صفحات العالم

خصخصة السياسة وسحرها: قبعات وأرانب/ حسن شامي

 

 

يُروى أن ديبلوماسياً سوفياتياً قال لنظيره الأميركي في 1989 ما يلي: سنلعب معكم وعليكم لعبة خبيثة. سنحرمكم من وجود عدو. ما قصده الديبلوماسي السوفياتي هو أن الاستراتيجية الأميركية وصناعة المصائر المتصلة بها على خلفية الحرب الباردة طوال أربعة عقود باتت بلا غرض وبلا قوام ما دام الطرف الآخر قرر إنهاء حالة العداء والخروج منها طوعاً.

والحال أن الطرف السوفياتي لم يكن عدواً عابراً أو طارئاً يمكن تنكيره، بل كان «العدو» بمقتضى التعريف الشامل والوجودي. وجه الخبث يكمن أيضاً في غموض الانتقال المزعوم إلى قلب المعسكر الرأسمالي واللعب معه وداخله. من المعلوم أن لعبة المصائر التاريخية تحتاج دائماً إلى عدو وإن تفاوتت درجات العداء واقتصرت على التنافس داخل الملعب الواحد. غير أن الإدارة الأميركية ومراكز النفوذ والقوة لم تتأخر في العثور على أعداء آخرين. احتاج الأمر إلى جهود كبيرة في النفخ الإيديولوجي وفي اصطناع تهديدات صادرة عن مشاكسين وأشرار لتثبيت صورة خلاصية للنموذج المنتصر.

في هذا السياق المسكون بنشوة الانتصار وادعاء التأسيس لعالم فاضل وطبيعي ازدهر، كما نعلم، حديث النهايات، نهاية التاريخ ونهاية الإيديولوجيات، وإن كان بعض أصحاب هذه المقولات التبشيرية سيتراجع لاحقاً عنها. هدفت هذه المقولات إلى وضع السنوات السبعين التي عاشتها التجربة الاشتراكية السوفياتية ولواحقها وتوابعها بين مزدوجين. وجاءت فوقها مقولة صدام الحضارات لتقصير عمر التجربة الاشتراكية هذه. فإذا كانت اضطرابات العالم خلال بضعة عقود تحتمل تقديمها في صورة أشواك اعترضت مسار الرأسمالية من داخل الحقل التاريخي للحداثة الغربية وأنوارها، فإن العقود السبعة ستكون في منظار الزمن الحضاري الطويل أشبه بنوبة سعال طارئ وسريع الزوال. المنتصر الأكبر في كل هذا هو السوق، بالأحرى تحرير الربحية السوقية من الكوابح السابقة. فقد بات اليوم واضحاً أن نموذج دولة الرعاية والتقديمات الاجتماعية التي صنعت، خصوصاً بعد الحرب الثانية، جاذبية الدولة الأوروبية والغربية الحديثة، جاء لتحصين المواجهة مع النموذج الاشتراكي السوفياتي ودفعه نحو التآكل الذاتي عبر سيطرة الحزب الواحد وتعاظم المحسوبية والفساد والاستئثار وتشديد القبضة الأمنية.

لم يعد هناك ما يستدعي مثل هذه التنازلات القاسية والمريرة. هذا ما استشعره باكراً دعاة النيوليبرالية. تحرير السوق ورفع الحواجز أمام جشع الربح المالي السريع يتطلب تقليص دور الدولة عبر تحويلها من مؤسسة حاضنة للتماسك الاجتماعي والوطني إلى جهاز في يد قوى السوق وتنافسها. هكذا أخذت تنهار المقاومات الاجتماعية والنقابية بعد ترويضها بالقوة حيناً وبالمناورات حيناً آخر فيما راحت النخب السياسية تتفنن، وتختلف، في تنفيذ المهمة المجيدة. الخصخصة هي الرافعة الضرورية لحرية السوق والتخفف من حضور الدولة الرعائية. ولم تقتصر الخصخصة على القطاعات الاقتصادية الحيوية بل شرعت تطاول الوظائف السياسية والأمنية والعسكرية. يكفي التذكير ههنا بأن ربع القوات الأميركية التي اجتاحت واحتلت العراق وأفغانستان هم من العاملين في شركات أمنية خاصة تعاقدت معها وزارة الدفاع الأميركية. هؤلاء المحاربون المرتزقة يتلقون مرتبات مالية مرتفعة مقابل المجازفة بحياتهم. وهم يحرصون بالطبع على العودة إلى بلادهم للتمتع بالثروة التي جنوها ولا يترددون في إطلاق النار على أي شيء يتهدد عودتهم سالمين إلى ديارهم.

الوجهة التي ارتسمت خطوطها على نحو تدريجي هي ربط الدولة بالسوق وليس بالمجتمع. كيفية الربط والإلحاق ما زالت غير محسومة ومدعاة برامج وتصورات متباينة. قد يكون هذا التمهيد ضرورياً لمقاربة ظاهرة نشهد اليوم معالم تشكلها: خصخصة السياسة نفسها. المقصود بالسياسة ههنا بعيداً من المعنى النبيل لأدبيات إدارة الاختلاف. ما أطلق عليه اسم الثورة المحافظة يندرج في هذا الإطار. الثورة هي في تحرير السوق لتحصيل الربح السريع وتسويق ذلك كجهاد روحي للخلاص الفردي. ومن لا يتسنى له ذلك هو من الفاشلين أو الضالين. مع ذواء الدولة وتقليص موقعها الرعائي تذوي حكماً وبالضرورة أشياء أخرى في مقدمها المجتمع نفسه والأجسام الوسيطة بما في ذلك الأحزاب السياسية التقليدية والنقابات.

إن ظاهرة صعود ترامب وما يماثلها في بلدان أوروبية ذات تاريخ سياسي عريق لا تشذ عن هذا السياق. بفضل ايديولوجية السوق وازدهار تقنيات التسويق الإعلامي والدعائي والدعوي صار من الممكن التخفف من الأجسام الوسيطة التقليدية وتقديم هذا التخفف في صورة انتفاضة ضد «السيستام» أو المنظومة الثابتة. في النظم الليبرالية كان هناك على الدوام دور لا يستهان به لشبكات النفوذ ومجموعات الضغط لكنه يبقى على درجة من النسبية بالنظر إلى موقع السياسة ومستوى المناظرة والهيئات الوسيطة في ممارسة الحياة الديموقراطية.

المقولة الإيديولوجية الداعية إلى حرية السوق تطلق العنان وبطريقة غير مسبوقة لشبكات النفوذ والضغط. ولأن الأمر ينطوي على الكثير من التلاعبات والمراوغات وفنون النفاق فإن ربط التصور العريض للسوق بالأخلاق الدينية يبدو ضرباً من التعويض الضروري. ادعاء التمرد على «السيستام» لا يعني التخلص منه جذرياً، بل تحويله إلى أداة ووسيلة لتحقيق غاية تفوقه من حيث القيمة والصلاحية. ترامب جاء من أمبراطوريته العقارية ومن الاستعراضية الإعلامية إلى الرئاسة. اتكأ على الحزب الجمهوري للوصول إلى الرئاسة كممثل مباشر ليس للشعب بل لسحر خصخصة طاولت السياسة وتركت أثرها في صناعة الرأي والمزاج الانتخابي لدى قطاعات عريضة. لم يخترع ترامب وأمثاله هذا الاتكاء على الحزب السياسي، فقد سبقه كثيرون إلى ذلك، لكنه بات يسعه استعراض النجومية وسحرها مباشرة. جلب كبار رجال الأعمال والثروات إلى إدارته وعين صهره مستشاراً أكبر. وهذا الأخير من داعمي الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية ووريث مقاول عقاري كبير سُجن سنة ونصف السنة بتهم فساد واحتيال وكان قد تبرع بمليونين ونصف مليون من الدولارات لجامعة هارفرد كي تقبل لاحقاً ولديه في صفوفها على رغم علاماتهم المتدنية. نحن في زمن خروج الأرانب الكبيرة من قبعات لا تحتاج إلى الخفاء. في فرنسا يتساءل كثيرون من أي قبعة خرج المرشح الرئاسي إيمانويل مكرون القادم من مصرف ثم انضم إلى حكومة هولاند مدة عامين قبل أن ينخرط في السباق الرئاسي بحظوظ تفوق حظوظ أي مرشح رسمي للحزب الاشتراكي الذي يأفل نجمه.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى