خراب الدولة الوطنية/ راتب شعبو
في غضون أقل من أربعة أشهر شهدت المنطقة تطورين كبيرين متشابهين في الطريقة والشكل. ولا يضير تشابههما، أن لهما في الظاهر، إشارتين سياسيتين مختلفتين من حيث الاصطفاف الإقليمي، وهويتان مذهبيتان مختلفتان أيضاً. التطور الأول هو سيطرة «داعش» على الموصل (11 حزيران/يونيو 2014)، والثاني هو سيطرة الحوثيين على صنعاء (21 أيلول/سبتمبر 2014). وقد سبق هذين التطورين تطور آخر مشابه منذ أكثر من سنة ونصف (4 آذار/مارس 2013)، في الرقة، حين جرى «تحريرها» على يد جماعات إسلامية، كانت «جبهة النصرة» في بلاد الشام ركنها الأساسي، وتطور آخر أبعد في الزمن، يعود إلى 7 أيار/مايو 2008، حين سيطر حزب الله على بيروت، رداً على قرار حكومي بمصادرة شبكة الهاتف الأرضي التابعة للحزب.
ثلاثة قواسم مشتركة يمكن ملاحظتها في كل هذه الأحداث المهمة. الأول هو السهولة العسكرية في تنفيذ السيطرة، كما لو أن الحركة القتالية لهذه الكيانات العسكرية تتم في مناطق خالية من الدفاعات، مع أنها مناطق واقعة تحت سيطرة دول كما يفترض. أو كما لو أن ثمة تواطؤاً ما مع هذه الجماعات. تتشابه التقارير، التي غطت تلك الأحداث، في تصوير هزال وتفكك الدفاعات الحكومية أمام هجوم هذه الجماعات، سواء في بيع المواقع بالمال، أو في الهروب من المواجهة، وترك الأسلحة غنائم للمنتصرين، أو في الالتحاق بالمهاجمين بدلاً من مواجهتهم، الأمر الذي ترك السلطات المركزية في موقع المتفرج العاجز عن الفعل. والقاسم المشترك الثاني، هو أن أبطال هذه الأحداث هي تنظيمات، وليسوا جيوشاً نظامية أو دولاً. والقاسم المشترك الثالث، أن هذه الكيانات هي جماعات طائفية في بنيتها التنظيمية وفكرها. فهي إما شيعية (أنصار الله «الحوثيون»، «وحزب الله« اللبناني) أو سنيّة («داعش« و«جبهة النصرة«). غير أن الجانب الذي يجمع هذه الأحداث، هو أنها حدثت في دول ديكتاتورية متصدعة، إن بسبب تدخل خارجي عسكري مباشر، كما في العراق، أو بسبب ثورات شعبية زعزعت أركان النظام الديكتاتوري، ولكنها لم تتمكن من إسقاطه، كما في سوريا واليمن. أما لبنان فهو سلفاً بلد الدولة الطائفية في تركيبتها وميثاقها. وهذه الدولة كانت سباقة في استيعاب تشكيلات سياسية وعسكرية طائفية صريحة. وقد تمكنت إحدى هذه التشكيلات، بعد أن حازت على مشروعية عامة بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، أن تصبح أقوى من الدولة نفسها، من دون أن تخرج من كبسولتها الطائفية، وأن تكون هي بطلة أحداث 7 أيار 2008.
هذه الأحداث التي وقعت وتكرست، تشير إلى فشل تام للدولة الوطنية، التي ورثناها من الاستعمار عقب الفترة التي سميت بحروب التحرير الوطنية. الدولة «الوطنية» فشلت في إنتاج رابط وطني، قادر على حماية المجتمع من ظهور تنظيمات طائفية وتطورها على هذا النحو. كما فشلت في حماية أراضيها وفي فرض ولايتها ضمن حدودها. فبفعل ديكتاتوريات مزمنة نخرت عظم الوطنية وأذابته، باتت تعلو العصبيات المذهبية على العصبية الوطنية.
في 2003 كان تحطيم الدولة العراقية على يد التدخل العسكري الأميركي سريعاً ويسيراً، في دلالة واضحة على تصدع الدولة الديكتاتورية. ثم جاءت المقاومة العراقية للاحتلال الأميركي مقاومة إسلامية، سارت باتجاه المبالغة في العصبية الطائفية وليس الوطنية، كما يمكن للمرء أن يتوقع في ظل مقاومة احتلال خارجي لـ«وطن». بعد ذلك لم تنتج «المقاومة العراقية« شخصية وطنية عامة واحدة، تصلح لأن تكون نقطة التقاء وطنية عراقية، بل أنتجت «نجماً» طائفياً اسمه أبو مصعب الزرقاوي، احتل مكانه ضمن مصفوفة الطائفيين العراقيين، الموالين منهم والمعارضين للوجود العسكري الأميركي.
وفي سوريا اليوم، تقف الدولة «الوطنية» متفرجة على اختراق سيادتها، من قبل طيران تحالف دول تقوده أميركا، التي تقول إنها لا تنسق من الدولة السورية، ولا تعتبر نفسها في خندق واحد مع نظام الأسد، فيما يبدي الإعلام «الوطني» السوري صغاراً مستمداً من صغار «القيادة السورية»، حين يعتبر من جانب واحد أنه في خندق واحد مع الجيش الأميركي، الذي يخترق سيادة الدولة السورية بكل صراحة. وإلى هذا، لم يظهر السوريون أي رد فعل مهم ضد الغارات الأميركية. فالتسلسل الذي عاشه السوريون قاهر في تأثيراته. فمن نظام يمارس جرائمه بحق السوريين ليلاً ونهاراً، إلى تنظيمات إسلامية متطرفة وعنيفة ومتخلفة، من الطبيعي أن لا يجد السوري أي دافع يجعله يقف ضد الطيران الأميركي وهو يقصف هؤلاء أو أولئك.
في المحصلة، ظهر أن الدولة الوطنية الديكتاتورية كانت حاضنة ممتازة للطائفية، وجعلت المحكومين أكثر تقبلاً، أو حتى تطلباً، للتدخلات الخارجية. وحين يتأمل المرء في هذه التنظيمات التي سيطرت على مدن واستولت على عواصم، يخشى أن يكون مستقبل انتظامنا السياسي هو غلاف دولة وطنية تملؤه تنظيمات من هذا النمط، أو ربما انهيار تام وصريح للدولة الوطنية، مع بروز هذه التنظيمات وتطورها بشكل ما إلى دول طائفية.
المستقبل