خطر الانكفاء إلى البدايات
كرم الحلو
لم يكن المآل الاسلامي للانتفاضات العربية مفاجئاً وخارج حدود التوقع كما تتصوّر بعض الدراسات الايديولوجية التي هالها صعود الحركات الاسلامية واكتساحها الساحة العربية، في حين كان يُظن ان العالم العربي متجه نحو أفق ليبرالي مختلف. فقد جاء توجه العرب في السياق الحداثي، مطلع النهضة العربية، عبر مخاض عسير اقتضته تسويات توفيقية وتلفيقية مع العقل الاسلامي المهيمن، ولم يتوصل الفكر العربي على مدى القرنين الماضيين الى تجاوز الاشكال الكبير الذي اعتراه اثر انفتاحه على منظومة الحداثة الغربية، فاستمر التوجس إزاء ليبرالية الغرب وقيمه السياسية والاجتماعية والعقلانية رغم الانبهار بحضارته المادية والعمرانية والإقبال عليها من دون عوائق، وربما كان النهضويون الاوائل أكثر إبداعاً وعبقرية في التوفيق والتبرير والتسويغ من التوفيقيين المعاصرين.
كان الفكر العربي قد قبل حداثة الغرب، ولو على مضض وبعد إعطائها بعداً تأصيلياً لا يضعها في تضاد مع الاسلام، ليخلي الساحة للمشاريع الحداثية الليبرالية والقومية والاشتراكية، إلا انه لم يلبث ان انكفأ من جديد الى المرجعية الاسلامية بعد الإحباط الذي أصاب كل هذه المشاريع وبقائها شعارات بائسة لم يقيض لها التحول مرة الى واقع وحقيقة.
طرح المشروع الليبرالي العربي أولوية الفرد الانساني وحقوقه في العيش والكرامة والحرية، فجاءت النظم التسلطية والقبلية المتخلفة لتنفي الفرد وتفترس حقوقه محيلة اياه رقماً تافهاً لا معنى لوجوده سوى خدمة القلة المتسلطة واستخدامه مطية لمصالحها ومغامراتها واستئثارها بكل الخير العام.
وطرح المشروع الليبرالي العربي كذلك مبدأ الدولة التعاقدية القائمة على تعاقد حر بينها وبين أفرادها الاحرار المتساوين، ومجرى شرائعها متساوية على الجميع دون تمييز بين الاشخاص أو تفريق بين الاحوال، في حين سادت على الساحة العربية دولة القهر والتغلب والاكراه، حيث لا حساب لمبدأ التعاقد بين الحكم والناس، وحيث التمييز هو السمة المهيمنة. واذ أُسقط مبدأ التعاقد المؤسس للمجتمع والدولة والحكم، استحكمت العدائية بين الدولة والناس، فصار الحكم تحكماً وتسلطاً بدل ان يكون خدمة عامة فوضها اليه أولئك الذي يتسلط عليهم. كما أُفرغت المواطنة من مضمونها التعاقدي المتمثل في تبادل الحقوق بين الوطن والمواطن، وجاءت الممارسات القوموية والشعبوية والحزبوية لتكرس الخلل في العلاقة بين الفرد والمجتمع والدولة.
وقال الليبرالي العربي بسيادة العقل وحقه في المساءلة والرفض والقبول والاعتراض، وبالدور الحاسم للانسان في تقرير مصيره وفقاً لحقوقه الطبيعية وأولوية هذه الحقوق على كل النظم السياسية والعقائدية والاخلاقية. وها هو يشهد منذ نهايات القرن الماضي الى الآن غلبة النقل على العقل وانهيار العقلانية أمام الاصوليات، واندحار الفكر النقدي إزاء الأفكار الظلامية، حيث تراجعت على الساحة الثقافية المؤلفات النقدية لمصلحة كتب الطالع والتنجيم والخرافة.
في ظل كل هذا الاحباط الذي أحاط المشروع الليبرالي تقدم الفكر الديني طارحاً حكم الشريعة بدل حكم الشعب، ومستبعداً اي دور لأفكار التعاقد الحر والمجتمع المدني وإرادات الناس.
وطرح المشروع القومي وحدة الامة العربية فوق الطوائف والمذاهب والاثنيات، لكن القومي العربي فجع كما الليبرالي العربي بتهافت مقولاته وايديولوجياته وتساقطها على ارض الواقع، حتى ان من القوميين العرب من عاد بعد عمر مديد في الدعوة القومية والوحدوية قانطاً خائباً بلغ به الشك حد طرح مشروعية الهوية القومية العربية في موازاة الهويات القطرية والعشائرية وصولاً الى التشكيك في كل مقوم للقومية العربية. وليس من دون دلالة تصاعد ظاهرة الحجاب بعد النكسة القومية العام 1967 حيث لاحظ متروك الفالح ان عدد المحجبات في مصر فاق العشرة ملايين محجبة عام ألفين بينما لم يشاهد في القاهرة العام 1970 سوى بضع محجبات قادمات على التو من الارياف.
وما انتهى اليه المشروع الاشتراكي لا يقل انكساراً ومأسوية عما وصل اليه المشروعان الليبرالي والقومي. اذ بعد قرابة قرنين من الدعوة الى العدل الاقتصادي والاجتماعي وصولاً الى المناداة بالاشتراكية، لا يزال العالم العربي ينوء بأكثر من مئة مليون فقير وجائع وأمي، فيما القلة الثرية تحتكر الثروات وتبددها من دون محاسبة. وتؤكد الدراسات الاقتصادية والاجتماعية التزايد المطرد للفجوة بين الفقراء والاغنياء وانهيار الطبقة الوسطى في العالم العربي، ما ينذر بصراع طبقي يصل الى حد حرب أهلية غير معلنة.
في ظل كل هذا الاخفاق الذي منيت به المشاريع الحداثية، عاد العقل الاسلامي من جديد الى نقطة البدء مكرراً مقولته التاريخية الثابتة “الاسلام هو الحل”. لكن هل سينجح الاسلاميون حيث أخفق الليبراليون والقوميون والاشتراكيون؟ هل في وسع هؤلاء الاجابة على تحديات التخلف الاقتصادي والاجتماعي والعلمي؟ هل في مقدورهم تجاوز محنة التفتت القبلي والاتني والعشائري ليرسوا دعائم الدولة العربية الواحدة القادرة؟ كيف سيتعاملون مع الانقسام الطبقي المنذر بأفدح الاخطار على وحدة الامة؟ كيف سيواجهون إشكالية الفقر وإشكالية الامية والتخلف العلمي وتردي حال المرأة العربية المستدام؟ اية دولة هي تلك التي يتطلعون الى إقامتها على أنقاض الدولة التسلطية العتيدة؟ هل يرومون تأسيسها على مبادئ حقوق الانسان الطبيعية وهل ثمة مجال في هذه الدولة للمجتمع المدني وحرية الفرد والمرأة وحقها في مكانة سوية في الوجود الاجتماعي، وهل يؤمن الاسلاميون اصلاً بالخلفية الليبرالية للديموقراطية التي لا معنى للأخيرة من دونها؟ ثم ما هو موقف هؤلاء من التحدي الوجودي الصهيوني وما هو تصورهم لمستقبل الصراع العربي مع الصهيونية؟
اسئلة اشكالية نرى ان ليس في قدرة الحركات الاسلامية الاجابة عليها وان المآل الاسلامي للانتفاضات العربية ما هو الا دليل على مراوحة المأزق العربي التاريخي في دوامة الاشكاليات المعلقة والابواب الموصدة منذ ما يقرب من القرنين الى الآن.
كاتب وأكاديمي ـ لبنان
السفير