خلافاتنا مع جبهة النصرة ثانوية؟!
طريف الخياط
في جلجلة المعارك، والموت المعمم، واستنزاف الدماء من أجساد السوريين، لم يألُ طاغية دمشق ونظامه جهدا للاحتفاء بكل ذلك، في مشاهد احتفالية استدعت شيطان الطائفية من قمقمه المنسي، فطغت صور القتل والتمثيل والدمار على ما حققه الأسد في مساعيه تلك، من حيث تهيئة التربة الخصبة لاستقدام وإنبات التنظيمات التكفيرية، وهو ما بات مصدر قلق في سوريا، يتعداها إلى جوارها الجغرافي، المضطرب أصلا في بعضه، والمهدد أن يتداعى في كله.
يبرز في واقع الحال السوري الراهن، التفاعل والجدل والسجال السياسي والمجتمعي المتعلق بجبهة النصرة، التي أنكرت فصائل المعارضة السياسية السورية وجودها بادئ الأمر، ونسبت تفجيراتها الأولى إلى عمليات للنظام بهدف إثارة الفتنة. فأصبحت الجبهة شأنا ملتبسا، سواء من ناحية ما يشاع عن أنها من صنيعة النظام صاحب الباع الطويل في دعم التنظيمات السنية المتطرفة في العراق ولبنان، أو من ناحية أن للمعارضة مصلحة بالتكتم على تزايد نفوذ هكذا تنظيمات على الأراضي السورية، وهو ما يفسر بدوره في منحيين، أولهما تواطؤ من قبل بعض التيارات السياسية، حيث تغض الطرف عن «القاعدة» وأشباهها لتقدم نفسها كبديل إسلاموي معتدل، أو تستخدمها كحليف عسكري لفرض أجندات خاصة، وتيارات أخرى ترى أن سلم الأولويات يقتضي تمرحل العمل بإسقاط النظام أولا، ثم الالتفات إلى ما يعتمل من عفن في الداخل السوري، والذي يتفاقم كنتيجة متوقعة لعنف الأسد ودمويته ووحشيته.
كلا المبررين السابقين يعتريهما الخلل، فهو في الحالة الأولى يكشف انتهازية البعض من المعارضة، وفي الثانية يبين قصر نظر البعض الآخر. وإن كان المتاح في الوقت الراهن لا يتعدى مجرد التشخيص الموضوعي لحال التطرف الطارئ على المجتمع السوري، بما فيه التنظيمات التكفيرية، إلا أن التشخيص مطلوب لاقتراح المضادات الحيوية المناسبة لذلك المرض، وللمساهمة أيضا في بلورة وعي جمعي فاعل، لثوريين واقعيين، لا حالمين في فضاء متوهم.
يعتبر غموض جبهة النصرة من العوامل المساعدة، التي تؤمن للمتعاطفين معها مساحة مريحة لاختلاق حجج تحسن من صورتها وتروج لدعمها، متكئين على قوتها المتعاظمة ومتانة تنظيمها وقدرتها على إلحاق ضربات مؤلمة بالنظام، ومستغلين رغبة قطاع واسع من المدنيين السوريين في التخلص السريع من الطاغية، وحاجتهم إلى ردع ممارساته المتوحشة.
تلك الحقائق لا تنفي طبيعة التنظيم المنغلقة، وتتجاهل تناقض بنيته الفكرية مع المبدأ الرئيسي المحرك للثورة السورية، ألا وهو «الحرية»، فالتنظيمات القريبة من «القاعدة»، كما هو حال جبهة النصرة، إقصائية الطابع للمسلمين حتى السنيين منهم، وكذلك هو الحال بالنسبة لغيرهم، إذ تنطلق من فهم مغلوط للإسلام، تحتكر تفسيره بما يتوافق مع سلوكها العنيف والمتطرف، وتصطدم مع المزاج الشعبي العام المطالب بدولة مدنية. ويتجلى التباين في مواطن كثيرة، تبدأ من الحريات الفردية، حيث إن حرية الرأي والتعبير والاعتقاد غير مباحة خارج إطار المنظومة الفكرية والمعرفية للقاعديين. وبالتوسع إلى النواحي الاجتماعية والحقوقية العامة، نجد في آيديولوجيتها اضطهادا للمرأة، وانتقاصا من حقوقها عامة ومساواتها مع الرجل، وانتهاكات مرتبطة بحقوق الطفل، كدفعه إلى الانخراط في العنف البشع والهمجي. ويتداخل ذلك مع غياب كلي لمفاهيم معاصرة وجوهرية، كالمواطنة المتساوية بالحقوق والواجبات، إذ ينقسم المجتمع – في نظرهم – إلى مؤمنين وكفار، وينحصر الإيمان بالفئة الضيقة التي تتطابق معهم فكريا. أما في إطار الدولة العام ونظام الحكم، فتعتبر الانتخابات والديمقراطية منتجات غربية مرفوضة ومحرمة، بما يلغي مبادئ التعددية السياسية وتناوب السلطة التي تسم الدولة الحديثة، ويقود ذلك إلى أن العملية السياسية والانخراط بها ليست من سلوكيات ذلك النوع من التنظيمات، التي تعتمد فرض إرادتها ومنهجها وفكرها ونظامها بقوة السلاح والعمليات الإرهابية.
من الواضح أن الخلاف مع جبهة النصرة ليس ثانويا، وأن إنكار خطرها الراهن والمستقبلي كما جرى إنكار وجودها سابقا، هو أمر مجانب للصواب، إذ تفيد بعض التقارير بتجاوزها لنسبة 9 في المائة من عديد الفصائل الثورية المسلحة، ويجب التنبه إلى أنها قد تشكل مخلبا، يسهل استثماره لإحداث فوضى في سوريا ما بعد الأسد، بما قد يخدم مصالح طهران أو غيرها في المنطقة، وقد يتسبب نفوذها وممارساتها بإحقاق وتنفيذ مشاريع تقسيمية تهدد وحدة التراب السوري. ولا يعتبر إدراج الولايات المتحدة لجبهة النصرة ضمن القائمة السوداء للتنظيمات الإرهابية مجانبا للحقيقة، المشكل والخلاف – دون التطرق إلى المصالح والدوافع الأميركية – يكمنان في أمرين، التوقيت المبكر قبل أن يثبت الائتلاف تماسكه ويشكل الحكومة الانتقالية، والآثار الرد فعلية المترتبة على ذلك التصنيف، حيث إن العداء الكلاسيكي الذي تكنه شعوب الشرق الأوسط للولايات المتحدة الأميركية، سيسهل للمتطرفين استغلال وتحويل الاتهام الأميركي، إلى وسام شرف يعلق على صدر الجبهة، خصوصا أنه لا يمكن تقنيا من الناحية القانونية الراهنة، إدراج جيش الأسد وميليشيات الشبيحة ضمن نفس التنصيف.
ليس سبقا أن نعتبر «القاعدة» ومثيلاتها وجها آخر للاستبداد، لأنها في واقع الحال وجه أكثر قتامة من الاستبداد الأسدي، فهي لن تكون في السلطة إلا على نحو ما كانت عليه طالبان في أفغانستان. ورغم أن الأمر بعيد المنال في سوريا، فلا ضير من التأكيد على الشبه بين أنظمة الحكم التي يسعى لها التكفيريون، وأنماط من الاستبداد الديني شهدتها أوروبا القروسطية المظلمة، تتناقض مع مطالب المواطن السوري البسيط، الذي يعتبر الحرية خلاصة دستوره الثوري، وعلى ذلك فإنه لن يقبل إطلاقا أن يستبدل بها محاكم التفتيش.
خلاصة القول أن جبهة النصرة ملزمة أمام الشعب السوري بالكشف عن وجهها الغامض.. وأن تعلن صراحة خياراتها لمرحلة ما بعد الأسد.. فهي إما ستتخلى عن سلاحها.. أو أنها ستنخرط في الجيش الوطني السوري المقبل، تحت سلطة حكومة الدولة المدنية التعددية الديمقراطية، وتحترم دستورها وقوانينها وقراراتها وأوامرها.. أو أنها ستصبح عدو الشعب السوري..
* كاتب سوري
الشرق الأوسط