كنت، وفي كل مرة، أهم الى كتابة أي شيء، أكان مقالاً أم نصاً، أشعر بالخشية، وفي كل مرة، كانت هذه الخشية تعتريني، أمضي الى الاستفهام عما أخشاه. فهل أخشى ألا اقدر على قول ما أبغي قوله في أمر ما؟ وهل أخشى ألا يكون هناك قراء لما سأكتبه؟ وهل أخشى أن أسمع لاحقاً من أحدهم موالاً تعيساً وتافهاً من نوع “ما تكتبه غير مفهوم، فمن تظن نفسك؟”، وذلك، بدل أن ينطق بـ”أنا لا أفهم، أنا لا أظن، لا أشك في ذاتي”؟ وهل أخشى أن أسبب ما يسمى، وبلا أي تمحيص، “الأذية” لأحدهم كما هي الحال في الكتابة النقدية عن عمل من هناك أو هناك؟
ومع أنني كنت، وعندما اطرح هذه الاستفهامات عليّ، أسعى الى صياغة أجوبتها، إلا انني كنت دائماً لا أتقدم في التخفيف من خشيتي حين أهم إلى الكتابة. فأنا أخشى من دون أن أعرف ما أخشاه، وهذا فعلياً معنى الخشية، بحيث لا يمكن معرفة موضوعها، لكنها، وبهذا، تساعد على الوقوف على كل ما يعيق الكتابة، على كل ما يتعرض له ممارسها من ضغوطات مرتبطة بأكثر من شأن إلا الكتابة.
فالخشية تجعلنا نكتشف الموجود والمصنوع بهدف منعنا من الكتابة عبر إخافتنا وإحباطنا، وتجعلنا، وبعد اكتشافه، نواظب على الكتابة من دون نفي حظوته أو الامتثال لهدفه على حد سواء. اذ لا يمكن للكتابة أن تستمر إلا إذا كانت، وفي مقلب من مقالبها الأساس، ضد ما يحظرها.
على هذا النحو، الخشية ملازمة للكتابة، بحيث أن التخفيف منها عبر الاستفهام عن موضوعها يبوء بالفشل، ذلك، أنها بلا موضوع، وكل موضوع نعتقد بأنه داعٍ من دواعيها، تدفعنا الى معرفته، تجعلنا نراه، لكننا، سرعان ما ندرك أنه ليس هو مسببها، بل أنه قد يودي إذا اشتد إلى توقيف الكتابة، والإطاحة بها. فعلينا أن نخشى في وقت الذهاب إلى الكتابة، لأن كل ما يجول في رأسنا من مخاوف عندها هو عدو الكتابة، التي، ولما نواظب عليها، يتبدد، لكن، هذا، بالطبع، لا يعني الانتهاء من الخشية.
فعلياً، لا يمكن التخفيف من الخشية سوى عبر الانتقال منها إلى غمار النص، والشروع في تدبيجه، أي عبر ممارسة الكتابة نفسها. ذلك، بلا كبت للمخاوف، التي تبين الخشية أنها تبغي النهي عن الكتابة، وبلا الاستسلام لها، والأهم، بلا نكرانها.
تفيد الخشية، هنا، بمقولة توجهها إلى الذي تعتريه: “أنت لا تزال تتعلم الكتابة، لا زلت جاهلاً فيها”. وهذه المقولة رائعة، ولا بد لأي شغّيل كتابة الايمان بها، والانطلاق منها عند إقدامه على الكتابة: “أنا لا أعلم كيف أكتب، لست ضليعاً بالكتابة، ولست متمكناً منها”، وعلى هذا الأساس، يمضي، وفي كل نص أو مقالة، إلى تحصيلها، اكتسابها أكثر فأكثر. إذ أن الذهاب في الكتابة من الخشية، من مقولتها، يتيح للكتابة أن تبدأ، أن تتماسك، أن تولد وتوِّلد من جديد. فالخشية هي التي تخبرنا على الدوام بأن الكتابة، ومهما جرت ممارستها من قبل، لم تبدأ بعد، ولهذا، من الممكن، وفي أي لحظة، أن تبدأ.
ولكي تبدأ الكتابة، عليها أن تنتهي جيداً. فبعد كتابة نص أو مقالة على إثر الشعور بالخشية عند الشروع فيهما، وتدبيجهما رويداً رويداً، أو بالأحرى على وتيرة منسجمة، قد يصل شغيلهما إلى ضرب من الاغتباط، الذي قد يحمله إلى الضحك حتى.
فربما أفضل المقالات والنصوص التي نكتبها، هي التي، في نهايتها عند انتهائنا من كتابتنا لها، نبتسم أو نضحك، وفي نتيجة ذلك، تتبدل صلتنا من بعدها، من بعد كتابتها، بأمور كان تزعجنا من حولنا، أمور لا تتعلق بها بالضرورة، لكنها، تعيننا على تحملها بعد أن كنا لا نستطيع ذلك. فالكتابة، عندما تبدأ بالخشية، وتنتهي بالضحك، تفلت شيئاً من حيلنا، الذي جمدته المخاوف، الذي جمده كل ما يحظر الكتابة، وينهي عنها.
المدن
