صفحات الناس

خريف جيش النظام السوري وربيع المليشيات/ رامي سويد

 

 

تؤرّخ السنوات الأربع للثورة السورية، لسجلّ انفراط عقد الجيش النظامي الذي كان عديده يناهز ربع المليون عنصر وضابط، وحلول مليشيات محلية أو أجنبية مكانه في قيادة الحرب.

جيش تبيّن إلى أي مدى كانت عقيدته القتالية البعثية هشّة وعاجزة عن الصمود، وإلى أي درجة ينقصه التدريب، ما خلا مهارات التعذيب، وإلى أي حدّ هو مبني على أساس طائفي مناطقي يعطي فئة من الضباط كل الامتيازات والسطوة، ويعتبر عشرات الآلاف من الجنود والضباط الآخرين عبارة عن “جيش فائض عن الحاجة” يمكن التخلي عنه عند وقوع أول معركة.

لم يكن مستغرباً سرعة تدهور فرق وألوية الجيش، إذ يدرك السوريون وغير السوريين أن “الجيش العربي” السوري تمت هندسته على مقاسات طائفية حزبية وعائلية ومصلحية ضيقة، لا وطنية. ولا ينسى السوريون خصوصاً، ثم اللبنانيون، كيف أن النفوذ في صفوف القوات المسلّحة السورية، لطالما كان محصوراً بمجموعات وكتائب محدّدة، قليلة العدد، وشديدة الحرص على استمرار النظام، سواء أكان داخل صفوف الجيش (كالفرقة الرابعة مثلاً بقيادة ماهر الأسد، شقيق الرئيس الحالي) أو من خارجها، أي في الأجهزة الأمنية. ويتذكر السوريون واللبنانيون آلاف الأمثلة ربما عن الإهانات اليومية التي كان يتلقاها أرفع ضباط جيش النظام السوري على يد عنصر عادي في صفوف الفرقة الرابعة أو أحد الأجهزة الأمنية.

اليوم، هو عصر المليشيات، السورية والأجنبية، التي تكتسب صفة موازية للنظام (باراميليتار). وصفة يرى كثيرون أنها إيرانية المصدر وصلت إلى حكام دمشق، مفادها بأن الجيوش النظامية انتهت صلاحيتها مع انفراط عقد الدولة أساساً، تماماً مثلما هو حاصل في العراق، وبالتالي فإنّ القوة الضاربة الحقيقية لا بد أن تكون عصبوية مليشياوية مناطقية ــ طائفية ــ عائلية، هذا إن كانت سورية، وعقائدية ــ دينية إن كانت أجنبية.

تقف سورية اليوم لتحصد ما زرعه طيلة عقود نظام حزب البعث السوري في مؤسسته العسكرية من فساد وطائفية وولاء شخصي وإذلال ومصالح ضيقة، وليجد السوريون أنفسهم أمام ما سبق للعراقيين أن عرفوه، أي أمام شبح “اختفاء” الجيش، لكن هذه المرة ليس على يد قوة محتلة، بل على يد النظام نفسه، الذي بات ينظر إلى المؤسسة الأبرز في مثل هذه الأنظمة كعبء مادّي غير مجدٍ. ومع هذا الشبح، يظهر طيف سقوط كافة المؤسسات التي ترمز للدولة السورية.

استنزاف

زادت الهزائم المتلاحقة لجيش النظام السوري من الاستنزاف الكبير الذي يعاني منه أصلاً بسبب الانشقاقات والفرار من صفوفه والتي تصاعدت بشكل مضطرد منذ بدء الاحتجاجات المطالبة برحيل النظام السوري في ربيع عام 2011 حتى تحولت الاحتجاجات إلى مواجهة مسلحة شاملة بين قوات النظام وقوات المعارضة التي تشكلت من مجموعات منشقة عن جيش النظام السوري ومتطوعين سوريين معارضين للنظام.

وكان تقرير تفصيلي صادر عن القيادة المشتركة للجيش السوري الحر في مطلع العام الماضي قد أشار إلى أنّ عدد مذكرات البحث لدى جهاز الأمن العسكري التابع للنظام، والتي تتضمن منشقين أو متخلفين أو فارين من الخدمة الإلزامية في الجيش، بلغت 189 ألف عسكري. وقدّر التقرير عدد الضباط المنشقين الموجودين في مخيمات خاصة في تركيا والأردن بنحو 3 آلاف ضابط، في مقابل نحو 3 آلاف و700 ضابط من مختلف الرتب العسكرية يعملون مع مختلف فصائل المعارضة في الداخل السوري.

لم يقتصر الاستنزاف الذي أصاب المؤسسة العسكرية الأكبر على عمليات الانشقاق، بل شمل مقتل عشرات الآلاف في المعارك مع المعارضة، فضلاً عن أسر الآلاف. وقدّر تقرير القيادة المشتركة للجيش الحر عدد قتلى الجيش والحرس الجمهوري والأجهزة الأمنية التابعة للجيش بنحو 135 ألفاً.

كما قدرت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” في تقرير أصدرته في شهر أغسطس/آب 2014، عدد المجندين الباقين في صفوف الجيش السوري بـ70 ألفاً فقط بعدما كان العدد الكلي للعناصر وضباط المؤسسات العسكرية السورية بمختلف صنوفها والتابعة لوزارة الدفاع يزيد على 420 ألفا قبل أربع سنوات.

خسارة مقرّات وألوية

لم يقتصر الاستنزاف الكبير لجيش النظام السوري على خسارة العنصر البشري، إذ خسر بالتوازي مع ذلك مجموعة كبيرة من أهم قطعاته وتشكيلاته ومقراته العسكرية بشكل كامل ونهائي بعد قضاء قوات المعارضة المسلحة وتنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) عليها والسيطرة على مقرّاتها.

وخسر جيش النظام السوري مدرسة المشاة العسكرية في ريف حلب التي تعد أكبر المدارس التدريبية التابعة للجيش السوري على الإطلاق. كما خسر بشكل نهائي الفوج 46 قوات خاصة لصالح قوات المعارضة بريف حلب، وهو أشهر أفواج القوات الخاصة السورية، وكان قد تم نقله إلى ريف حلب من لبنان بعد انسحاب جيش النظام السوري من هناك.

كما خسر جيش النظام فرقة عسكرية كاملة هي الفرقة السابعة عشرة، كانت تتمركز شمال الرقة، وسيطر عليها “داعش” الصيف الماضي. وخسر بعد ذلك بأيام اللواء 93 وهو لواء مدرعات كان يتمركز في ريف الرقة. بالإضافة إلى ذلك، خسر الجيش عدداً كبيراً من الألوية العسكرية التابعة له؛ فمن اللواء 80 بريف حلب، الذي سيطرت عليه قوات المعارضة قبل أكثر من عامين، إلى اللواء 82 قرب مدينة الشيخ مسكين في ريف درعا مروراً باللواء 122 قرب مدينة الضمير بريف دمشق واللواء 34 واللواء 49 بريف درعا وغيرها. وتتنوع هذه الألوية التي تمكنت قوات المعارضة من القضاء عليها بين ألوية المدرعات والدفاع الجوي والمشاة.

… ومطارات عسكرية

وخسر جيش النظام السوري بشكل نهائي جزءا كبيرا من قواته الجوية، إذ سيطرت قوات المعارضة على عشرات كتائب الدفاع الجوي شمال وشرق وجنوب سورية. كما سيطرت على مطاري منّغ وكشيش العسكريين بريف حلب، وعلى مطار تفتناز العسكري بريف إدلب، والذي يعد أكبر مطار للمروحيات في سورية. كما تمكن “داعش” من السيطرة على مطار الطبقة العسكري في ريف الرقة في الصيف الماضي وعلى مطار تدمر العسكري أخيراً.

وتعود أسباب هذه الخسائر الكبيرة التي لحقت بجيش النظام، إلى الترهل الكبير الذي يعاني منه أصلاً؛ فآلاف العناصر باتوا مع بدء الاحتجاجات المناهضة للنظام مخصصين لحماية مسؤولي النظام السوري وضباط الجيش في مناطق سيطرة النظام خوفاً من استهداف مجموعات الاغتيال التابعة لقوات المعارضة لهم، كما حصل أخيراً مع العميد بسام مهنا العلي، وهو عضو هيئة العمليات العامة في جيش النظام، والذي اغتالته قوات المعارضة الأسبوع الماضي في دمشق.

فساد ينخر عظامه

كما أن جيش النظام السوري بات يعاني مع بدء الصدام المسلح مع قوات المعارضة من زيادة كبيرة في معدلات الفساد بين قيادييه وضباطه، إذ بات العشرات منهم يقبضون مبالغ مالية مقابل السماح للعناصر بالهرب من الخدمة في الجيش أو مقابل كميات من الذخيرة يقومون ببيعها لقوات المعارضة التي اعتمدت في بداية تأسيسها بشكل كبير على شراء الأسلحة والذخائر من ضباط الجيش الفاسدين.

أدى ذلك إلى عدم ثقة مجندي الجيش السوري الباقين بالخدمة بقياداتهم العسكرية، ذلك أن الضباط اعتادوا على تأمين أنفسهم من خلال الانسحاب من ساحة المعركة أو قيادة العمليات من الخلف بعد زج العاصر في مغامرات عسكرية أدت إلى مقتل المئات منهم، كما حصل أخيراً في جسر الشغور وتدمر حين انسحب ضباط الجيش ليتركوا المئات من الجنود فريسة سهلة بيد الطرف الآخر.

اللجوء للإيرانيين

ودفع هرب ضباط جيش النظام السوري من المعارك مع قوات المعارضة، النظام السوري إلى جلب ضباط إيرانيين ليشرفوا بأنفسهم على ضباط الجيش ويضبطوا عملهم. أدى ذلك إلى حصول الكثير من المشاكل بين الطرفين وتطورت في غير مرة إلى اشتباكات بين الضباط الإيرانين والسوريين كما حصل إبان معركة السيطرة على الشيخ مسكين في ريف درعا منذ نحو ثلاثة أشهر.

