صفحات العالم

خطاب الأسد: كأن كل شيء على ما يُضام!


نصري الصايغ

يوم العاشر من كانون الثاني، كان يتوقع أن يكون عادياً، لا استثناء فيه. الأمور العربية مضبوطة وفق إيقاعات صارت معروفة ومتوقعة بعد اندلاع الربيع العربي ونجاحه في تحقيق القليل الجميل، من الآمال بالحرية والكرامة والعدالة والمحاسبة. فمحاكمات الرئيس حسني مبارك وأعوانه، كانت تسير في سياقها الطبيعي: النيابة العامة تطلب الإعدام للرئيس المخلوع بسبب جرائمه، هو وبعض أعوانه، وكان هذا الأمر الفائق الأهمية، عادياً جداً، إذ افتقد عنصر الإثارة فيه. حتى فوز «الإخوان المسلمين» والسلفيين كان متوقعاً. هذا الانقلاب الكبير في الحياة السياسية المصرية، وفي تغيير المشهد الاستراتيجي الإقليمي، كان عادياً، فلا مفاجأة مثيرة للاهتمام. حتى تعيين قائد الأركان الليبي، القادم من «الثكنة السياسية الأميركية» لم يثر ضجيجاً، لأن للثورة المضادة أنياباً غربية شديدة الوطء كالاستبداد، فثمن مساعدة الناتو، هو القبض على الثورة من عنقها السياسي والعسكري، كأن الروزنامة العربية والإقليمية قد تخلّت عن الإثارة، في العام الجديد، بعدما كانت منذ عام بالتحديد، تعلن قيام «الفاتح من عهد الحرية والديموقراطية والكرامة وحقوق الإنسان»…

يوم أول أمس، الواقع فيه العاشر من كانون الثاني، كان من الممكن أن يمر كغيره من الأيام، حاملاً عناوين قديمة: «سقوط عدد من الضحايا في سوريا»، أو، «المراقبون العرب يجولون في المناطق الساخنة ويتعرضون لبعض الخدوش»، أو «لجنة المتابعة العربية بقيادة قطر تناقش مصير المراقبين»، أو، «فشل اللقاء الإيراني التركي حول ملفات المنطقة ومنها العراق وسوريا ولبنان»… كل ذلك كان من «الوجبات السريعة» التي تهضم بسهولة وتنسى بعد قيلولة أو محاضرة ترفيهية عن «الربيع العربي»، يتداول الكلام فيها مثقفون لا يزالون يبحثون في جنس الثورة وألقابها الأكاديمية.

لم يكن أي شيء يشي بأن هناك شيئاً بارزاً أو لافتا أو ذا أهمية، يستدعي أن يظهر الرئيس السوري بشار الأسد، ليقول خطاباً… إلا إذا كان يحمل مفاجأة كبرى، بحجم الأزمة الفالتة من عقالها، منذ عشرة أشهر… لم يحدث أي تغيير على المشهد الداخلي: عمليات عسكرية، عمليات انتحارية، مواجهات، تظاهرات يومية، (بالعشرات أو بالمئات أو بالآلاف أو بعشرات الآلاف أو بمئات الآلاف، وفق المصادر الكاذبة من الطرفين، وقد اعتدنا على مبالغاتها وانتهازها)… كما أن المشهد الإقليمي على حاله: الجامعة العربية تعرج بين من يسرع إلى قرع طبول التدخل الدولي عبر تسليم الملف السوري إلى ذئاب مجلس الأمن، وبين من يريد أن يتريث لأسباب ملتبسة… كما أن المشهد الدولي مقفل، فالطريق إلى نيويورك غير سالكة، بسبب الفيتو الروسي والرفض الصيني.

كان كل شيء على حاله. لم يتغير أي أمر، لم تستفحل أي قضية، الدم المسفوك سبق أن سفك وسيسفك غداً. الاختلاف هو في عدد القتلى، وكيفية تقسيمهم بين قتلى السلطة وقتلى المعارضة. المعارضة السورية لا مفاجأت لديها. ما تم التوقيع عليه ذات ليل، محته قوى التأثير الإقليمية والدولية. لم تلتئم على وحدة أو تنسيق أو تفاهم. لغة التخوين في ما بين قواها، سائدة وقديمة. ولا دواء لها.

كان كل شيء يدعو إلى بؤس مستدام، بلا مخارج مفتوحة في سوريا.

فلماذا، في هذا اليوم بالذات، يقدم الرئيس بشار الأسد على اعتلاء المنصة؟ لا شك أن في الأمر غرابة. إذ، لا معجزات منتظرة، ولا حلول متوقعة، ولا حراك دولياً إقليمياً محلياً داخلياً يبشر بحل…

كان كل شيء على حاله، باستثناء جديد مبهم: «هل يغلق مضيق هرمز، وكيف؟ متى؟ هل هذا تمرين للقوى؟ هل تجن أميركا وهي العاجرة عن التفكير بشكل سليم بعد العراق وأفغانستان؟ هل تجن إسرائيل، وفي تاريخها ما يشهد على «عليَّ وعلى أعدائي»؟

حتى هذه… إلى جانب حصانة الرئيس اليمني المخلوع، كانت مدار سخرية سوداء… ما هذا الزمن الذي يفاوض فيه الرئيس، أو الرؤساء، على إخلاء سبيلهم وسبيل ما نهبوه من أموال، أرقامها مليارية؟

برغم كل ذلك، لا شيء أبداً، يستدعي أن يخرج رئيس جمهورية، أي رئيس جمهورية، ليقول شيئاً، إلا إذا كان فوق العادة.

[ [ [

لا شيء فوق العادة. المسيرة الانحدارية مستمرة بلا توقف. والمواقف لا تزال على حالها. الإصلاح يتعكز على خبراء السلطة، الأمن حديدي، الحراك الدولي مشبوه. قطر مستنفرة وتدور دواليبها في الهواء. والمبادرة العربية، خديعة تريدها الجامعة صفحاً، ويريدها النظام فرصة وبطاقة تستعملها روسيا لإظهار حسن سلوك النظام السوري.

«فلسفة» النظام لم تتغير منذ طفولة الثورة، مع أطفال درعا، حتى لحظة اندلاع الاشتباكات المسلحة: الثورة مؤامرة، هذا هو عنوانها الدائم. لهذا، إذا قال الرئيس، لقد سقطت الأقنعة عن الوجوه، فذلك كي يؤكد المؤكد: المؤامرة، وأحصنتها، دول غربية، دول عربية، أميركا. والخلاص من المؤامرة، يفترض قبول مبدأ المقايضة بين مواقف النظام القومية، لقاء استمرار السلطة فيه بيد القيادة الراهنة.

لا إشارة البتة، سبقت الخطاب، تفيد إلى أن النظام اقتنع بأن الحراك في أساسه ومنطلقه ليس مؤامرة، لأن ظروف اندلاع الحراك شبيهة بثورة الياسمين في تونس، وثورة الأحرار في مصر، وثورة المضطهدين في ليبيا، وثورة المنبوذين في اليمن، وثورة المغدورين في البحرين. لا إشارة البتة إلى أن النظام اعترف بأنه نظام شمولي. وما يسمى عادة، بلغة مهذبة، أخطاء النظام، ليس صحيحاً. فالنظام كله غلط، لأنه نظام يقوم على مبدأ الاستبداد. وعمر النظام ومعاناة الناس منه مزمنة. لم تبدر أي إشارة من أحد، تفيد أن مقارنة موضوعية جرت بين النظام في سوريا، والأنظمة التي تشبهه في كل الأقطار العربية. وإذا كانت المواقف القومية ودعم المقاومة من الثوابت السياسية الخارجية لسوريا، فإنها اليوم لم تعد توازن أبداً، الثمن الذي يدفعه السوريون، عبر استمرارهم بالخضوع لنظام يمنع عنهم الحرية ويمارس ضدهم أساليب القمع البوليسية.

هذه الفضائل لم تعد وازنة في حساب السوريين. الذين برهنوا على عروبتهم بالثقافة والسياسة والكفاح، منذ سلطان باشا الأطرش وما بعده. وهم ليسوا بحاجة إلى دروس في العروبة، ولو شذ برهان غليون عن ذلك.

كل ذلك لم يحدث. لم يعترف بوجود أزمة حقيقية.

هذه المرة، اعترف رأس النظام بالأزمة، و«هي صعبة جداً». قال الرئيس: إن ما تتعرض له سوريا هو «معركة غير مسبوقة» في تاريخها الحديث، وهي تحمل في طياتها مخاطر كبيرة وتحديات مصيرية.

هذا اعتراف موضوعي. ولكنه لا يحتاج إعلان ذلك إلى خطاب رئاسي، يشرح فيه بإسهاب علامات «الأزمة الكبرى». حيث، كما قال «يُستعمل فيها سلاح الطائفية بعد تغطيته برداء الدين…» ويُصار فيها إلى «اعمال التخريب والقتل والاغتيال وعزل المدن وتقطيع أوصال الوطن والسرقة والنهب وتدمير المنشآت العامة والخاصة».

هذا الاعتراف المستجد، يطوي ما كان يقوله النظام مراراً، على مدى ثلاث خطب: «الأزمة صارت وراء ظهرنا». ها هي أمامنا إلى أجل غير مسمى. ها هي بكل ما تحمله من عناوين «الخراب الرهيب».

[ [ [

كان يوم الثلاثاء في العاشر من كانون الثاني، يوماً عادياً في سياق التدفق العربي للأحداث. لم تحدث أي تغيرات في المشهد السوري، وفي كيفية النظر إلى الأحداث الدامية، كي يخرج الرئيس عن صمته، ليقول كلاماً حاسماً.

الشكوى من 60 محطة تلفزيونية معادية، يرد عليها وزير إعلام. الشكوى من مواقع الإنترنت والتويتر والحملات العدائية، يرد عليها بإعلام ذكي، وليس بإعلام أبكم، لا علاقة له بالإقناع، إذ، جل همه ان يمدح ويشتم. وهو في كلتا المباراتين فاشل، إزاء فجور الإعلام العربي المعادي لسوريا، الذي يرتكب من الموبقات الإعلامية، ما يندى له الحبر والحرف والجمل المفيدة والأخلاق الحميدة.

الشكوى من الجامعة العربية، لا تستدعي أكثر من الوزير وليد المعلم. فهو يتقن لغة المواجهة والمواربة، ولو أحرج مراراً بصدقيته، ليس لعلة منه، بل بسبب ما يدس عليه من معلومات غير دقيقة، ومشاهد تلفزيونية مقرصنة بغباء.

الشكوى من تباطؤ الإصلاح، يرد عليها بطرق كثيرة، أهمها، ان تتولى عملية الإصلاح، هيئة منتقاة من شخصيات تمثل تكوينات المجتمع السوري. تلك التي في الشارع وفي التنسيقيات، وتلك التي لا تزال عقولها فوق أكتافها، والتي تعارض بشدة النظام القائم، وتعارض بأشد منه، أي تدخل خارجي. ليس المطلوب شخصيات تمثل نفسها، بل تيارات سياسية قديمة ومستجدة. ولا تكون أحزاباً عاشت تحت إبط النظام.

الشكوى من مخططات الخارج، ليست جديدة. فطول عمرها سوريا، بسبب مواقفها القومية، معرضة لسياسات عدوانية… إلا أن هذه المعارضة الداخلية، ليست وليدة مخططات الخارج. الذين يندفعون ويقتلون ويصرون على التغيير، هم سوريون، ثم هم سوريون، وإلى الأبد سوريون، وما بدلوا تبديلاً.

والشكوى من أن هؤلاء، ليسوا إلا مرتزقة وعصابات مسلحة وحركات إرهابية، لا تنفع ولا تغير. فلقد سبق أن استعمل سلاح «شيطنة» المعارضة دائماً، قبل الثورة وإبانها، قبل اندلاعها في تونس وشقيقاتها، وبعد انتصارها هناك وتعثرها هنا وهنالك،… لقد اتهمت بالإسلامية، والإرهاب، والعمالة للأجنبي… لم يعد مفيداً ان يشمل النظام ويجمع المعارضين السلميين، وهم الأساس، مع «العصابات المسلحة» و«عناصر مندسة». هذا الاستعماء غير مجدٍ.

الشكوى من استعمال السلاح يُردّ عليها بإقامة السلم الأهلي، وهو ما لم يحن أوانه بعد، لأن المواجهات مستمرة… الشكوى من تدفق السلاح، لا حل له أبداً بالحمايات الأمنية. (العراق نموذج. لبنان الحروب الأهلية نموذج). الشكوى من تدفق الأموال، لا حل له أبداً. (أموال الخليج السائلة، هناك من يسأل عنها في أيام المحنة وأزمنة المواجهات. أيضاً العراق ولبنان نموذجان).

لم يكن هناك شيء لافت يشي بأن يوم العاشر من كانون الثاني، يحتمل خطاباً استثنائياً. فلم تسبقه بارقة أمل، ولا صحبته، حمّى ميؤوس من شفائها. أو كارثة تستدعي الطمأنة.

كانت الأمور تسير في سياق التدهور المعروف. يوماً بعد يوم. شهراً بعد شهر… إلى يوم ليس بقريب.

[ [ [

والتأم نصاب النخبة ونصاب الإعلام، لتستمع إلى خطاب طويل جداً، الجديد فيه، حكومة ملتبسة الشكل والمهمات، قد ترى النور ذات يوم، إذا صفت النوايا، وهي ليست صافية البتة. والجديد الآخر، قديم جداً:

«الانتصار قريب جداً». هكذا قال في مطلع خطابه. إنما الانتصار على مَن وكيف؟ تلك هي المسألة: «الأولوية، هي استعادة الأمن الذي نعمنا به لعدة عقود، وكان ميزة لنا، ليس في منطقتنا فحسب، بل على مستوى العالم..» إذاً، المسألة أمنية، لا سياسية.

إذاً، هذه هي الأولوية، للانتصار على الأزمة. استتباب الأمن. كما كان سابقاً.

كيف يستتب الأمن؟ الرئيس واضح: «هذا لا يتحقق إلا بضرب الإرهابيين القتلة بيد من حديد، فلا مهادنة مع الإرهاب، ولا تهاون مع مَن يستخدم السلاح الآثم، لإثارة البلبلة والانقسام. ولا تساهل مع مَن يروّع الآمنين ولا تسوية مع مَن يتواطأ مع الأجنبي ضد وطنه وشعبه».

هذا هو الشيء الجديد القديم الذي تقدم في أولويته على الإصلاح، والحوار، والحكومة الوطنية… وهذا حل تم تجريبه منذ عشرة أشهر ولم ينفع. فالدم يستسقي الدم، والعنف يستدعي العنف، والاستقواء بالعسكر يواجه بطلب الاستقواء بالخارج، وعدم الاعتراف بشرعية مطالب المعارضة المزمنة، يسوّق لشعار لا شرعية لأحد في هذا النظام، والمطلوب إسقاطه.

لا جديد البتة. فلمَ هذا الخطاب. هل كان الهدف منه، ان لا يكون له هدف؟

[ [ [

اليوم، هو يوم الخميس في الثاني عشر من شهر كانون الثاني. أشعر أن يأساً ينتابني، وأحزاناً دفينة تقتات من روحي. فسوريا بعد عشرة أشهر أخرى، ستكون على أسوأ ما يضام… القبضة الأمنية مقتلة: كم قتيلاً بعد؟ كم شهيداً بعد؟ كم دموعاً بعد؟ كم يتامى بعد؟ كم أرامل بعد؟ كم بكاء بعد؟ كم نشيجاً بعد؟ كم أحقاداً بعد؟ كم دماراً بعد؟ كم هيكلاً بعد «عليَّ وعلى أعدائي».

النظام يكرر نفسه. لا سبيل له حتى الآن، لتقديم نص يتنازل فيه عن أخطائه التي تسببت بنشوب ثورة، تحاول القوى المعادية للأمة، امتطاءها وحرفها وتشويهها؟

المعارضة في الخارج، أوت إلى الدب الدولي. تريده غداً في الكرمة السورية، قادماً «لحماية المدنيين» قضماً، بالطائرات والصواريخ والبوارج. ولولا «ملائكة الروس»، لكانت سوريا حذو ليبيا، ولولا آيات الله الإيرانية، لكنا نقرأ الفاتحة على أرواح السوريين.

اليوم هو يوم آخر…

غداً هو يوم آخر كذلك… وكل الأيام التالية، مربوطة بما يحدث في سوريا. بها تتغير خريطة العالم العربي، وتتغير التحالفات، إذا سقط النظام. وبها تصمد المقاومة وتترسخ سياسة المواجهة مع قوى الاستكبار، إذا حسب النظام أرباحه الاستراتيجية وتخلى عن مكاسبه الداخلية… وبها أيضاً تربح المعارضة، إذا استطاعت أن تخوض نضالها، بالسلمية المطلقة، هذه السلمية، الأقوى في المواجهات، والتي يكرهها النظام. ويعتبرها العدو الذي لا يقهر. لأن سلاحها قبضاتها.

لا وقت بعدُ لهذا الكلام الوارد أعلاه، فهذه أضغاث أحلام وكوابيس ما بعد الخطاب.

إنه وقت للصبر على الشدائد. لا ينجو الربيع عادة من العواصف. ولكنه يظل ربيعاً. فالزمن العربي لن يعود إلى الوراء. تلك هي سنة الثورة العربية الديموقراطية.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى