مراجعات كتب

خالدة سعيد في سجال الثقافة العربية والحرية/ خالد غزال

 

 

تقدم الناقدة خالدة سعيد في كتابها «الثقافة والحرية» (منشورات دار التكوين- دمشق) لوحة عن واقع الثقافة العربية في المرحلة الراهنة من تطور المجتمعات العربية، تبدأ بالتوقف عند حال اللغة العربية وما يتصل بها من مفاهيم التعليم وأساليبه، بحيث ترى أن من الصعب عزل قضية اللغة العربية عن مجمل فروع المعرفة، وعن بنية المدرسة ومؤسسات إنتاج المعرفة. لكنها تولي الموقع الأساس في كتابها لقضيتي الحرية في الإبداع الأدبي، وللمثقف ودوره. يكتسب الموضوع بمجمله أهمية راهنة في ظل الفوضى العربية وتراجع دور المثقف والإرهاب المسلط على رقاب العاملين في حقل الفكر.

على امتداد التاريخ، قامت علاقة جدلية بين الإبداع والحرية، فـ «الإبداع حركة طبيعتها الحرية، وفي منطلقها وفي مآلها الاجتماعي الذي هو موقع المرسل إليه. هذه الحركة تتخطى المستوى النفسي الباطني، كمجرد نزوع، إلى التجسيد أو التبلور في تعبير محسوس يتوجه إلى موقع استقبال أو موقع تلق. وهذا يعني أن رسالة الإبداع مقترنة جوهرياً بعملية إرسال حر. هذه الحركة – الحرية هي خصيصة إنسانية وحق طبيعي إنساني وشرط جوهري لسعة الأفق ولكل تقدم» على ما تقول الكاتبة.

تتساءل خالدة سعيد عن الوسيلة التي يتمثل فيها الخطر على حرية الإبداع، ترى الخطر من أربعة مواقع، الأول هو السلطة التي تملك سلطات تنفيذية تتمثل في النصوص الرسمية الحكومية وقوانين الرقابة المختلفة، وكذلك الفتاوى الصادرة والتي تذهب بعيداً في تعيين مقاييس الحظر والاتهام بالتجديف على الأديان. تقع دعاوى «الحسبة» التي شهدها أكثر من قطر عربي في رأس المخاطر على حرية الإبداع والمبدعين. الموقع الثاني، هو التضييق على الإبداع من النظريات الأيديولوجية الشمولية التي تلتزمها أحزاب وتنظيمات سياسية، تضع مقاييس صارمة على الإنتاج الفكري وتلزمه أن يقيم في قالب حديد يمتنع فيه عن الخروج عما تفرضه السياسات الشمولية، وضرورة أن تهلل وتنظّر لبرامج الأحزاب وشعاراتها، من دون الأخذ في الاعتبار حاجة الإبداع إلى حد من الاستقلالية والحرية في التعبير بعيداً عن القوالب الجامدة والدوغمائية لهذه العقيدة أو تلك.

يتعلق الموقع الثالث بالإعاقة في التربية القائمة على التلقين، فـ «تقليدياً التربية (في البيت والمدرسة) هي الطاعة والاقتداء والتلقين. وسواء كان مضمون التربية دينياً أو أيديولوجياً أو علمياً، فإن المعرفة تتبع اتجاهاً واحداً من أعلى إلى أسفل هو اتجاه التبشير، في علاقة الشيخ أو الحجة بالمريد. لا يقتصر هذا على مسألة الإبداع الأدبي بل ينطبق على المواد العلمية والتكنولوجية متى وجدت». أما الموقع الرابع فهو الخطر الناجم عن غياب المدرسة في كثير من الأماكن والقطاعات، مما يتسبب في النسبة العالية من الأمية التي تشكل عنصراً معيقاً للإبداع ولنشر المعرفة.

أين هم المثقفون اليوم في العالم العربي؟ وأي دور يمارسون وما علاقة ما يكتبون بمشكلات مجتمعاتنا العربية وهمومها؟ أسئلة مطروحة على كل المثقفين وهي تكتسب في كونها تدور حول المثقف ودوره في عالمنا العربي أهمية مضاعفة نظراً إلى المتطلبات الفكرية والثقافية التي تحتاجها هذه المجتمعات. صحيح أن مصطلح «المثقف» هو مصطلح غربي من حيث التسمية، غير أن مضمونه الأخلاقي يتجاوز الغرب ليصبح عالمياً. تدقق الكاتبة في من يجب إطلاق صفة المثقف عليه قائلة :»ليس كل من كتب أو أنتج فناً أو امتلك معرفة، يتصف آلياً بصفة المثقف بمعنى المثقف المسؤول. المعرفة وحدها بلا موقف معلن، بلا وضع للمعرفة السائدة والمواقع السائدة والمواقف السائدة موضع فحص وتساؤل وسجال، لا تمنع العارف الوصف الذي يتضمنه مفهوم المثقف المسؤول. لا يكفي بالنسبة للمثقف، بلوغ المعرفة المحصورة في حقلها العلمي المحدد دون الإطلالة على العام التاريخي أو على شؤون الجماعة. لا يكون العارف «مثقفاً» بهذا المعنى الحصري الذي اصطلح عليه، دون تجاوز حدود العقل العلمي أو الأدبي الاختصاصيين إلى الفضاء العام الإنساني أو الوطني، أي القضايا التي تستجد في الواقع التاريخي وتشغل الناس وتتصل بحريتهم وكراماتهم وانتماءاتهم وسائر حاجاتهم وحقوقهم».

شكلت قضية استقلالية المثقف، ولا تزال، مسألة أساسية في الإبداع الفكري. تسود معضلة مزدوجة في هذا المجال، فمن جهة، تسعى السلطة القائمة إلى جذب المثقف إلى جانبها واستخدامه في التسويق لمنهجها وتسويغ قراراتها، مستخدمة وسائل متعددة تبدأ بالتهديد والقمع أحياناً، لتصل إلى الاستيعاب عبر الإغراءات الوظيفية، وهو ما شهدنا نماذجه في أكثر من بلد عربي على امتداد العقود السابقة. لكن المعضلة لها جانب يتعلق بالمثقف نفسه، فالنزوع إلى السلطة وشبقها يدغدغ أحلام كثير من المثقفين، فلا يتورعون عن تقديم أنفسهم إلى السلطان مستعدين للانخراط في مشاريع السلطة والإفتاء بصوابيتها وصوابية الحاكم. في كلتا المعضلتين يفقد المثقف دوره الحقيقي في إنتاج المعرفة وإطلاق الإبداع بما يخدم الثقافة والفكر، وبما يجعل دوره الاجتماعي فاعلاً. تشدد الكاتبة في هذا المجال على القول إن السلطة هي حكماً وتعريفاً في صراع مع المثقف غير المرتبط بمرجع، «وهي في صراع معه لأنها تبني شرعيتها السلطوية على احتكارها للمعرفة، وهي باسم هذه المعرفة تحكم. وكل خروج للمعرفة عن دائرتها هو طعن في معرفتها، أو على الأقل نقض لمركزية المعرفة التي تترجم إلى مركزية للسلطة».

بات المثقف، عالمياً، قوة معرفية مساءلة ومصدر قلق وخلخلة في كل مجتمع، لكن دوره هذا يتحدد بمدى انفصاله عن المؤسسات السلطوية والبنى التابعة لها، «أي بكونه قوة مستقلة، مرجعها المعرفة الحرة المستقلة والضمير الفردي والوعي الفردي بالخير العام، من دون أن يتضمن هذا الوصف أي معنى من معاني العصمة والنطق بالحقيقة أو غير ذلك». ألا يرتبط ذلك، فعلاً وممارسة، بوقوف المثقف على الهامش، أي بعيداً عن السلطة ومؤسساتها، مهما كانت طبيعة هذه السلطة، رسمية أم طائفية أم دينية أم مجتمعية؟ وهل يستطيع المثقف أن يصمد في موقع الهامشية الذي يعتبر المدخل الأساس لإنتاج إبداع فكري بعيداً عن تملق السلطان والتزلف إليه؟ كان هذا السؤال، سابقاً وراهناً، واحداً من الأسئلة الصعبة التي تواجه المثقف ومسار عمله.

يطرح الكتاب أسئلة مؤرقة عن أنماط المثقفين في العالم العربي، خصوصاً في مرحلة الفوضى الكيانية التي تجتاحه، وسيادة منوعات لا حصر لها من فكر أقل ما يمكن وصفه بأنه من سقط المتاع، يروج له مثقفون اختاروا لأنفسهم ولفكرهم الالتحاق بالبنى المتخلفة ولعب دور مثقف «السلطان» لهذه البنى وممثليها السياسيين والفكريين والدينيين. وهو دور يضع مثقفينا خارج التاريخ لأمد غير منظور.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى