صفحات الرأي

خلافة سادسة أم جمهورية ديموقراطية؟


ماجد الشيخ

تقيم التصورات الدينية على اختلافها ـ ولا فرق هنا في هذا المجال بين دين وآخر ـ عند حدود أو تخوم نفي الحرية في نطاق المجتمعات الإنسانية، فيما تقيم بعض التصورات الدنيوية ـ على اختلافها كذلك ـ في فضاءات إقرارها بالحرية المطلقة للإنسان كفرد، وللتجمعات البشرية في انتظامها كدول، وفي وحدات وتجمعات أكبر أو أصغر.

ليست مشكلتنا نحن أبناء المجتمعات العربية مع المرجعية الدينية كحكم في أمور الفقه لا في أمور السياسة، المشكلة هي في وجود نزوع ونوازع سلطوية لدى قوى الإسلام السياسي؛ انتقائية ومثالية في جوهرها، مما قد يتعارض مع العقل، وبالتأكيد هنالك تعارضات كبرى بين التصورات الدينية للحكم السياسي وبين التصورات الدنيوية الخاصة بالتصورات المجتمعية، وما يتفرع منها من مسائل وقضايا اقتصادية وسياسية وثقافية واجتماعية.

لذلك وعبر العملية الانتخابية يريد إسلامويون كثر نفي الديموقراطية واستبعادها ووقف تداعياتها التي بدأت في تزخيم وجودها مع بدء الثورات والانتفاضات والهبات الشعبية، لا سيما وهم يضعون نقطة في نهاية سطر العملية الانتخابية إيذانا بانتهاء النشاط السياسي في ظل العملية الديموقراطية، وفي هذا مماهاة غير صحيحة وبائسة بين العملية الانتخابية كعملية متممة، وإحدى آليات العملية الديموقراطية كعملية مستقلة ومتواصلة، ولها سلسلة تصوراتها وسيروراتها التي لا تنتهي بانتهاء عملية الاقتراع في صناديق الانتخاب. ولهذا تقتصر رؤيتهم لفوزهم في صناديق الاقتراع على كون السلطة السياسية، وهي تؤول كثمرة يانعة إلى أحضانهم، كونها السلطة المضافة التي تتوج سلطتهم الأساسية التي ابتنوها داخل مجتمعاتهم بالغلبة، وعبر تكريس سلطتهم الذاتية عبر الشريعة والتأويلات التي عادة ما يستخلصونها كجوهر ثابت من ثوابت الهيمنة التي يرومها هؤلاء. بينما يقبع خيار المجتمعات والشعوب التي خضعت طويلا لأنظمة استبداد طغيانية، إلى جانب أنظمة الاستبداد الأبوية الأهلية، في مكان آخر؛ المكان الذي تؤكد من خلاله كل قوى المجتمع المدني على اختلافها، على ضرورة الكفاح والقتال من أجل نفي الاستبداد الطغياني أيا كان مصدره.

ولأن طبيعة التديّن تميل إلى الاستبداد والاخضاع، فلا غرو في أن يميل المتدينون إلى تحبيذ تأبيد وجه الاستبداد السلطوي دينيا كان أو سياسيا، ولئن صودف أن البعض منهم يعادي هذا النظام الاستبدادي أو ذاك، فلغايات سلطوية إحلالية، تريد إحلال الذات محل السلطة المراد الإطاحة بها، وليس لأي سبب آخر، ذلك إن التديّن بطبيعته وطبعه لا يقبل حرية الأفراد أو المجموعات والجماعات والتجمعات من خارج نطاقاته وأسيجته، فكيف له أن يقبل الحرية التي تأتي بها الثورات الشعبية ضد مظالم الاستبدادات السلطوية من داخل النظام وتلك التي تقبع خارجه، أي تلك التي تستمد من التدين البطريركي سلطته السماوية المطلقة؟.

وعلى هذا، فليس هناك على الإطلاق من حلول سحرية لمشكلات الواقع، وهذا ما ينبغي إدراكه من جانب جميع الناس على اختلاف مشاربهم وثقافاتهم، وتنوع وتعدد أفكارهم وسياساتهم التي ينحازون إليها. لهذا تكمن الحلول في خلاصة ما تراه العقول والأفكار من مسارب ومسارات هي الأصلح والأعقل، فالدين كبنية روحية وبيئة إيمانية، تنحاز بعض تياراتها إلى الجوانب الدعوية والإرشادية فقط، ومثل كل الأديان الكبرى والصغرى، لا يمكن لكل البنى الدعوية أو الفقهية، أن تقوم مقام البنى السياسية والاقتصادية أو الاجتماعية والثقافية والفكرية أو الإنمائية المتباينة، في إيجاد معالجات متخصصة في كل هذه المجالات، فهذه الأخيرة تشكل جوهر وصلب الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، حتى في ما يتعلق بالعلاقات الإنسانية داخل وخارج حدود الدول والمجتمعات البشرية؛ حيث الدولة المدنية بأجهزتها ومؤسساتها الراسخة وحدها التي يمكن أن تضطلع بمواجهة كامل تحديات السياسة والاقتصاد والفكر والثقافة من دون أدلجة، تنحّي الدولة عن أدوارها المفترضة، وتُبعدها عن مجالها العمومي المفترض أن تسوسه بعقلية انفتاحية متسامحة.

إن حماية ورعاية وحراسة الأساطير الخاصة، هي مهمة تيارات وفرق نخب وعصابات التعصب العقيدي والعقائدي، كمعادل موضوعي لنسخ استبداد جديد على مستوى السلطة السياسية، كما وعلى مستويات السلطات الأبوية، ذات الطابع الثيوقراطي التي تفرض نفسها «مرجعية يُعتد بها» لقضايا اجتماعية ليست في إطاراتها، ولقضايا سياسية ليست في إطاراتها كذلك، وأيضا لقضايا إقتصادية أو تنموية ليست في إطاراتها بالتأكيد. ولذلك فإن الحل الذي تطرحه مجموع القوى الإسلاموية؛ السلفية والإخوانية وغيرهما من اتجاهات وتوجهات ـ مهما ادعت من ليبرالية مدعاة أو وسطية أو اعتدال مزعوم ـ لا يقدم ترياقا شافيا لإشكالات واقع المجتمعات العربية بكل تفصيلاتها، وهي إشكاليات دنيوية لا دينية.

لهذا كله، فإن المهمة الرئيسة للثورات إنما تصب أو تقيم عند حد ابتناء وقائع تفضي إلى بناء جمهورية ديموقراطية حقيقية، ولسنا أمام احتمالات بناء «خلافة سادسة» على ما ذهب حمادي الجبالي الأمين العام لحزب النهضة التونسي في خطاب له أمام أنصار حزبه في سوسة.

إن بناء جمهورية ديموقراطية يتطلب وجود ديموقراطيين حقيقيين، يواصلون مسيرة وسيرورة ثورة الشباب ونشطاء الواقع الجديد الذي أضحت شعوبنا ومجتمعاتنا تعيش بين ظهرانيه. أما تلك الخلافة المفترضة والمتخيلة، فهي أبعد ما تكون من الواقع، إلاّ إذا كان نشطاء الإسلام السياسي يعدّون لمسار إنقلابي، تتوّجه الحروب الأهلية ومجازر دموية، للاحتفاظ بسلطتهم الجديدة والقديمة على حد سواء، وهي سلطة استبداد صريحة وليست مقنّعة، تعيد تكرار تجارب الاستبداد السياسي، واجترار استبدادات طغيانية ذات طابع ثيوقراطي وأوتوقراطي.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى