خالد جنرال الانقلابات/ ابراهيم حسّاوي
اسمه خالد، يبلغ أربع عشرة سنة، من قرية نائية تابعة لمدينة الباب في محافظة حلب، يعمل في جمع النفايات من الحاويات، ويبيعها لإعادة تدويرها من جديد.
أسمر بأسنان ناصعة وابتسامة تشبه ابتسامات مهاجمي كرة القدم في أميركا اللاتينية، صامت وصاحب نظرة وحلم كبير بحجم السيارة التي أعرب عن رغبته في شرائها ذات يوم “راس وذنب”.
ينام باكراً ويستيقظ باكراً، حاد النظرات وفي عينيه حقيقة تستجر الناظر إليهما نحو السؤال عن شيء لا يقترب من هذه الحقيقة نظراً لبعدها عن متناول التوقعات، وله قدرة على تحويل جدية السؤال إلى ابتسامة من شبّاك السيارة التي يحلم بشرائها وهو مسرع على أوستراد بين مدينتين.
عينتاب المدينة التركية التي وصل إليها خالد منذ ثلاثة شهور كجلمود صخر حطه السيل من علٍ هارباً من الموت والفقر والركود والملل والضجر تاركاً كل شيءٍ خلفه، حتى مادة الرياضيات التي يحبها تركها متخلياً عن طموحه في المحاماة التي أعرب عن حبّه لها ذات لحظة قد تبدو لحظةً لهوٍ ولغوٍ في اللفظ.
كانت طبيعة العمل تقوم على مرور هؤلاء الأشخاص على الحاويات هنا وهناك، ونبشها للحصول على هذه النفايات ووضعها في كيس كبير مثبت على عربة قضبان حديدية بدولابين صغيرين ويقودها صاحبها مثل جواد يجر عربته فوق الطرقات من ساعات الصباح حتى المساء لينتهي به المطاف نحو مخزن البيع ومن ثم يصل فراشه ليحظى بساعات النوم بعد يوم شاق و مرير.
ذات صباح وقف خالد على مفرق أربعة طرق وقال للجميع:
– هذا التقاطع لي، هذه منطقتي، إياكم و الاقتراب منها.
لقد اختار خالد هذا التقاطع بعد جولة عدة أيام كغيره وعلى ذات النظام المعمول به، لكن لخالد رؤية أخرى ونظام آخر، فلم يرَ أنّ هناك ضرورة للتجوال بين حاويات المدينة، لقد رسم خطوطه و قسّم المنطقة قبل تقسيم سورية التي يسعى البعض إلى تقسيمها كما يشير بعض المحللين السياسيين.
أربع حاويات على هذا التقاطع من نصيب خالد، وبالقرب من هذا التقاطع يوجد شارعان فرعيان في بداية كل واحد منها توجد حاوية، وهذان الشارعان يعتبران مُلحقاً تعود ملكيتهما لخالد صاحب هذا الانقلاب الذي أطاح بالنظام السابق الذي كان يعمل عليه زملاؤه.
خالد يرفض أنْ ينظر إليه أحد نظرة شفقة، ولا يتعاطى أحداً إلّا إذا عامله الآخر معاملة رجل لرجل، ويرفض العطايا ما لم يكن هناك ثقة بالعاطي تقوم على مبدأ الود وتمتين هذه العلاقة تحت عنوان مفاده التعبير عن وحدة الحال ووقفة رجل لرجل في وجه ظرف طاريء يمر على بطل فيلم سينمائي يجري اتصالاً هاتفياً مع رفيق قديم ليقف معه بنبرة هادئة ممزوجة بثقة تقوده نحو أمور ستكون على ما يرام.
في بعض الصباحات نتناول أنا وخالد الشاي ومنقوشة الجبنة على الرصيف الذي تعود ملكيته لخالد حسب ترسيم الحدود والمناطق التي أعلن عنها في بيان لم يستغرق منه سوى دقيقة واحدة على مسامع زملائه في العمل.
حين تمر طالبات المدارس اللواتي بعمر خالد في الصباح من أمامه ينتابه شيء من الخجل لكنه لا يخجل من النظر للواتي بلغنَ العشرين وما فوق، ويعيش قصص حب سريعة وكثيرة تستمر فقط ضمن الزمن الذي يستغرقه هذا المرور، وأعظم ما حدث لخالد في هذا الصدد أنه ذات مرة رأى “كيلوت” آنسته في الصف حين استبدلتْ ساقاً فوق ساق ولم يكن أحمر اللون كما جرت عادة الأكاذيب على ألسنة المراهقين والعساكر الذين دوماً يدعون أنّهم صاحبوا زوجات ضباطهم والدليل دوماً هو الكيلوت الأحمر.
أمضى خالد عدة ليالٍ وهو يفكر بحقيقتي، فتارة تقوده أفكاره للابتعاد عني، وتارة لا يكترث لهذه الأفكار ويدع الأمر للأيام، كان يستلقي ويشبك يديه تحت رأسه قبل النوم ويروح يتسلّى بحقيقتي التي يجهلها، لكنه وفي نهاية المطاف باح لي بما توصل إليه بمساعدة أخيه الذي شاركه المعطيات المتعلقة بي ودون أن يعرفني أخوه هذا، باح خالد لي ضاحكاً:
– أنت تاجر سلاح! أليس كذلك؟
أخرجتُ له سكيناً (موس كبّاس) أحمله في جيبي منذ زمن طويل، أخرجته من جيبي وأنا ميت من الضحك وتناثرتُ فوق الرصيف من شدة هذا الضحك وأنا أقول له:
– تاجر سلاح! تاجر سلاح! وتاجر طائرات وبعد قليل لدي صفقة طائرات ميغ 21 يا خالد وأحتاج لذراع يمين ستكون أنت ذراعي اليمين في هذه الصفقة.
لقد وهبني خالد ضحكة لم أضحكها منذ نجونا من طائرة الميغ ونحن في ذلك الملجأ الذي قال الزوج لزوجته آنذاك وبعد أنْ أفرغت الطائرة حمولتها القاتلة على بعد مئتي متر:
– “لو الطيار بيفهم كان خلّصني منك”، تباً لكِ وله ولي أيضاً.
وضحكت الزوجة وضحك كل مَن كان في الملجأ.
* كاتب مسرحي من سورية
العربي الجديد