خطاب الأسد: سبعة أضاليل لا تطمس قطرة دم واحدة
صبحي حديدي
الذين علّقوا عليه الآمال، طيلة الأيام التي أعقبت اندلاع الإنتفاضة السورية، خابت آمالهم في أن يقول مفردة واحدة تشي بأنه استمع إلى رسالة الشعب، أو ينوي الإستماع إليها في أجل قريب؛ أو أن ينطق مفردة عزاء واحدة لأهالي الشهداء الذين سقطوا، ويسقطون، هذه الساعة أيضاً، في درعا والصنمين واللاذقية وسائر أرجاء سورية.
والذين كانوا قد تفاءلوا بعهده، منذ أن تمّ توريثه في حزيران (يونيو) 2000، بعد ساعات من وفاة أبيه، وراهنوا على شبابه وانفتاحه ومزاجه المعلوماتي وسنوات إقامته في بريطانيا… خاب فألهم أكثر ممّا خاب طيلة 11 سنة من عهده، وليس محزناً تماماً أن لا يمحض المرء المراهنين أولئك فضيلة اكتشاف لا يبدو متأخراً، فحسب؛ بل يستدعي نقداً ذاتياً شجاعاً، وانخراطاً في معسكر التفاؤل الآخر، الصحيح والمشروع والتاريخي: صفّ الشعب، حيث تتواصل الإنتفاضة.
بيد أنّ خطاب بشار الأسد، أمام ما يسمّيه النظام ‘مجلس الشعب’، كان أبعد أثراً من حكاية الآمال الخائبة والتفاؤل الجهيض، وانطوى على سلسلة أضاليل سيقت عن سابق عمد وتصميم، واستهتار برسالة المحكوم إلى الحاكم، واستخفاف بجراح الشعب وأحزانه. ولعلّ التضليل الأوّل كان إصرار الأسد على مخادعة نفسه بنفسه، والإلتفاف على تصريحات كان قد أدلى بها قبل أسابيع قليلة لصحيفة ‘وول ستريت جورنال’، حول أولويات الإصلاح، وجداوله الزمنية التي قد لا يقطف ثمارها إلا أبناء جيل لاحق؛ فضلاً، بالطبع، عن حصانة نظامه ضدّ ايّ تحرّك شعبي، هو ‘المقاوِم’ و’الممانِع’.
فهو، في ذلك الحوار كما في خطابه الأخير، اعتبر أنك إذا لم تكن قد بدأتَ بالإصلاحات منذ زمن سابق على انتفاضات العرب، فإنك قد تأخرتَ الآن، وستبدو إصلاحاتك بمثابة خضوع للضغط الشعبي؛ والدولة التي تخضع لضغوط الداخل، يمكن أن تخضع أيضاً لضغوط الخارج. الأسد اعترف في خطبته أنّ الدولة قد تأخرت، ولكن الشعب يقول اليوم إنها لم تتأخر عن عام 2005، حين أوصى المؤتمر القطري العاشر بسلسلة إجراءات، فحسب؛ بل تأخرت عن سنة 2000، حين تولى الوريث السلطة من أبيه؛ وعن سنة 41 سنة من حكم ‘الحركة التصحيحية’، بالنظر إلى أنّ حكم الابن ليس سوى مواصلة لحكم الأب. ثمّ ما الذي يعيب نظام حكم، لا يكفّ عن ادعاء الإنفتاح على الشعب والتمتع بحبّ الجماهير، إذا خضع لضغط شعبي يدور حول حاجات ومطالب وحقوق مشروعة شتى؟
هذه، تحديداً، هي معادلة التضليل الثانية: ‘في الوضع الداخلي بنيت سياستنا على التطوير وعلى الإنفتاح، على التواصل المباشر بيني وبين الشعب والمواطنين، وبغض النظر عما إذا كان هناك من سلبيات وإيجابيات’، قال الأسد. ولكن أيّ انفتاح هذا الذي لا يقبل الضغط من شارع شعبي غرضه إصلاح البلد، ويقارنه بضغوط خارجية تستهدف تركيع البلد؟ وكيف يصحّ الحديث عن انفتاح بين نظام الأسد والشعب، إذا كان اعترف بنفسه أنه ‘ينقصنا دائماً التواصل’، و’الدولة طرحت وعوداً بالإصلاح ولم تنفذها’، و’لدينا دائما مشكلة في التواصل’؟ ثمّ كيف يفهم الشارع السوري، ثمّ العالم قاطبة في الواقع، تأخّر الأسد في الحديث إلى الشعب، وإنابة أمثال فاروق الشرع وبثينة شعبان ورستم غزالي وتامر الحجة… للنطق بالنيابة عنه؟ وهل هذا عذر، أم ذنب أقبح، أن يقول: ‘هذه الكلمة ينتظرها الشعب السوري منذ الأسبوع الماضي، وأنا تأخرت بإلقائها بشكل مقصود ريثما تكتمل الصورة في ذهني’؟ وأيّ خلاصات عجاف هذه التي اكتملت، في نهاية المطاف!
التضليل الثالث هو إغداق المدائح على مدينة درعا، وأنّ ‘أهل درعا هم أهل الوطنية الصادقة والعروبة الأصيلة، أهل درعا هم أهل النخوة والشهامة والكرامة’، و’هم مَنْ سيقومون بتطويق القلّة القليلة التي أرادت إثارة الفوضى وتخريب اللحمة الوطنية’؛ وفي الآن ذاته استكثار صفة الشهيد على عشرات القتلى من أبناء المحافظة، والسكوت التامّ عن مظالم المواطنين هناك، المحلية منها التي تخصّ فساد رجال السلطة وتسلطهم واستبدادهم، قبل تلك الوطنية التي تعني سورية بأسرها. وأي وسيلة لتكذيب بثينة شعبان، في تبجحها بأنّ الأسد يعتبر ضحايا درعا ‘شهداء الوطن’، أفضل من الإستماع إلى الأسد نفسه وهو يراهم ‘ضحايا الفتنة’، ليس أكثر؟
ويا لها من ‘فتنة’، هذه التي يشعلها مواطنون سوريون عزّل، يهتفون بالوحدة الوطنية بين مختلف مكوّنات المجتمع السوري، الإثنية والدينية والمذهبية والطائفية! ماذا ترك الأسد، في نقطة التضليل الرابعة، لمفارز ‘الشبيحة’ الهمجية، طبعة نظامه من ‘بلطجية’ أنظمة الإستبداد العربية الأخرى، التي تأتمر بأوامر أبناء عمومة الرئاسة: نمير بديع الأسد (بطل الفيديو الشهير الذي يُظهره، صحبة رجاله المسلحين، يقتحم شركة الهرم للحوالات، في قلب دمشق، ويسطو على قرابة 43 مليون ليرة سورية)؛ وفواز جميل الأسد (بطل معركة شهيرة دارت، في سنة 1988، بين رجاله وحوّامات وزوارق البحرية السورية التي حاولت التصدّي لقوارب التهريب)؛ ومنذر جميل الأسد (الذي صدر بحقّه حكم بالسجن خمس سنوات، ليس بتهمة ‘وهن عزيمة الامّة’ بالطبع، بل بجرم التزوير واستخدام مزوّر، ولكنه ما يزال حرّاً طليقاً!’…
التضليل الخامس في خطبة الأسد هو الحديث عن محاسبة المسؤولين: ‘من الضروري أن نبحث عن الأسباب والمسببين، ونحقق ونحاسب’؛ ولكن هل ينتظر منه طفل سوري، فكيف بنساء ورجال وشيوخ هذا البلد العظيم المنتفض، أن يحاسب أهل بيته، أوّلاً… أو حتى أخيراً! فإذا وضعنا قادة ‘الشبيحة’ جانباً، متى سيحاسب الأسد ابن خالته، العميد عاطف نجيب، رئيس فرع الأمن السياسي في محافظة درعا، وصاحب الأمر باستخدام الذخيرة الحيّة ضدّ المتظاهرين، وقبله الأمر باعتقال 16 طفلاً والإبقاء عليهم قيد الإحتجاز طيلة شهر ونيف؟ ولو لم يكن هذا العميد على صلة قرابة مباشرة برأس النظام، هل كان سيتجاسر على فتح النار دون الرجوع إلى القصر، أو الرجوع إلى العميد ماهر الأسد؟ أم يصحّ، أيضاً، الافتراض بأنه لم يتجاسر على اتخاذ قرار خطير كهذا، وأنّ الإذن بـ’وأد الفتنة’ جاء من الأعلى بالفعل؟
سياق التضليل السادس أنّ الأسد ألمح ـ على نحو عارض، ليست نيّة التعمّد خافية عنه ـ إلى أنّ الذين يعارضون الإصلاح والمحاسبة هم ‘أصحاب المصالح والفساد وأنتم تعرفونهم. قلّة كانت موجودة ولم تعد موجودة الآن. قلّة محدودة جداً تعرفونها بالاسم’. والحال أنّ السوريين يعرفونهم بالاسم، حقاً، ولكن ما يعرفونه أيضاً، وما يتقصّد الأسد التعمية عليه، هو أنّ هؤلاء ليسوا ‘قلّة محدودة جداً’، وهم موجودون على رأس مناصبهم ومواقعهم وصلاحياتهم؛ ابتداء من تمساح المال والأشغال والإستثمار رامي مخلوف، ابن خال الرئاسة الذي هتفت جماهير درعا ضدّه، وليس انتهاء بوزير الإدارة المحلية تامر الحجة (المرشّح الآتي لرئاسة الوزراء، كما تقول بعض التقارير) الذي شاع دوره في فضيحة جمعية الشهيد السكنية في حلب، عندما كان محافظاً هناك).
ومن الطريف أنّ الأسد، في الفقرة ذاتها، كذّب الذين كانوا ينسبون إليه نوايا إصلاحية، ويرجعون السبب في عدم تنفيذها إلى البطانة التي من حوله، ممّن يعيقون الإصلاح ويطالبون بالحفاظ على عقلية الماضي، سواء بدافع اقتفاء مصالحهم الشخصية، أو تمسكاً بعقائد جامدة تخصّ التنظير لـ’اشتراكية’ حزب البعث. وها أنه يقول بكلّ الوضوح: ‘كان يسألني هذا السؤال أكثر من مسؤول مرّوا بسورية مؤخراً من الأجانب. يريد أن يطمئن بأن الرئيس إصلاحي ولكن مَنْ حوله يمنعونه، وقلت له بالعكس، هم يدفعونني بشكل كبير’!
التضليل السابع، وهو أشبه باستئناف نكتة عتيقة مكرورة، تستهدف ذرّ الرماد في عيون مفترَضة تفتّحت منذ عقود على الحقيقة الأخرى الساطعة، وهي أنّ الأسد اختار ‘مجلس الشعب’ لتوجيه كلمته، لأنّ أعضاءه هم الذين يمثّلون الشعب. والحال أنّ هذا مجلس دمى متحرّكة بائسة، لم تعد تضحك طفلاً، ولا تشبه أشدّ الكرنفالات ابتذالاً وسماجة، وهو ـ رغم تغيّر بعض أعضائه اسماً، وليس البتة وظيفة وتهريجاً ـ المجلس ذاته الذي أسبغ ‘الشرعية’ على توريث بشار الأسد سنة 2000، وعدّل الدستور على النحو الأكثر كاريكاتورية في تاريخ أية أمّة، لكي ينحشر الفتى في الثوب الفضفاض الذي خلّفه الأسد الأب، ساعة رحيله.
ولو كان الأسد ينتمي إلى زمانه، في الحدود الدنيا لمنطق العصر واشتراطات الأوان، لأوحى إلى معاونيه الأمنيين أن يأمروا هؤلاء المهرّجين بالإقلال من تهريجهم، لأنّ العالم بأسره كان ينتظر خطابه، ولكانوا سمعوا وأطاعوا. ولو كانت نرجسيته العُظامية أقلّ تفشياً في مزاجه الشخصي، إذْ من الحكمة للمرء أن لا يتحدّث عن خصاله كرجل سياسة، لكان أوصى بأن لا يخرج عليه عضو يهتف له إنّ سورية والعالم العربي قليلة عليه، وموقعه قيادة العالم؛ هذا بمعزل عن أبيات الشعر السقيم وهتافات النفاق الجوفاء.
ثمة، إلى هذا، أضاليل أخرى تخصّ رفض الأسد توصيف أنماط الإنتفاضات الشعبية العربية بأية تسمية أخرى غير ‘الحالة الشعبية’؛ ولا نعرف، حقاً، ما هو العيار الفلسفي في هذا التعبير الغائم، وماذا تشمل الحالة، أو لا تشمل. وكذلك تبرّمه من تعبير ‘الموجة’ في الحديث عن هذه الإنتفاضات، لباعث أوّل يخصّ آماله في أن لا تزحف الموجة إلى سورية، كما للمرء أن يتكهن؛ ولرغبة في التفلسف الإضافي حول ‘التحكّم’ بالموجة، وكأنّ في وسعه وقفها أو إسكاتها أو تجميدها، حتى يفرغ من تأملاته فيجد الحلول للتحكّم بها.
مثله التضليل حول وجود ‘مؤامرة’، سواء تسلّحت بأسلحة ثقيلة، أو دارت على نحو افتراضي عبر شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، حيث يفلح المتآمرون في كلّ هدف: ‘زوّروا المعلومات، زوّروا الصوت، زوّروا الصورة، زوّروا كل شيء’، يقول الأسد. مدهش، مع ذلك، أنّ هذا ‘الرئيس الشاب’ كان قد سُوّق إلى الشعب السوري في صورة ‘رائد المعلوماتية’، وكان منصبه الوحيد الرسمي، قبيل توريثه، هو رئاسة ‘الجمعية المعلوماتية السورية’؛ فأيّ عجب في أن ينقلب السحر على الساحر؟ ثمّ إذا كانت ‘المؤامرة الإفتراضية’ عليه، أفليست له أيضاً، وفي متناول أجهزة نظامه؟ ألا يدخل أفراد تلك الأجهزة على الـ’تويتر’ والـ’فيسبوك’ مثل سواهم، بل يمتهن بعضهم فنون اختراق المواقع المعارضة وتخريبها؟
وأخيراً، إذْ يستمع المواطنون السوريون إلى الأسد وهو يتهم أمريكا وإسرائيل بالتآمر عليه، فضلاً عن دول أخرى ‘قريبة’؛ كيف لهم، إذاً، أن يقرأوا حماس وزيرة الخارجية الأمريكية، هيلاري كلنتون، لنظام الأسد، وتوصيفه بـ’الرئيس الإصلاحي’؟ وكيف تجب قراءة القلق الإسرائيلي الشديد على مصير نظام الأسد… أحبّ دكتاتور إلى قلب إسرائيل، كما ساجل سلمان مصالحة في مقالة لافتة نشرتها ‘هآرتز’ قبل أيام؟ وهل هتاف الشارع السوري ‘الله! سورية! حرّية وبسّ’ هو، حقاً، ذروة المؤامرات الخارجية؛ والهتاف البديل ‘الله! سورية! بشار وبسّ!’ هو ذروة الوطنية؟
وكيف لهذه الأضاليل، وعشرات سواها، أن تطمس قطرة دم زكية واحدة، سالت من جسد شهيد؟
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس