خطايا الأسد الصغير في قمع شعب سوريا
نادر فرجاني
للأسف أدخلت حالات ليبيا واليمن، وسوريا، انحرافا بشعا على النمط المثالي للثورة التحررية في البلدان العربية، أساسا بسبب تعنت الطاغية المتسلط الذي استبد بالبلد اغتصابا للسلطة، وقهرا وجورا، عقودا طويلة، ولم يتردد في استعمال القوة المسلحة ضد شعبه.
حتى بدايات 2011، كانت سوريا حالة فريدة بين البلدان العربية. فلو تغاضينا عن أسلوب وراثته المشين للسلطة، فقد كان لدينا حاكم شاب متعلم تعليما عصريا في الغرب، ويقود دولة المقاومة الرئيسية للمشروع الصهيوني في المنطقة العربية، ما جعل البعض يعقد عليه آمالا في التحديث وفي نفخ روح تقدمية في نظام الحكم التسلطي العتيد. ولكن اتضح بمرور الوقت أن أجهزة الحكم التسلطي ظلت أقوى من الرئيس الشاب واستمر قمعها الأسطوري للحريات والحقوق الأساسية لمواطني سوريا بلا هوادة، وبلغ للأمر حد اعتقال شابات في عمر الزهور بجرم التدوين الناقد على الإنترنت!
في الثلث الأخير من مارس 2011 بدأت انتفاضة شعب سوريا تتأجج في درعا في جنوب سوريا وتمتد خارجها إلى أرجاء البلد كافة. وجدير بالذكر أن الانتفاضة بدأت باعتقال أجهزة الأمن لعدد من الأطفال كتبوا شعارات مناهضة للحاكم، تـقليدا لشعارات ثورتي تونس ومصر وتعذيبهم تعذيبا بربريا، وقيل لأهلهم أن ينسوهم.
سعى النظام في سوريا في البداية إلى استجلاب الرضا الشعبي بتيسير الحصول على حاجيات المعيشة ولكن مع استمرار التضييق على الإنترنت و سبل التعبير العلني الأخرى، ولكن عندما اتسع نطاق الاحتجاجات الشعبية لجأ النظام إلى القوة الغاشمة حتى انتهى، بالإضافة إلى إطلاق أجهزة الأمن الباطشة على القوى الشعبية المنتفضة، إلى تجريد الحملات العسكرية على المدن السورية المتمردة وصولا إلى استخدام السلاح الثقيل للجيش والقصف من القطع البحرية.
وحول منتصف العام 2011 كانت الانتفاضة الشعبية في سوريا تزداد استعصاء على الحل وتقترب من حافة الحرب الأهلية. إطرد القمع الباطش بالتحركات الشعبية مع دعوة الطاغية إلى الحوار وتغليب “الشرعية”، وكم من الجرائم ترتكب باسم الشرعية المغتصبة في ظل الحكم التسلطي!..
أعلن في نهايات يولية عن قانون جديد للأحزاب يسمح بتأسيس الأحزاب ولكن دون أن ينهي سيطرة حزب البعث على السياسة، إذ نص على احترام الدستور الذي يعطي في المادة الثامنة منه لحزب البعث موقع قيادة المجتمع على حين استمر شن الجيش وباقي قوى أمن النظام للحملات التأديبية الباطشة، مسقطة عشرات الشهداء في اليوم الواحد أحيانا.
ثم اطردت الحملة الباغية لسحق “التمرد” و”المؤامرة” بالعنف المبالغ فيه حيث كان عدد الشهداء والمصابين والمعتقلين يزداد بمعدلات مخيفة بسبب استعمال أسلحة الجيش، حتى الثقيلة منها، والقناصة الذين يستهدفون المتظاهرين في الرؤوس والأعناق والصدور، ولا يرد عليها المتسلط إلا بإقالة حكومة لا حول لها ولا قوة، والوعد بإصلاحات لا تأتي، أو إن أتت لا تستهدف إلا أن تُجمِّل واقعا قبيحا، والتبجح بدعم “الشعب” له بينما ينفض عنه أركان نظامه باطراد، ما يذكر بطاغية ليبيا الذي جمع بين جنون العظمة وإنكار الواقع ما جعل منه ظاهرة كونية فريدة.
وتأكد رفض ثوار سوريا للإصلاحات الديموقراطية التي جاء بها الطاغية متأخرة وفي ظل بطش بربري متصاعد بالمتظاهرين، مصرّين على رحيله وإسقاط نظام الحكم برمته!
وفي نهايات رمضان- أغسطس بعد أن تأكد سقوط نظام حكم طاغية ليبيا تحول الاهتمام بصورة تلقائية إلى التساؤل عن مصير طاغية سوريا، متى وكيف سيسقط هو الآخر؟، خاصة بعد أن تصاعدت انتقادات كثرة من الدول الغربية لتراكم الانتهاكات التي اقترفها نظامه في قمع الاحتجاج الشعبي (أكثر من 2300 قتيل، وثلاثة آلاف مختفٍ، وربما عشرة آلاف معتقل، خلال أربعة شهور) والتي قاربت في نظر مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة “جرائم ضد الإنسانية”، وصعدَّت الأمم المتحدة من عقوباتها على الطاغية وعائلته. كما رفعت عنه غالبية الدول العربية الخليجية الغطاء من خلال سحب سفرائها من دمشق، ما يحتمل التفسير بأنه موقف مضاد لتمدد النفوذ الشيعي، ومعسكر المقاومة، في الوطن العربي. ولكن رفع الغطاء المُعرِّي حقيقةً لبشاعة نظام الحكم التسلطي في سوريا جاء مع نهاية رمضان- أغسطس 2011 عندما صدر عن حليفه الإقليمي الأوثق، حين قال وزير الخارجية الايراني علي أكبر صالحي أن على الحكومة السورية أن تلبي ‘المطالب المشروعة لشعبها’، محذرا في الوقت نفسه من أن سقوط الرئيس بشار الأسد سيولد فراغا سياسيا. وتبعه تحذير قوي اللهجة من حليف النظام على الساحة الدولية، الاتحاد الروسي، حين نقل نائب وزير الخارجية رسالة واضحة” للجانب السوري بضرورة تهدئة الموقف في أسرع وقت وحذر من احتمال تطور الموقف في مجلس الأمن نحو اتخاذ قرارات حازمة ضد النظام السورى.
وقد عبّر الفنان السوري المبدع على فرازات عن توقع سقوط الطاغية السوري، بعد الإطاحة بطاغية ليببا، برسم فكاهي فصيح يمثل بشار الأسد طالبا “توصيلة” من طاغية ليبيا في فراره الملهوف من أمام ثوار ليبيا. وجاء رد النظام البربري هو اعتداء همجي استهدف، للخسة المقيتة، رأس الفنان الرقيق وتكسير يديه وأصابعه. ولحسن الحظ أن لم يفُتّ الفعل المزري في عضد الرجل أو قريحته، فرد من فراش الاستعفاء برسم آخر ينضح بالمثابرة والصمود كما بالاسهتزاء بمن اعتدوا عليه، أبدعه بعد الاعتداء المشين.
وفي جلسة لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى وزراء الخارجية، من دون وزير خارجية سوريا، محاطة بتظاهرات شعبية حول المبنى الذي ضم اجتماع ممثلي الدول العربية، كانت واحدة تحيي انتصار ثورة ليبيا وتندد ثانية بالقمع الباطش في سوريا. في هذا الاجتماع، حذر أمين الجامعة ووزراء الخارجية العرب من التعامل الأمنى مع مطالب الشعوب قائلا: “أثبتت التجربة عدم جدوى التعامل الأمنى والعنف، بل الإصلاح والتجاوب مع مطالب الشعوب هو الطريق الوحيد للاستقرار ومنع التدخلات الأجنبية”. واعتبر المجلس أن لم يعد ممكنا السكوت على سياسة القمع الأمني للانتفاضة الشعبية في سوريا، مطالبا “وضع حد لاراقة الدماء وتحكيم العقل قبل فوات الأوان”، وقرر إيفاد أمين الجامعة في مبادرة بقصد التوصل لحل يحقن دماء السوريين ويعيد الاستقرار للبلد. ولكن سرعان ما اعترضت الدوائر السورية الرسمية على الإعلان، وأكدت انها تعتبره “كأن لم يصدر”، ونفت وجود مبادرة اصلا، ثم وضعت شروطا على قبول زيارة الأمين العام.
وفي اليوم ذاته أصدر الرئيس السوري بشار الأسد مرسوما تشريعيا بقانون جديد ينظم الإعلام، يؤكد، على حرية التعبير وحرية الصحفيين في الحصول على المعلومات، وهل من يصدق؟!. وكأن صدور مثل هذا المرسوم كان يتطلب اقتضاء سلطة الحكم التسلطي ثمنا يتمثل في عشرات آلاف القتلى والمصابين والمعتقلين من السوريين، وشبه حرب أهلية بشعة دامت ستة شهور طوال!!
ولطالما زعمت السلطات في سوريا أن وراء الانتفاضة الشعبية التي دامت أطول من ستة شهور مؤامرة أجنبية. وكانت المؤامرة التي يشاع أنها تخلقّت في غمار حرب استخباراتية مريرة، تستهدف تقسيم سوريا إلى ثلاثة إمارات نقية، دينيا وعرقيا، ونقل المسيحيين منها إلى لبنان، ما يتماشى مع رؤية شيمون بيريز للشرق الأوسط الجديد (1992) ومخططات الموساد الإسرائيلي.
وليس من شك في أن سوريا، يمكن أن تكون من أشد البلدان العربية تعرضا لمؤامراة خارجية بداع من دورها البارز في معسكر المقاومة للمشروع الصهيوني في المنطقة العربية. ولكن هذا الإدعاء لا يستقيم مسوِّغا للحملة الأمنية الباطشة التي طالت قطاعات واسعة من الشعب السوري، ووحدّت قطاعات متزايدة الاتساع من المعارضة المستنيرة داخل البلاد وخارجها، وأدت إلي انشقاق بعض ضباط وجنود الجيش احتجاجا وانضمامهم لصفوف المعارضة المناهضة للنظام ، خاصة من السنة، والذي كان وراء محاصرة القوات السوريا لمدينة الرستن المنشقة وسط البلاد وإمطارها بنيران الرشاشات الثقيلة (الوفد، 30-08-11). وبلغ الأمر حد الإعدام الفوري لعناصر الجيس التي رفضت تنفيذ الأوامر بإطلاق النار على الأهالي.
ولكن، حتى إن صح إدعاء المؤامرة، فلمَ لم تجابهها السلطات السوريا مسلحة بوحدة الشعب السوري بدلا من انتهاك حقوقه وحرياته، والتى تدل محاولات السلطة المستميتة، والمتأخرة دوما، للاستجابة لمطالب الإصلاح التي نادت بها الانتفاضة الشعبية، على طول اغتصابها؟
الحوار المتمدن