صفحات العالم

خريطة تقسيم اميركية؟/ ساطع نور الدين

  لم تنطلق صفارات الانذار  بعدما نشرت الباحثة الاميركية المعروفة روبن رايت قبل ايام مقالها الاخير في  صحيفة “نيويورك تايمز”، حول تقسيم عدد من البلدان العربية، والذي كان مرفقاً بخريطة تبين التعديلات المرتقبة على الحدود الجغرافية والسكانية والدويلات ال14 الجديدة التي ستظهر على اسس دينية او طائفية. 

                  في الماضي كان يمكن لمثل هذا المقال ان يستنفر المسؤولين والباحثين والطلاب وان يستفز عامة الناس، وكان يستدعي التدقيق في محتواه وتفاصيله، والاستفسار عن توقيت نشره، والبحث عن علاقة كاتبته بالادارة او ربما باجهزة استخبارات سربت اليها المعلومات وزودتها بالخريطة. كان يمكن لردود الفعل على مثل هذا المقال ان تصل الى حد استدعاء السفير الاميركي وتسليمه رسالة استفهام او حتى رسالة احتجاج على هذا المس الاميركي الخطير بواحد من اهم المحرمات في السياسة العربية .

                 بدلا من ذلك، كاد النص المطول والخريطة الملونة ان يمرا مرور الكرام لولا ان بعض الاعلام اللبناني والعربي توقف امامهما فقط لكي يؤكد على وجهة نظره القائلة ان الدكتاتورية هي الحامي الوحيد للوحدة الوطنية، ولكي يستعيد في المناسبة خطابا تقليديا يرى ان التقسيم الجديد للمنطقة هو مجرد تحقيق لحلم اسرائيلي قديم بتفتيت العالم العربي الى دويلات طائفية ضعيفة ومتناحرة في ما بينها، ما يوفر للاسرائيليين ضمانات بعيدة المدى، ويثبت النظرية التي لا تزال شائعة حتى اليوم وتفترض ان دولة اسرائيل تستمد قوتها وتفوقها فقط من ضعف العرب.

                لم يُعتبر المقال حدثا استثنائيا، ولم ير فيه كثيرون خبرا جديدا. فالشائع هو ان الشرق الاوسط يسير بقوة الدفع الذاتي من جهة، او بزخم التشجيع او التواطوء الخارجي من جهة اخرى، نحو التقسيم الذي يبدو انه لا مفر منه. ولم يكن مفاجئا ما ذكرته الباحثة الاميركية، لا سيما اعتقادها الى ان سوريا بازمتها الحالية هي مركز التهديد ومصدر التغيير الذي يواجه خريطة العالم العربي. ثمة تسليم ضمني بان تقسيم الدولة السورية حاصل لا محالة، والى ثلاث دويلات باتت معروفة السكان والاعلام والحدود، وهو ما سيؤدي حتما الى تفكيك عدد من الدول العربية.. والغريب ان سرد هذه المعطيات الخطيرة، لا يترافق، كما كانت العادة، مع اتهام او حتى اشتباه بانها المؤامرة الاميركية او الاسرائيلية القديمة، بل هناك ميل الى الاستنتاج انها حصيلة طبيعية لحروب اهلية طاحنة، تكاد تبدو للعامة اشبه بلعنة حلت على الامة !

               المصدر الاميركي للفكرة والمقالة والصحيفة لم يثر الحشرية المطلوبة. وهو ما يمكن ان ينسب الى الاقتناع بان اميركا لم تعد دولة عظمى تمثل المركز الرئيسي او الوحيد لصنع القرار الدولي.. واذا كانت لا تزال تتمتع بمخيلة سياسية خصبة فانها غير قادرة على ترجمة هذه الخطة الجهنمية لتقسيم عدد من البلدان العربية على ارض الواقع، لان افلاسها المالي هذه الايام ليس سوى ترجمة لافلاس سياسي اكبر تشهد عليه جميع شعوب المنطقة والعالم من دون استثناء.

              في النص الذي كتبته روبن رايت اكثر من نقطة ضعف او خلل او حتى سوء تقدير، يتنافى مع حساسية اللعب بموضوع خطير جدا مثل معاهدة سايكس بيكو التي لا تحتمل الاستخفاف. كان الضعف ظاهرا  في تجنب اي مقاربة ولو عابرة لما سيكون عليه حال لبنان الذي تعرفه الباحثة جيدا، في حال رسمت الخريطة الجديدة، او لما سيكون عليه مستقبل دولة اسرائيل او مصير الشعب الفلسطيني ، او لما ستكون عليه حدود بلد حرج مثل الاردن .. اما البناء على فرضية ان سوريا بلد محوري في هذا السياق، فانه لا يمت الى البحث العلمي ولا حتى حتى التحقيق الصحافي باي صلة، فهو يردد خطابا عربيا باليا، ويستبعد احتمال ان تكون الحرب السورية نقمة على السوريين ونعمة على جميع الشعوب المجاورة لهم. وهو الدرس الذي استخلصه اللبنانيون والعراقيون وسواهم ممن غرقوا في حروب داخلية طويلة.

            لكن ضعف النص وتسرع الباحثة في كتابته ونشر خريطته لا يعني ان العقل الاميركي صار محدودا، او محكوما بالتعبير عن موقف او التحذير من خطر، او حتى التوجيه نحو مسار. الارجح ان المقال تمرين بحثي، غير موفق ، يتناول مسألة في غاية الخطورة، ويقود الى سؤال جدي جدا: هل ستتمكن الشعوب العربية هذه المرة من تحقيق رغباتها الدفينة، والمتفجرة حاليا بشكل مدوٍ، في تقسيم دولها الموروثة من الاستعمار الاوروبي الى دويلات وكانتونات صغيرة، من دون قرار عالمي او من دون معاهدة دولية جديدة بمستوى معاهدة سايكس بيكو؟

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى