خلاصة الثورة العربية في عشرة دروس
جان-بيار فيليو
جان-بيار فيليو، أستاذ العلوم السياسية في باريس، درّس سابقًا في جامعات كولومبيا (نيويورك) وجورج تاون (واشنطن). اختص بالتاريخ العربي والإسلامي، وأصدر مؤلفات عديدة، منها: “القيامة في الإسلام” الذي حصل على جائزة أدبية فرنسية في العام 2008، و”عيوب القاعدة التسعة” (2009). تُرجمت مؤلفاته ودراساته حول العالم العربي-الإسلامي إلى لغات عديدة تربو على العشرة. وكتابه الذي بين أيدينا صدرت ترجمته إلى الإنكليزية ودارت حوله نقاشات عديدة في وسائل الإعلام الأوروبية والأميركية، ويُنتظر أن تصدر نسخته العربية عما قريب. في هذا الكتاب، يستخلص دروسًا عشرة من قراءته للثورات العربية يستعرضها في فصول عشرة يتألّف منها الكتاب:
الدرس الأول: هو أن العرب لا يشكّلون استثناءً من بين شعوب العالم التواقة إلى الكرامة والديمقراطية والعيش الكريم.
فمنذ انهيار جدار برلين في العام 1989، كثرت التحليلات الأكاديمية والصحافية وغيرها التي تطرح الأسئلة المتعلقة بأسباب بقاء العالم العربي “من المحيط إلى الخليج” خارج الحداثة والديمقراطية، من دون أن يعثر أحد على الأجوبة الشافية، اللهم إلا ذلك الذي يقول باستثناء عربي سببه الدين أو التركيبة العشائرية أو المجتمع الذكوري أو الإرث الاستعماري أو إرادة القوى العظمى أو الطبيعة الحديدية للأنظمة العربية أو وجود إسرائيل في قلب الوطن العربي… إلخ، أو كل هذه الأسباب وغيرها مجتمعة (ص13-15).
يقول الكاتب: إن الشعوب العربية تكافح من أجل حقوقها منذ أكثر من جيل كامل ولكن الأحكام المسبقة الثقافية والتموضعات السياسية كانت تحجب الرؤية عن مدى اتساع هذا الكفاح في وجه الأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية. فالعرب ليسوا استثناء بل إن بقاء العصابات الحاكمة هو الذي كان استثناءً وصل إلى نهايته مع فرار الرئيس التونسي بن علي. وغداة انهيار هذا النظام، قال كثير من المحللين بخصوصية الحالة التونسية قبل أن تنهار تحليلاتهم أمام انفجار الثورة في مصر ثم ليبيا ليتبين، بالتالي، أن الخصوصية العربية والاستثناء العربي يكمن في السرعة التي انهارت معها النظم الاستبدادية أمام المد الجماهيري الثائر. وقد عاد العالم العربي ليحتل صدارة الأخبار العالمية ليس بسبب الحرب والإرهاب ولكن للاحتفال بانتزاع الحرية، وهذا بحد ذاته ثورة، كما يعبّر الكاتب (ص29).
المسلمون ليسوا مسلمين فحسب
في الأسابيع التي تلت تفجيرات 11سبتمبر/أيلول2011، بيع عدد كبير جدًا من المصاحف في المكتبات الأميركية والأوروبية. هذه الموجة الهائلة من القرّاء راحت تنكب على القرآن الكريم، لتبحث في نصوصه عن شروحات للكارثة ولعقلية المسلمين المتطرفين. لقد نجح بن لادن وأنصاره، وقتها، في الاستحواذ على الاهتمام العالمي حيث احتدم النقاش حول الطبيعة السلمية أو العنفية للدين الإسلامي. لقد أُثير التاريخ الإسلامي من جوانبه المختلفة، كما انتشرت التحليلات المتعلقة بالتقاليد الإسلامية وبالنصوص القرآنية ونصوص الأحاديث النبوية الشريفة وغيرها، في الغالب خارج ظروفها التاريخية والاجتماعية ومقاصدها (ص31). وقد غلبت على هذه التحليلات، الغربية في جُلّها، الفكرة القائلة بأن العالم الإسلامي لم ينجح، كما فعل الغرب، في فصل الدين عن الدولة، لذلك ظل العمل الحكومي كما النشاط السياسي المعارض له في الإطار الديني الضيق، ما منع هذا العالم الإسلامي من العبور إلى الحداثة والحرية (ص32).
ويستند الكاتب على استطلاعات للرأي أجرتها مؤسسات دولية متخصصة (مثل معهد واشنطن للشرق الأدنى)، ليقول بأن الثورات العربية ليست إسلامية الطابع. فمثلاً أظهر استطلاع للرأي أجري في مصر في فبراير/شباط2011 أن سبعة في المائة فقط من الأشخاص الذين شملهم الاستطلاع يعتقدون أن الانتفاضة الشعبية هي ضد النظام لأنه غير إسلامي، وفقط 12 في المائة يعتبرون أن تطبيق الشريعة أولوية. وبموجب هذا الاستطلاع فإن الإخوان المسلمين لن يحصلوا على أكثر من 15 في المائة من الدعم، وفقط واحد في المائة في انتخابات رئاسية محتملة (ص43). بالطبع كذّبت الأحداث اللاحقة هذا الاستطلاع وغيره مما اعتمدت عليه تحليلات الكاتب التي أرادت إنكار أي نفوذ للإسلاميين في مصر.
كذلك في تونس واليمن وليبيا، حيث وإن كان العنصر الإسلامي جزءًا من النسيج الاجتماعي إلا أن الانتفاضات لم تكن على الإطلاق دينية الطابع بل إن الشعارات الوطنية هي التي حركتها (ص46-47). وهكذا فالمسلمون ليسوا فقط مسلمين، إنهم أيضًا وطنيون وقوميون ويمينيون ويساريون وغير ذلك (ص48).
الشباب في الصف الأول
ليست المرة الأولى التي ينتفض فيها الشبان العرب ضد حكوماتهم؛ فالشباب الفلسطيني يواجه منذ وقت طويل آلة الحرب الإسرائيلية، والشباب الجزائري انتفض على النظام في العام 1988 فسقط منهم المئات. ومن عمان وصنعاء وتونس ومصر وغيرها يعيش الشباب العربي حالة ثورية كان يتم إخمادها بالقمع البوليسي (ص49). والأمر طبيعي كون المجتمعات العربية مجتمعات شابة جدًا وتعصف بها مشاكل البطالة والتهميش والفقر والمستقبل الغامض؛ فالبطالة تبلغ ضعفي المعدل العالمي، ومن الضروري خلق حوالي خمسين مليون فرصة عمل جديدة قبل العام 2020 لامتصاص القوة العاملة التي ستدخل إلى سوق العمل في الدول العربية غير النفطية، وذلك في غياب أية برامج وخطط حكومية جدية (ص52). وقد دخلت المرأة إلى سوق العمل بعد تزايد أعداد خريجي الجامعات حيث أخذ عدد الطالبات، في بعض الدول العربية، يزيد بكثير عن عدد الطلاب الذكور. هذا الجيل من المتعلمين، الذي يشاهد الفضائيات الدولية ويستخدم الإنترنت ويتصل بالعالم الخارجي، يشعر بأن آفاقه مغلقة تمامًا وبأن مستقبله قاتم بسبب “نظام” فاسد يجبره على تقديم الولاء والطاعة ويلاحقه بالمخابرات والعسس ويراقب تحركاته (ص60). وهكذا اجتاح الغضب هذا الشباب الممتلئ بالحيوية ففاضت به ساحات تونس وليبيا كما ساحة التحرير في القاهرة. إنها ثورة شباب عربي عابرة للحدود يشبهها الكاتب بثورة الشباب الفرنسي في العام 1968 مع اختلاف الظروف والشعارات والمطالب (ص63).
الشبكات الاجتماعية ليست من أتى بالربيع
يكرّس الكاتب هذا الفصل من كتابه للرد على من اعتبر الثورات العربية “ثورات فيسبوك” أو إنترنت. وبعد أن يفصّل تطور قطاع المعلوماتية في تونس (على يد الرئيس بن علي تحديدًا)، وفي مصر وليبيا (على يد أولاد الزعيم لأسباب ربحية نفعية، ولمراقبة الناشطين السياسيين ضد النظام)، ونشوء مواقع إلكترونية على يد نشطاء معارضين (مثل موقع كلنا خالد سعيد) يبين مساهمة مواقع تويتر وفيسبوك وبعض مواقع الإنترنت الأخرى في تنظيم الانتفاضات وقيادتها (ص66-71)، لكنه يخلص إلى أنه عدا أن الأنظمة استفادت هي الأخرى من الإنترنت لكشف حركات الثوار والإيقاع بهم، ورغم أن الشبكات الاجتماعية الإلكترونية لعبت دور الشرارة في انتفاضة ميدان التحرير، ونجحت في إحباط العمليات البوليسية التونسية، ولعبت في الحالتين دورًا في تأجيج مشاعر الغضب الجماعية وفي تنظيم الاحتجاجات وفي كشف جرائم وأكاذيب الأنظمة وفي كسر جدار الخوف، لكن بعد أن تحقق ذلك بات دورها ثانويًا في الثورة. وقد ركّزت الصحافة المحلية والعالمية على دور الشبكات العنكبوتية لأنه من الأسهل القيام بتحقيقات صحافية حول أشكال النضال الإلكترونية منها حول العمل الميداني. لذلك لم يكن، في رأي الكاتب، من “ثورة 2. 0” ولكن مجرد أداة جديدة في علبة أدوات الثورة. إنها دينامية من غير رأس مدبر لهذه الانتفاضة الثورية والتي تناساها المحللون الذين انصب اهتمامهم على ما سموه “جيل فيسبوك”، وهذا هو الجديد في هذه الثورة العربية (ص84).
الفوز ممكن من دون قائد
في خمسينيات وستينيات القرن الماضي عاشت الشعوب العربية على إيقاع الانقلابات العسكرية وعلى “البلاغ رقم واحد”، وفي كل مرة قائد جديد قبل أن تستقر الأمور على قائد واحد مُفدّى بقي على رأس البلاد حتى مماته (ص85)، بل إنه تم توريث السلطة في سوريا التي أراد حسني مبارك والقذافي وعلي عبدالله صالح أن يحذوا حذوها بمحاولة توريث السلطة إلى أبنائهم. لقد اعتادت المجتمعات العربية على التعايش مع “القائد” والدعاء له بطول العمر والخلود. لكن هذه المرة أراد الجيل الجديد أن يتخلص من هذا الخنوع الذي اعتاد عليه آباؤه وأجداده؛ لم يعد يريد القائد، لكنه لا يريد أن يقتل هذا القائد بل يريده ببساطة أن يرحل. شعار “الشعب يريد إسقاط النظام ” و”ارحل” كان مشتركًا بين كل الثورات العربية بعد أن انطلق بداية من تونس (ص90-100).
لقد كان من الطبيعي، والحال هذه، أن لا يكون للثورات من قائد، من رأس مدبر، لأنها ثورات عفوية دافعها الغضب والاحتقان. لقد شاركت فيها كل شرائح المجتمع، عشرات الجمعيات المتخصصة بحقوق الإنسان والنقابات والمنظمات الحقوقية، عمال المصانع، المثقفون، الصحافيون، الكتّاب، الموظفون… إلخ، كما الأحزاب السياسية المعارضة، وبكل بساطة الشباب الذي يتقن فنون الاتصال الرقمي والشبكات العنكبوتية. ميزة هذه الثورات التي تميزها عن كل الثورات التي حدثت في التاريخ أنه لم يكن لها من قيادة واحدة موحدة بل كانت جماهيرية واسعة تطالب بالتغيير والحرية والعدالة (ص101-104). لقد تمكنت هذه المظاهرات السلمية في تونس ومصر من إسقاط أنظمة ديكتاتورية متجذرة عصية على السقوط، لكن عندما تعسكرت الانتفاضات كما حصل في ليبيا وسوريا واليمن فإنها تحولت إلى حرب تشبه الحرب الأهلية وفقدت طابعها الجماهيري السلمي. لقد أثبتت تونس ومصر أنه لا حاجة للسلاح ولقادة عسكريين أو مدنيين، وأن العسكرة تخدم الأنظمة التي تحوّل الوضع من ثورة شعبية إلى حرب أهلية. لقد انتصرت الثورة من دون قيادة أو قائد، إنه نموذج فريد وتغيير جذري (ص106).
البديل عن الديمقراطية هو الفوضى
المقاومة التي أبدتها الأنظمة العربية إزاء التغيير، طيلة العقود الطويلة المنصرمة، كانت بفضل قدرتها على تقديم نفسها كبديل عن الفوضى وكضامن للاستقرار. وقد ساعدتها في ذلك نظرة الغرب إلى “الاستبداد الشرقي”، ونظرته المسبقة المعادية للإسلام، وحرصه على الاستقرار الذي يؤمّن له مصالحه ولو كان ذلك في غياب الحد الأدنى من الديمقراطية (ص107-108). وقد حصلت في العالم العربي انقلابات واضطرابات واغتيالات وعمليات إرهابية وتوترات ساهمت في تكريس هذه الفكرة عن الفوضى أو الأصولية الإسلامية كبديل عن هذه الأنظمة (ص110-130). لكن الثورات العربية نجحت في وأد هذه النظرة التي برعت الديكتاتوريات العربية في استغلالها. لقد أثبتت أن البديل عن الديمقراطية هو الفوضى، الفوضى التي حاولت الأنظمة نشرها تخلصًا من الضغوط الشعبية التي واجهتها. عنصران، في رأي الكاتب، كانا أساسيين في احتواء مراهنة الأنظمة على الفوضى كبديل لها: سلمية المظاهرات الشعبية في تونس ومصر رغم تعرضها لقمع النظام العنيف وسقوط المئات من الضحايا في صفوفها، ووطنية قوى الأمن لاسيما الجيش. فعندما اقتربت الأمور من الفوضى التي افتعلها وراهن عليها النظام قرّر الجيش، في الحالتين التونسية والمصرية، الانحياز إلى الشعب. وفي ليبيا فإن انشقاق بعض الوزراء والقادة العسكريين أنقذ الثورة من القتل في مهدها، رغم أن العدد الأكبر من المسؤولين العسكريين بقي إلى جانب القذافي الذي نجح في دفع الأمور إلى حافة الحرب الأهلية (ص132).
لقد أثبت الجيشان: التونسي والمصري أنهما ليس فقط الضمانة ضد الفوضى ولكن أيضًا التجسيد للكرامة الوطنية التي أنقذها الشعب من براثن الديكتاتور. ويبقى أن الميراث الكارثي من عقود طويلة من “الاستقرار” الوهمي سيتطلب وقتًا طويلاً للتخلص منه، وأنه ينبغي إعادة بناء المسرح السياسي من جديد على أنقاضه (ص133).
الإسلاميون أمام حائط مسدود
يعتقد الكاتب أن الثورات الشعبية وضعت الإسلاميين، وتحديدًا الاخوان المسلمين، في موقف حرج وأمام خيارات صعبة؛ فخلال عقود طويلة استفادوا من وضعية كانت، وهذه مفارقة كبيرة، مريحة إلى حد كبير. ذلك أنه بعد انهيار الناصرية ثم الانقسام البعثي بين دمشق وبغداد أضحوا، بفضل تنظيمهم وبرنامجهم وشبكاتهم قطبًا رئيسيًا على الساحة السياسية بل القوة الوحيدة تقريبًا القادرة على تحريك دينامية إقليمية، والتأثير في أجيال من المثقفين والناشطين السياسيين. لقد تمكنوا من إقناع شرائح شعبية واسعة بمصداقية شعارهم “الإسلام هو الحل” لاسيما بعد إفلاس الحلول الاشتراكية والشيوعية والقومية، وهو شعار أضحى بمثابة برنامج سياسي وعنوان فضفاض يفتقر إلى التفاصيل (135-140).
وبعد أن يشرح الكاتب الفروقات بين الإخوان المصريين والتونسيين والسوريين وغيرهم، وبينهم والسلفيين، واختلافهم واتفاقهم مع حزب العدالة والتنمية التركي، وبعد أن يغوص في تفاصيل علاقاتهم مع عبد الناصر ثم السادات وصولاً إلى حسني مبارك وترددهم في المشاركة بتظاهرات ميدان التحرير والاتفاق الضمني مع الجيش (145-150)؛ يصل إلى القناعة بأن انتفاضة الحرية صادرت لهم شعاراتهم وجردتهم من الصدقية بسبب مواقفهم الانتهازية منها. لذلك لم يعودوا في مركز قيادة المعارضة كما كانوا في العقود السابقة، ولم تعد لهم السيطرة على الأجندة ولا على مرجعية التحول إزاء الموجة الديمقراطية العارمة بل إنهم باتوا مضطرين إلى الانخراط في مسار معقد من التفاوض مع مروحة واسعة من الأحزاب والحركات السياسية والمؤسسات والجمعيات. هذه التعددية تجبر الأخوان على القبول بتعدديتهم، والاعتراف بالمنشقين عنهم، والتعاطي مع السلفيين على يمينهم والعلمانيين على يسارهم. حتى شعار “الإسلام هو الحل” الذي كان إطارًا يوحّد كل الإسلاميين بات يغطي مروحة واسعة جدًا من “الشمولية ” القريبة من الديكتاتورية إلى فلسفة التسامح والقبول المتبادل. لقد تغير العالم العربي وأضحى الرجوع إلى الوراء مستحيلاً وعلى الإسلاميين أن يدركوا أنهم لم يعودوا في المعارضة وأنهم في حاجة إلى “ثورة في الثورة” (ص155).
فقط الديكتاتوريات تهتم بالجهاديين
لقد أغلقت الثورات العربية حلقة انفتحت مع تفجيرات سبتمبر/أيلول 2001. إطلاق الحرب العالمية على الإرهاب واحتلال العراق ساهما في تدعيم الخطاب الجهادي حول الحرب الأبدية. المتطرفون من الجهتين، الإسلامية والأميركية، غذّوا الوهم العنفي القاتل حول رؤية جدّ متشائمة وقاتمة للآخر الذي ينبغي إخضاعه وإذلاله وتدميره من أجل صون العدالة والسلام (169-170). لقد قاد سقوط بن علي وحسني مبارك إلى نزع الوهم عن أساطير بن لادن وبدا تنظيم القاعدة لحظة عابرة في تاريخ الإسلام والعرب إذ إن الشعوب العربية هي التي أمسكت زمام مصيرها بيدها وليس تنظيم القاعدة الذي ادعى الامساك بناصية التغيير. هذه الثورات قتلت بن لادن معنويًا قبل أن تقتله القوات الخاصة الأميركية جسديًا في الثاني من مايو/أيار2001 في ضاحية أبوتا باد الباكستانية. لقد فقد الجهاديون رأسهم المفكر والمدبر وبات عليهم أن يكونوا أكثر شفافية وواقعية (173-174).
فلسطين تبقى في القلب
في الفصل التاسع يقدم الكاتب عرضًا مفصلاً للعلاقات العربية-الفلسطينية، والانتفاضات الفلسطينية، والاعتداءات الإسرائيلية حتى الاعتداء الأخير في نهاية العام 2008، ثم ردود الفعل التركية من دافوس 2009 إلى سفينة مرمرة ليخلص إلى أن القضية الفلسطينية لن تنتهي رغم الخلافات المستعصية بين فتح وحماس، ورغم توقف المفاوضات مع الإسرائيليين، ومظاهر عدم الاهتمام العربي بما يحدث في فلسطين. وفي رأي الكاتب فإن الثورات العربية، وإن حملت همومًا اقتصادية واجتماعية وسياسية داخلية خاصة بكل قُطر، إلا أن القضية الفلسطينية تبقى في وجدان هذه الثورات والتي سيؤثر نجاحها بالتأكيد على مسار القضية المركزية. فإذا التقينا بالصدفة بشاب (أو شابة) عربي في حوالي الثلاثين من عمره، يعمل في حقول وادي النيل، أو يبيع الخضار في كازابلانكا، أو يدير أعمالاً ناجحة في دبي، أو يفتش عن عمل في وهران، وقد يكون مؤمنًا أو ملحدًا، متزوجًا أو عازبًا، سعيدًا أو يائسًا… لكن هناك شيئًا واحدًا مؤكدًا بالنسبة إليه (أو إليها) وهو أنه -ومنذ نعومة أظفاره- كانت فلسطين دومًا في قلب دفق مستمر من الأخبار والتعليقات والاهتمامات والالتزامات الأخلاقية والدينية والقومية والسياسية. فلسطين ستبقى في القلب (175-190).
النهضة ليست لعبة دومينو
في الفصل العاشر والأخير من الكتاب لا يوافق جان-بيار فيليو على ما يقوله بعض المحللين عن ظاهرة “العدوى” الثورية بل إنه يعتبر هذه المفردة “قبيحة”، كما يرفض تعبير “تدحرج أحجار الدومينو” من تونس إلى مصر إلى ليبيا… إلخ. فالعالم العربي لا يشبه المعسكر الشرقي الأوروبي الذي طُبّقت فيه لعبة أحجار الدومينو، فليس هناك من سلطة مركزية واحدة (الاتحاد السوفيتي) انهارت بانهيارها البناءات المرتبطة بها واحدًا بعد الآخر. ما يحدث في العالم العربي نهضة ديمقراطية سوف تتعرض لانتكاسات وتراجعات وخيانات بعد أن تنتهي من الإطاحة بالأنظمة القائمة. ولكل بلد عربي دينامياته وظروفه الخاصة به، وسيكون على الجميع مواجهة مشاكل السكن والعمالة والبنى التحتية وإعادة بناء الدولة وغيرها. هنا يكمن التحدي وستتطلب مواجهته عقودًا طويلة من الزمن المقبل، لكن التاريخ يسير قُدمًا في العالم العربي، والنهضة الثانية بدأت للتو (200-215).
يزخر الكتاب بالمعلومات والأرقام والإحصائيات حول الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية العربية التي كانت سببًا في الثورات، ويقدم تحليلاً أكاديميًا بلغة واضحة وأسلوب سلس. ويبدو الكاتب ملمًا بهذه الأوضاع وخلفياتها ومؤيدًا متحمسًا للثورات العربية. لكن بعض استطلاعات الرأي التي يعتمد عليها، لاسيما تلك المتعلقة بشعبية الإسلاميين، بدت مخطئة تمامًا؛ إذ إن الإسلاميين فازوا بالسلطة في مصر وتونس بعد أن توقع لهم التراجع والتخبط. والأمر نفسه ينطبق على الجهاديين الذين توقع لهم الكاتب الانكفاء والتراجع، وهذا ما لم تثبته الأحداث اللاحقة. لقد وقع الكاتب في عدد من الأخطاء والتحليلات الواهية بسبب موقفه المسبق إزاء الحركات الإسلامية لكنه نجح في رسم صورة عامة للمشهد السياسي العربي على خلفية الثورات العربية ما يجعل كتابه مرجعًا لابد منه لمن يود دراسة هذه الثورات.
تبقى ملاحظة أخيرة وهي عدم اعتماد الكاتب لمصطلح واحد فتارة يتكلم عن ثورة وأخرى عن انتفاضة أو نهضة أو تعبير عن غضب. تحديد المصطلحات مهم لكن يبدو أن مثل هذا التحديد تلزمه مسافة تفصلنا عن الحدث الجلل، والكتاب صدر في وسط هذا الحدث، ومن المؤكد أن الكاتب الذي يتابع التطورات العربية سوف يكون أكثر دقة في استخدام التعابير في أعماله المقبلة.
معلومات عن الكتاب
المؤلف: جان-بيار فيليو – Jean-Pierre FILIU
عنوان الكتاب باللغة الأصلية: La Rèvolution Arabe ,Dix leçons sur le soulèvement démocratique
عرض: د. غسان العزي – باحث في الشؤون السياسية وأستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية
الناشر: fayard,Paris
سنة النشر: 2011.
عدد الصفحات: 251.