نحو المليشيات

الترهل في الجيش السوري زاد أخيراً مع تحول جزء كبير من قوات هذه الجيش إلى مليشيات غير مبنية على أساس التراتبية العسكرية التي من المفترض أن تقسم على أساسها قوات الجيش إلى مجموعات وسرايا وكتائب وألوية وفرق.

وكلفت قيادة النظام السوري عدداً من الضباط الموالين بشدة لقيادة هذا النظام بتشكيل مليشيات من عناصر التشكيلات العسكرية التابعة لجيش النظام، وكان أشهر هذه المليشيات “قوات النمر” التي تمكنت من تحقيق انتصارات على قوات المعارضة أكثر من مرة، قبل أن تستنزف أخيراً وتغيب عن المشهد مع تقدم المعارضة الأخير في إدلب.

وتقول مصادر خاصة لـ”العربي الجديد” إن قائد “قوات النمر” العقيد سهيل الحسن الذي بات أشهر ضباط الجيش السوري هو في الأصل ضابط في فرع الاستخبارات الجوية بدمشق وينحدر من قرية بيت عانة في ريف مدينة جبلة في الساحل السوري، وقدم تم تكليفه في صيف 2013 بتشكيل مليشيا موالية بشدة للنظام كي يتم الاعتماد عليها في استعادة أي منطقة تسيطر عليها قوات النظام. وبالفعل، قام “الحسن” باختيار نحو 500 عسكري وضابط من مختلف تشكيلات جيش النظام السوري من الموالين بشدة للنظام، وجمعهم في مليشيا خاصة به، بعدما حصل على تفويض بالحصول على الأسلحة والذخائر التي يريدها من قيادة النظام، مع الإيعاز لسلاح الجو باتباع أوامره حين يخوض عمليات عسكرية.

أمر مماثل قام به العميد عصام زهر الدين الذي ينحدر من محافظة السويداء والذي شكل مليشيا باسم “نافذ أسد الله” قاتلت طويلاً كرأس حربة لقوات النظام في مدينة دير الزور ضد قوات المعارضة السورية، ومن ثم ضد قوات “داعش”.

تغيير الأيديولوجيا وضعف الولاء

من جهة ثانية، ساهم تغيير أيديولوجيا إدارات التوجيه في جيش النظام السوري بضعف الولاء بين كثير من عناصر هذا الجيش، إذ غيرت إدارات التوجيه في الجيش من خطابها الأيديولوجي من التصدي لإسرائيل ومطامعها التوسعية واستعادة الجولان المحتل، إلى خطاب أقرب ما يكون إلى الطائفية اعتماداً على فكرة محاربة الإرهاب التي حاول من خلالها مسؤول إدارات التوجيه إقناع عناصر جيش النظام السوري بقصف وتدمير المدن السورية الخارجة عن سيطرة النظام.

اللجوء إلى المليشيات الأجنبية

لم ينفع كل ذلك في إيقاف النزيف الحاد في الجيش، فاضطرت قيادة النظام إلى الاستعانة بمليشيات أجنبية عراقية ولبنانية وايرانية وافغانية وفلسطينية لتساهم في القتال إلى جانب قوات الجيش والمليشيات المحلية التي استعانت بها قوات النظام في وقت سابق.

لكن هذا الأمر زاد الطين بلة، إذ إن دخول المليشيات إلى العمليات العسكرية أدى إلى أرباك كبير لدى القادة الميدانيين لجيش النظام بسبب عدم انضباط عناصر المليشيات وعشوائيتهم وقلة خبرتهم العسكرية، ونشأت بالتالي خلافات بين قياديي الجيش الميدانيين وقادة مجموعات المليشيات، أدت إلى فشل كثير من العلميات العسكرية التي خاضها الطرفان ضد قوات المعارضة.

استخدمت قيادة جيش النظام في الأشهر الأخيرة آخر أوراقها، إذ بدأت بسحب المجندين الاحتياط الذين أنهوا خدمتهم في سنوات ماضية بهدف الاستفادة من خبراتهم العسكرية وتوفير الوقت اللازم لتدريب المجندين الجدد على المدرعات والمدفعية، غير أن ذلك أدى إلى عودة وتيرة الانشقاقات إلى جيش النظام، بسبب سحب هؤلاء المجندين قسراً، فضلاً عن نسبة كبيرة منهم من المعارضين للنظام.

فتح كل ذلك الباب واسعاً أمام تراجع ميداني كبير ومتواصل يضرب جيش النظام، إذ باتت معسكراته العسكرية تنهار أمام هجمات قوات المعارضة وقوات “داعش”، لتنذر هذه الانهيارات بقرب نهاية الجيش الذي كان يعد فيما مضى ثاني أكبر الجيوش العربية بعد الجيش المصري والسادس عشر عالمياً.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى