“خطوط النار” لفواز حداد: سقط الحرية الأميركية
جينا سلطان
في روايته الجديدة “خطوط النار”، الصادرة لدى دار الريس، يترجم الكاتب السوري فواز حداد معنى سقط الحرية كما يقدرها الأميركيون، ليس للشعب العراقي فحسب بل لأمة “لا إله إلا الله” بأسرها، ويوثق لتنويعات الرعب والخوف، التي تعبّد طريق الآلام، طريق الهداية الأميركية التي تُلبس اغتصاب الحياة والكرامة الإنسانية معطف الحرية.
تتكئ نقاشات الحرية بين الجلاّد والضحية على طبيب نفسي ومترجم، كيلي وعباس، يتحملان معا عبء الصدام الحضاري بين الغالب والمغلوب، وتنهض الحبكة الروائية حول قضية الإرهاب النسائي، سلاح “القاعدة” الأخطر، وتناقش تداعيات الاغتصاب في حرب بلا قواعد، حدودها العليا لا تبرر اغتصاب الفتيات والأطفال فقط، بل القتل للتسلية والترفيه عن النفس!
بطلة الرواية فتاة عراقية تدعى بثينة، اختطفت مع فتاتين على ايدي جنود أميركيين، وتمت المتاجرة بهن كرقيق أبيض، في إشراف السرجنت ماغواير، الذي استعبدهن في حلبة العروض الجنسية الحية، وكاد يقتلهن ويمثل بجثثهن لولا تدخل الجندي بيرنز، صبي البار البصاص. أحضر كيلي بيرنز معه إلى المنطقة الخضراء لعلاجه من عقدة الذنب وتفكك الأنا، وهناك التقى بثينة التي قبض عليها بتهمة الإرهاب، وناشدها الصفح والغفران.
تدور الرواية على لسان كيلي وتحمل بصماته، وتورطه الأخلاقي في الحرب، ورؤية قومه للعراقيين، التي اتخذت شكل المناظرة الحوارية، وتوزعت على فصول متواترة حمل كل منها عنوانا صحافيا متحديا، وبذلك أكسب حداد نصه التشويق والترقب، فأوقع قارئه في إحكام شبكته.
حرص كيلي على تأطير صورة التقسيم الطائفي في العراق، لتدعم نزعة التفوق العنصري الأميركي: فمثلث الموت هو سامراء مركز التمرد السني، ورب العراقيين أقوى تأثيرا من رب الأميركيان، إذ ينوجد معهم على الدوام في المدن والقرى والحقول، يزرع الموت ويحصد الجثث، يتكلم مع المتمردين والإرهابيين، يمدّهم بالعزيمة، ولا يبخل عليهم بالوعود، يتعهد لهم الجنة، ويرسلهم إلى العمليات الانتحارية. في المقابل هناك طقوس عاشوراء في الكاظمية، التي يسمّيها كيلي طقوس السيف والدم، ويعزوها إلى الحرمان الجنسي، مما يدفع المؤلف للتدخل على لسان الشيخ والتفسير: “إذا كنا نتماهى مع من تخلّوا عن الإمام، فلكي نتعرف إلى الظلم ونعانيه بالجسد والروح، إنه الحزن النبيل: حق الله، حق الإمام، حق الإنسان في الحياة الكريمة”.
أما الحياة اليومية للمواطنين المسربلة باليأس والإحباط، فتدفع كيلي للاستغراب حيال التفاؤل والرضا داخل هؤلاء البشر، والذي يولد من عوامل تافهة في رأيه، كالحصول على القليل من الوقود، أو الخبز والخضر، وعدم انقطاع الكهرباء لفترات طويلة.
حين نصل إلى الإرهاب يتفنن كيلي مع قائده أدامز في استعراض دموية العراقيين، التي تصل بـ”القاعدة” الى حد تفخيخ الجثث وأجساد الجرحى والأطفال والمعوقين، وتلتقي مع عقدة الذنب في الجانب الشيعي، لتدمغ العراق بميراث القتل والتنكيل، والإبحار في الدماء. هنا يتبلور هاجس الخوف الأميركي من توظيف “الشعور بالندم” ضد الاحتلال، مما يعني أن شعبا بأكمله لديه المقدرة على التحول بلمح البصر قنابل بشرية. وحتى عند هذه النقطة يتلفع كيلي باحتقاره العنصري ويأمل في أن يكون العرب شعبا يسير نحو الفناء، داعيا لإفساح المجال لهم كي يخرجوا من العالم. فلا شيء ينفع فيهم، يعيشون ويموتون على الشاكلة نفسها، وما الحصار والنفط والحروب إلا فرص عابرة هيأت لهم نافذة للدخول إلى العالم، أي أن الانسحاب الأميركي في رأي كيلي يعني انسحابا عراقيا من العالم!
المفارقة أن من روّج لاحتواء الإرهابيات إنسانيا، هو أدامز رجل المهمات المميتة، المسؤول عن العمليات السرية القذرة، الذي تقع مهمة كيلي تحت إشرافه باعتبارها جزءا من الغطاء الذي يعمل خلفه؛ تأمين إمداد الجيش بالمواد الطبية!
نصل إلى دور عباس الذي عمل مترجما في مكاتب الإعلام التابعة للقيادة المركزية للجيش الأميركي أو كما سمّاه كيلي دليل جاكمان في الغابة العراقية التي تضم في رأيه وحوشا مسعورة في أجهزة الحكم، أغلبهم قادة ميلشيات لا رجال دولة.
كان عمل المترجم على علاقة بحرب الأفكار والأكاذيب: الثرثرة الغربية الدائمة حول الحرية والديموقراطية والليبيرالية، التي تستقي أجنداتها من مراكز البحوث الاستراتيجية الأميركية، وتستلهم إسرائيل الكثير من غاياتها.
الجزء الأكبر الذي تبنى عليه مأساة بثينة بحسب رأي الطبيب النفسي هو التمرد السني، الاقتتال الطائفي، الخطف والقتل والذبح، العمليات الانتحارية، السيارات المفخخة. فالصراع الناشب بين الجميع، خلف فوضى شاملة، اختلطت فيها الأوراق. لكن الواقع بيّن أن بثينة وقعت ضحية بلد دخل ضمن استراتيجيات القوى الكبرى، وكان رجاء كيلي الخفي ألا تكون تعرضت لخديعة الحرية، إذ لن ينالها منها سوى المزيد من الإحباط!
اعتمد كيلي في علاجه لبثينة على محاولة خفض آليات الرفض لديها، بفتح ثغرة في اقتناعاتها الثابتة، من خلال فهم مختلف، يجعلها تستسلم لما حل بها، فهو يقع تحت مفهوم القضاء والقدر، باعتباره النظرية التي يعتقد بها المسلمون. لكن عباس أوضح لها المعنى العميق لوسائل الطبيب الحضارية، الذي يحيل الاغتصاب على فعل عادي أو اضطراري، أو اختياري، بينما في الحقيقة ليست لديها حقوق السحاقيات الأميركيات، لأنها عراقية. فعمليات الاغتصاب تحدث لأن النساء العراقيات في متناول اليد، ومن الممكن التغاضي عنها والتستر عليها، لكنها في حال وقوعها على المجندات الأميركيات تنكشف وتنتج منها تحقيقات ومقاضاة وشائعات وصحافة وإعلام. أما اغتصاب الحياة فقد كان الديكتاتور السابق سببا لها، ولولا التدخل الخارجي لما تخلص العراقيون منه، وبذلك أظهر كيلي العهد السابق امتحانا من الله، والاحتلال عناية إلهية. هنا يتجاوز عباس صفته كمترجم ليرجم غطرسة كيلي بما تستحق: “إذا كنتم تجاوزتم ما قمتم به من قتل وتدمير وتعذيب وما أدى إليه من إذلال وامتهان للكرامة، فهذا هو العار”!
تطرق أدامز في حديثه مع كيلي إلى سلاح “القاعدة” الفعال وهو الاستشهاد، الذي يحصد يوميا مئات القتلى والجرحى، وسمّاه “سلاح من لا سلاح له”، وتشدق بمحاولة انتزاعه منهم. لكن الفكرة التي باغتت كيلي وأراد أن يقولها ولم يجرؤ، هي أن فعل الانتحار يجعل هؤلاء البشر المكدودين والمقهورين شعباً حياً، بينما الرضا والإذلال يجعلهما شعباً ميتاً.
قدم فواز حداد رواية مشحونة بعاطفة قوية، أعادت إلى أذهاننا تيمة الأب وابنه في روايته السابقة، “جنود الله”، التي تلبست لحمة الشيعي – السني في علاقة عباس ببثينة. وكان اجتماع ما بقي من عائلتيهما هو الرد القوي على رسالة أدامز: “نحن الجنون الذي سيصنع العالم”. فقد رتل شقيق بثينة محمد القرآن الكريم على روح عباس، بينما قبع كيلي في الجانب المظلم، قلب العالم الجبار، من دون أن يطلب الغفران. فما دام ماضيا في طريقه، فهو بيرنز آخر بلا قلب.
حاول فواز حداد التلميح الى إعادة كتابة سيناريو الفيلم الأميركي عراقيا، وتسلم زمام المبادرة عبر الإيحاء الخفي بتوارث الضمير الحسيني كمكافئ مقابل عقيدة الكراهية المتناسلة عن السبي البابلي القديم، مما يقود إلى التوظيف الصحيح لمعنى طقوس عاشوراء في جهاد الحرب القذرة التي تنتهك كل المحرمات، بدل الاقتتال العبثي اللانهائي، والوقوع في قبضة التاريخ المختوم.
النهار