خصوصية الثورة السورية وتشابكاتها
أكرم البني *
تشابهت الثورات العربية في أسباب نشأتها ومعاناة شعوبها ودوافع التمرد، لكنها تمايزت في أشكال حضورها ومحطاتها وشدة القمع المطبق ضدها، وإذا استطاع الشعبان التونسي والمصري إسقاط بن علي ومبارك في بضعة أسابيع، وطال الأمر عند الآخرين شهوراً على رغم العون العسكري الغربي كليبيا أو السياسي الخليجي كاليمن، فلا تزال الأزمة السورية تتفاقم وتستعصي وتواجه احتمالات متعددة ربما أسوأها، ونأمل أن يكون أقلها حظاً، انجرار الناس من احتقان اليأس إلى ردود أفعال ثأرية، وأوضحها أن زمن الثورة قد يطول وتكلفتها أيضاً، ربطاً بالخصوصية السورية وتعقيداتها بالمقارنة مع شقيقاتها.
أولاً، تقع الحالة السورية ضمن محور نفوذ في المنطقة يختلف ويتعارض مع ما يمكن تسميته المحور الغربي الذي انتمت إليه أو دارت في فلكه أنظمة بلدان الثورات الأخرى، الأمر الذي يضاعف الصعوبات أمام الانتفاضة السورية، فنجاحها يقود في شكل أو في آخر إلى إعادة النظر بارتباط الحلقة السورية مع حلقات سلسلة جاهد رأسها الإيراني، ولسنين طويلة، كي يبقيها متماسكة وقوية وقادرة على خدمة نفوذه، ويستدعي توظيفاً استباقياً لكل قوى وإمكانات هذا المحور لمنع كسر إحدى حلقاته، فكيف إن كانت تحتل أهمية نوعية كالحلقة السورية؟! ما يعني أن حجم القوى التي تقف سداً في وجه مطلب الناس في التغيير لن يقتصر على توازنات داخلية صرفة، كما كان الحال في الثورات الأخرى حين رفع الغرب يده عن الأنظمة الموالية له وتركها لمصيرها في مواجهة الحراك الجماهيري المتصاعد.
ثانياً، حساسية الموقف الإسرائيلي، وهنا نستطيع القول، وللأسف، إن لإسرائيل كلمة قوية حول مستقبل النظام الحاكم في بلد يجاورها وتحتل جزءاً من أرضه، حافظ على جبهة الجولان آمنة ومستقرة طيلة عقود. والمغزى هو أولوية ما يمكن أن يترتب على أي تغيير في سورية على أمن إسرائيل، وكلنا يذكر، في أزمات سورية سابقة، وضوح الرغبة الإسرائيلية في عدم إسقاط النظام، والتي لا تتعارض مع سعيها الحثيث لإضعافه وتحجيم نفوذه الإقليمي.
بعبارة أخرى يصح في قراءة الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية المثل القائل «من تعرفه خير من الذي تتعرف إليه». فهي تخشى وصول سلطة جديدة إلى الحكم تهز الاستقرار الراهن، بينما أمامها سلطة خبرتها جيداً وأظهرت وفاء بعهودها منذ توقيع اتفاقية فصل القوات ووقف إطلاق النار، ولا يغير من هذه الحقيقة حصول مناوشات بين الطرفين عبر ساحات وقوى جانبية في حروب محدودة ولأهداف سياسية آنية، بل ما قد يعزز الخيار الإسرائيلي حضور مزاج سياسي للثورات العربية يميل في المحصلة لمعاداة سياساتها في فلسطين والمنطقة! والنتيجة أن يكون موقف إسرائيل ومصلحتها ضد تغيير الحكم السوري، حتى لو أعلن بعض مسؤوليها عكس ذلك، أي أن ثمة موقفاً غربياً لا يمكنه القفز فوق هذه الهموم والحسابات الإسرائيلية!
في ضوء العاملين السابقين يمكن أن نفسر ضيق هامش السياسة الأميركية والأوروبية ولماذا لا تزال تحجم عن الدخول بقوة على خط الأزمة السورية لانتزاع دور أكثر فاعلية كما حصل في ليبيا واليمن، ولا تزال تكتفي بالنوسان بين حدي تشديد العقوبات الاقتصادية وتكرار الدعوات لعزل النظام سياسياً ومحاصرته، ونفسر أيضاً أحد أسباب صلابة الموقف الروسي والمتعلق بتشابكاته المتنوعة وأهمها الاقتصادية مع إيران ومع الكيان الصهيوني! ومن القناة نفسها، وتحسباً لردود أفعال متنوعة من أطراف المحور الإيراني، يمكن النظر إلى تردد السياسة التركية واكتفائها غالباً بتصريحات حادة ضد النظام السوري من دون أن تقترن بأفعال موازية أو مقاربة، وكذلك تردد الموقف العربي وتأخره في دعم الشعب السوري ومساندته بالمقارنة مع سرعته في التعاطي مع ثورات أخرى. لكن اللافت أن ما يمكن اعتباره تواطؤاً دولياً وإقليمياً ومداورة تجاه الحالة السورية، بدأ يتفكك أمام عزم الانتفاضة الشعبية وإصرارها على التغيير وتحت وطأة الضغط الأخلاقي لفداحة ما تتكبده من خسائر وتضحيات، وتنامي خشية الغرب من تضرر مصالحه في المنطقة في حال استمرار التمسك بالرؤية الإسرائيلية.
ثالثاً، التنوع والتعددية، الإثنية والدينية والطائفية، التي يتشكل منها المجتمع السوري، وتالياً تفاوت مواقف هذه المكونات من عملية التغيير وآفاقها وتحديداً خوف بعضها على هويته ونمط عيشه من بديل إسلامي آتٍ، ما يفسر في ضوء خصوصية الثورة القائمة وطابع الكتلة الشعبية المشاركة فيها، بقاء قطاعات مهمة من الشعب السوري في وضع الحياد والسلبية ولنقل مترددة أو محجمة عن الانخراط في الثورة، زاد الطين بلة نتائج الانتخابات في تونس ومصر والتي أعطت الإسلاميين وزناً كبيراً، والأهم ما تلفّظ به بعض قادتهم حول الخلافة وفرض الشريعة لتطهير المجتمع من الفساد، الأمر الذي يعقد شروط نضال المحتجين السوريين ويضعف قدرتهم على اجتراح التغيير، ويزيد من مسؤوليتهم في الحفاظ على الوجه السلمي للانتفاضة، وأيضاً من مسؤولية المعارضة السورية في إظهار صورة مقبولة ومطمئنة لكل مكونات المجتمع يمكن أن تشجع المترددين وتزيل ما يكتنف المشهد من التباسات!
رابعاً، خصوصية البنية الاجتماعية للسلطة والتي لا تزال تشكل قاعدة داعمة لها، ما ينعكس على تركيبة المؤسسة العسكرية وشرط إخضاعها، والتي لم تأخذ، كما حلم البعض، موقف الجيشين التونسي والمصري ولم تنقسم كحال اليمن، بل لا تزال متماسكة نسبياً، بفعل استمرار القدرة على الضبط الأمني لها أو خوفاً من نتائج مدمرة في ضوء ما تملكه قوى النظام الخاصة من إمكانات عسكرية وتقنية متطورة.
يبدو أن زمن التحول الثوري ثقيل جداً في سورية فهو مكتظ بالضحايا والآلام وبمعاناة ومكابدة مستمرة طيلة تسعة أشهر لم يشهد شعب ثائر لها مثيلاً، لكن ما قد يخفف من وطأته وثقله، وعي التشابكات والصعوبات المحيطة به، والثقة بجدوى المثابرة على الاحتجاجات السلمية في تجاوز هذه الصعوبات والتخفيف من آثارها، مع الحذر من وضع تصورات لانتصار سريع!
في كل مراحل الانتفاضة السورية شكّل ولا يزال إصرار الشعب على الاحتجاج واستبساله في الكفاح لنيل حقوقه وما يقدمه من تضحيات، المعلم والمحرك الأساسي للمتغيرات السياسية التي تحصل، داخلياً وعربياً وعالمياً، فهو الذي أزاح الغطاء الدولي الذي حضن سياسات النظام ورعاها طيلة عقود، وهو الذي شجع بعد تأخر وتباطؤ الجامعة العربية على تجميد عضوية سورية والتدخل للعب دور أكثر وضوحاً وحزماً، وهو الكفيل عبر صموده وعزيمته بتفكيك ما بقي من تعقيدات وجعل استمرار النظام عبئاً ثقيلاً على الجميع، يكرههم على إعادة النظر بسياساتهم ومواقفهم.
* كاتب سوري
الشرق الأوسط