دار الخلافة ومقدمة ابن خلدون…الخ – . ويمكن أن أنوه هنا بالتفاتات هامة جداً إلى موضوع الحجابة وعلاقتها بالتدبير، والكفاءات المطلوبة لدى الحَجَبة، في كتب الآداب السلطانية ومرايا الأمراء Mirrors for princes. أذكر منها كتابَ – سلوك المالك في تدبير الممالك لابن أبي الربيع، و – الشهب اللامعة في السياسة النافعة – لابن رضوان.
أقل ما يقال في هذا الأدب أنه يشتمل على موضوعات غزيرة يصعب حصرها، ترتبط بمروحة واسعة من قضايا المجتمع والدولة في السياق العربي الإسلامي، وتتوفر نصوصُه على مستويات عديدة للدلالة والتعبير والتمثيل الفني.
سوف أقف هنا، في إطلالة سريعة وأولى، عند موضوع ( إنزال الناس منازلهم ) كما تجلى في فضاء الباب السلطاني، ومسألة الاستئذان في مقابلة الحكّام وولاة الأمر.
إن مبدأ ( إنزال الناس منازلهم ) حاضرٌ ويشتغل باستمرار في فضاء الوقوف على الأبواب، كمحدد حاسم في إجراءات تسهيل الإذن أو تعويقه، وترتيب الدخول على السلاطين، وتحديد المراتب في الدخول والجلوس …الخ. وقد عدّ (الحسن بن سهل) إهمالَ ترتيب الناس على أقدارهم وأوزانهم، في حال احتجب الملك عن رعيته، سبباً كافياً كي يمتزج التدبير وتختل الأمور وتحل الفوضى بين الناس وتضعف أسباب الملْك وتنتفض مرائره…
من هنا نوهتْ مصنفات الآداب السلطانية، بضرورة معرفة الحاجب بمنازل الناس وأقدارهم وأخطارهم. نقلوا عن أبرويز قوله لحاجبه : ضع الرجالَ على مواضع أخطارهم. ومن بين صفات الحاجب التي ينوه بها ابنُ أبي الربيع في سلوك المالك – : أن يعرف مراتبَ الداخلين على الملك فينزلهم منازلهم.
ولكن هذا المبدأ العام كان يخضع في سياق التحولات السياسية والاجتماعية المختلفة إلى اهتزازات عنيفة مصدرها استبدال مقياس بآخر، تتكرّس تبعاً له منازل الأفراد و الجماعات في المجتمع وفي منظور السلطة السياسية، وتتحدد بالتالي أحوالهم ومقاماتهم على أبواب السلاطين. ومما لاشك فيه أن مقياسَ السلطة السياسية في إنزال الناس منازلهم يعكس جانباً براغماتياً تتوخى السلطة منه تدعيم وجودها وضبط المحكومين وتمرير هيمنتها وتمثيلاتها عبرهم. كما يعكس المحتوى الإيديولوجي السياسي لهذه السلطة، ومنظورها إلى معنى المنزلة وأشكال العصبيات الفاعلة في مجال تاريخي معين.
بناء عليه فإنّ معرفة الحاجب بمنازل الأفراد والجماعات، كمعطىً اجتماعي سابق على السلطة السياسية التي يمثلها الحاجب ويرعى جانباً من تمثيلاتها ومصالحها؛ لم تعد تكفي للقيام بشأن الباب واستخدام الإجراءات المتعلقة بالحجابة بالشكل المطلوب. إن السلطة السياسية تفرض الآن مقياسها الخاص الطارئ أيضاً، وعلى الحاجب إن يعرف هذا المقياس الخاص الذي يتأسس ويشتغل بمعزل عن المقياس العام السابق :
‘ ينبغي للحاجب أن يكون…عارفاً بالناس ومنازلهم وأقدارهم عند رئيسه، حتى يكون وجهه عنواناً عن وجه محجوبه من غضب ورضا وإبعاد وإدناء…’. ويجري تمثيل هذه التعليمات على شكل حوار بين أمير وحاجبه : ‘ قال بعض الأمراء لحاجبه : إنك عين أنظر بها، وجنة أستنيم إليها، وقد وليتك بابي، فما تراك صانعاً برعيتي ؟ قال: أنظر إليهم بعينك، وأحملهم على قدر منازلهم عندك.. وأرتبهم حيث وضعهم ترتيبك…’.
ويصل هذا المنحى مداه الأبعد من خلال تركيز سلطة الحجْب والإذن بيد الرئيس المحجوب نفسه ، بحيث يغدو الحاجبُ مجرد منفذ حيوي ومتحرك لمنظور السلطة الراسخة القارة في عليائها وقداستها، مجرد ناقل أمين متيقظ للأوضاع على باب الرئيس، كي يستطيع هذا الأخير إعطاء التعليمات المناسبة في الإذن والحجب وترتيب المراتب.
‘ لا تحجبنّ سخطة و لا تأذنن رضا. اخصصْ ذلك بالملك ولا تخصصْ به نفسك ‘. وفي تمثيل آخر لمركزة سلطة الباب بيد الرئيس : ‘ قال مروان بن عبد الملك لابنه عبد العزيز حين ولاّه مصر : يا بنيّ مرْ حاجبك يخبرك مَنْ قصد بابك كل يوم لتكون أنت من يأذن ويحجب ‘. ومن خصائص المراسم في بلاط سيف الدولة الحمداني ‘ أن لا يصل إليه أحد البتة إلا برقعة يكتبها الحاجب باسم من حضر، فإذا قرأ أي سيف الدولة اسم الرجل فإن شاء دعا به، وإن شاء أمر بصرفه ‘ . وقد جعل – أخوانُ الصفا- نسبة القوة الناطقة المخبرة إلى النفس الإنسانية، نظيراً لنسبة الحاجب إلى الملك، كلاهما ( القوة الناطقة والحاجب ) يخبران عن معاني ما في فكر المنتسبين إليه من العلوم والحاجات.
* * *
واحدة من أبرز التمثيلات المتعلقة بشأن الباب السلطاني، والتي تحيل إلى التغير القويّ الذي طرأ على معيار إنزال الناس منازلهم، تتحدث عن جماعة من الأشراف حضروا باب عمر بن الخطاب ‘ منهم سهيل بن عمرو وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس، فحُجبوا ثم خرج الآذن فنادى: أين عمار؟ أين سلمان؟ أين صُهيب ؟ فأدخلهم ، فتمعّرت وجوه القوم ، فقال سهيل بن عمرو: لمَ تتمعّر وجوهُكُم ؟ دُعوا ودُعينا، فأسرعوا وأبطأنا، ولئن حسدتموهم على باب عمر اليوم لأنتم غداً لهم أحسد’.
ربما كان هذا الخبر شكلاً من أشكال التمثيل السردي الذي أنتجته أزمنة تالية هيّجها الحنين إلى منظومة عمر ومثاليته المستمَدة من قيم الدعوة ومبدئيتها، في إنزال الناس منازلهم التي حددها مفهوم ( التقوى ) . لكن وفي كل الأحوال- يظل لهذا الخبر أهمية قصوى داخل السياق التاريخي لتطور معايير الدولة الإسلامية والسلطة السياسية في إنزال الناس منازلهم، وقد اتخذت هذه المعايير من باب السلطان مجالاً لإجراءاتها الإدارية، وتمثيلاتها السردية التالية.
إن سلطة عمر هنا، ومعيارَه في إنزال الناس منازلهم، كما تجليا في منح الإذن بالدخول عليه؛ ينبثقان مباشرة عما أسماه محمد أركون ( السيادة العليا )، أي الإسلام في مستوى الوحي والنبوة، ومدى وسرعة الاستجابة لذلك النداء الإلهي العظيم: السابقة في الإسلام. إن سهيل بن عمرو، وهو من الأشراف ومن المؤلفة قلوبهم، يقر بمزيج من الأسى والتوبيخ لبقية الأشراف المنتظرين على باب عمر- بانتصار مقياس السابقة ( السيادة العليا ) على مقياس الشرف المتعلق باعتبارات الوجاهة القبلية( الشرف ).
مما لاشك فيه أن مستوى التطور في الدولة التي كان يرأسها عمر ساعد على تحقيق ذلك التطبيق المبدئي الصارم لمعايير – السيادة العليا – في إنزال الناس منازلهم. فالدولة كانت ما تزال في طور التشكل والتأسيس، محكومة بمنطق الخلافة الحقة ( عصر العدل والحقيقة على حد تعبير هشام جعيط )، المنبثق مباشرة من ( السيادة العليا ) كما عرّفها الوحي والنبي ص – وطبّقها في حياته . ولن يتأخر الأمر أمام عمر نفسه حتى تبدأ المواجهة بين معايير وتحديدات السيادة العليا، ومتطلبات الدولة الزمنية والسلطة السياسية. وخير تعبير عن هذه المواجهة تعكسه أيضاً مسألة ( الحجابة والباب السلطاني)، حيث يتكرر بشدة توبيخ عمر لولاته على الأمصار بسبب احتجابهم عن الناس، وطول وقوف ذوي الحاجات على أبوابهم. ومن المعروف أن عمر بن الخطاب أرسل محمد بن مسلمة من المدينة إلى الكوفة، لينجز مهمة محددة و وحيدة: أن يحرق باباً بناه والي العراق آنذاك سعد بن أبي وقاص لقصره في الكوفة، وجعله حاجزاً بينه وبين الرعية.
* * *
سريعاً سيعيد معاوية بن أبي سفيان، ومنذ العام 41هـ، تنظيم معيار جديد آخر لإنزال الناس منازلهم فيما يتعلق بالحجابة ومنح الإذن بالدخول عليه. وهو معيار يستند بالدرجة الأولى إلى منطق الدولة- الملْك، على حساب منطق الدعوة- الخلافة، ويستفيد من كل ما يخدم مشروعه التاريخي المتمثل في تحقيق الانتقال الحاسم والنهائي من ‘ الحالة الراشدة المهدية الهادية ، ذات الصلاح الديني ، إلى الملْك العضوض، أي دولة القهر وحكومة المصالح والتسويات السياسية ‘ على حد تعبير برهان غليون.
في رواية أوردها المسعودي أن معاوية كان يأمر أعوانه في جزء من نهار التدبير الطويل – أن يأذنوا للناس بالدخول عليه (على قدر منازلهم). لكن يتضح من وقائع عديدة تتعلق بالوقوف على باب معاوية والحصول على إذن بالدخول إليه وترتيبات كل ذلك، أن معياره في إنزال الناس منازلهم يستند بالدرجة الأولى- إلى المصلحة السياسية واعتبارات الصراع التاريخي على السلطة ومواقف مختلف الأطراف من هذا الصراع، ومقدار الدعم المادي أو المعنوي الذي يمكن أن يقدمه الشخص لمشروع الدولة السلطانية الوليدة. وبكلام آخر يمكن القول إن مبدأ ( إنزال الناس منازلهم ) قد غدا مع معاوية جزءاً من الممارسة السياسية المقصودة والواعية لأهدافها المحددة المتعلقة بحيثيات الصراع، وتوازنات القوى القبلية والسياسية. من هنا يمكن القول: إن المقياس الذي استند إليه معاوية في ( إنزال الناس منازلهم ) لم يكن مبدئياً ثابتاً وصارماً كما هو الحال مع عمر- وإنما كان متحركاً مرناً يحيل كل مرة إلى مرجعية مختلفة حسبما يقتضي الظرف والأشخاص. مرجعية تتراوح بين تمثيلات السيادة العليا، و ‘ لعبة التضامنات والعصبيات التقليدية ‘. لكن ودائماً- على خلفية الصراع الذي انطلق بعد وفاة النبي ص ووصل ذروته في صفين – ، وبالشكل الذي يسمح بخدمة مشروع سياسي ودولة زمنية يعمل على توطيدها.
* * *
كان اتجاه الدولة الإسلامية التدريجي نحو الطابع الإمبراطوري الثيوقراطي، يؤكد هذا الاستخدام السياسي للحجابة ويدعمه، ويغني التمثلات المرتبطة بشأن الباب وانتظار الإذن، بالتساوق مع عملية تفاعل ثقافي وحضاري هائلة جرت منذ أواخر الدولة الأموية. وبالنسبة لمبدأ ( إنزال الناس منازلهم ) على باب السلطان، فقد جعل العباسيون من الموقف من الدعوة العباسية، ومن الكفاءة الإدارية والسياسية الفاعلة في ترسيخ دولتهم، معياراً أساسياً في تشغيل هذا المبدأ وتحديد مقاييسه. يوصي الرشيد حاجبه : قدّم أبناء الدعوة. وكذلك يفعل المهدي قائلاً للفضل بن الربيع الحاجب المتميز: قدّم أبناء الدعوة فإنهم أولى بالتقديم.
ونتيجة الإمعان في منح الخلفاء العباسيين أنفسهم ملامح القداسة والعلو، ظهرت تحديدات جديدة للمنازل ومستوياتها في منظور السلطة السياسية وإجراءاتها الإدارية ومواقفها من الأفراد والجماعات، بحيث صار لدينا الآن : العامة والخاصة وخاصة الخاصة. وتبعاً لذلك، وكما يشير ابن خلدون، ظهر ( الحجاب الثاني ) الذي يفضي منه خاصة الخاصة إلى لقاء الخليفة، بينما بقي الحجاب الأول للخاصة والعامة. وبينما كان لدينا في الأوان الأموي عدد محدود من الحجاب، صار لدينا الآن المئات منهم، وظهرت المراتبية داخل الخطة أيضاً، فظهرت تسميات ( خلفاء الحجاب ) و ( حاجب الحجاب ) لتدعم هوس المراتبية في عهد العباسيين، وهو هوس فرضته الحاجة إلى شغل المسافة الهائلة التي صارت تفصل الآن بين الرعية – عامتهم وخاصتهم – وبين الخليفة الذي صارت منزلته ‘ تنتمي إلى منزلة الله وليس إلى منزلة الخاصة ‘، كما يشير- محمد عابد الجابري -.
في دار الخلافة وهي المجمع الضخم من القصور والمرافق الخاصة بالأسرة العباسية، والتي تشكل مركز الحكم- كان الخليفة يجلس للقاء الناس على طبقاتهم في أيام محددة. وكانت المراتبية إحدى المحدّدات الأكثر فاعلية وصرامة بالنسبة للكثير من الإجراءات والمواقف والشكليات البروتوكولية. فهناك أصحاب المراتب المعروفون من قبل جند الدار وحجّابها و موظفيها، وكان هؤلاء من الطبقة الخاصة من أبناء الخلفاء وبني هاشم العباسيين والطالبيين – و كبار القادة والموظفين …الخ. إن مجرد كون الشخص من أصحاب المراتب، فذلك يعني حصوله على امتياز رضا الخليفة عنه، ويستتبع ذلك أن يكون ذا حظوة و مكانة داخل الدار منذ أن يدخل الباب الخارجي، وصولاً إلى جلوسه في مجلس الخليفة، مع تفاوت بالطبع في أمكنة النزول والركوب والانتظار وسرعة الإذن و مكان الجلوس في حضرة الخليفة.
تبعاً لذلك استُخدمت المراتبية في دار الخلافة كنظام تشغيل للثواب والعقاب، الترغيب والترهيب، التقريب والطرد، و كأداة لاستخدام السلطة وتمريرها، وتوزيع الامتيازات والصلاحيات.
في أحداث سنة 304 أن بعض الهاشميين هاجموا موكب الوزير ابن الفرات ‘ فأنكر ذلك المقتدر وأمر بأن يُحجَب أصحاب المراتب عن الدار…’. ويذكر صاحب ( العيون والحدائق ) أن المنصور ‘ ألح على عيسى بن موسى أن يخلع نفسه من ولاية العهد لصالح ابنه المهدي- فأبى عيسى.. فلما رأى المنصور امتناعه من ذلك قصّر به في منزلته، فكان يُؤذن له بعد جماعة ويجلس دون مرتبته، وكانت رتبته عن يمين المنصور فأجرى عليه أنواع الهوان…’.
* كاتب من سوريا