خلفيات الموقف التركي من الحدث السوري
فايز سارة *
قد يبدو الموقف التركي الحذر من الأحداث في سورية غير مفهوم في احد جوانبه بسبب العلاقات المميزة التي نسجتها انقرة مع دمشق في السنوات العشر الماضية، والتي كان من تعبيراتها علاقات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية مميزة، تمت صياغتها في سياق تعاون استراتيجي بين البلدين الجارين، وفي قيام علاقات شخصية مميزة بين قادة البلدين، لا سيما بين رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان والرئيس السوري بشار الاسد.
لقد رسمت تركيا علاقاتها السورية بالاستناد الى افق مستقبلي مرتبط باحتياجات تركيا السياسية والامنية والاقتصادية. وفي الجانب السياسي، قامت العلاقات على اعتبار ان سورية تمثل احد محاور السياسة في المنطقة وذات ارتباط في الاهم من قضاياها الاهم ومنها موضوع الصراع العربي – الاسرائيلي والقضية الفلسطينية والوضع في لبنان والعراق وإيران، وجميعها موضوعات مهمة في سياسة انقرة الشرق اوسطية، وقد اعتبرت الاخيرة ان سورية اهم بواباتها الى بلدان المنطقة بحكم موقعها في التماس معها.
وفي الجانب الامني، فإن الاهم في نظرة تركيا الى علاقاتها مع سورية، يقوم على مسألتين، الاولى هي مسألة المياه، حيث ان سورية شريك في أكثر من مصدر مائي تركي، والثانية يمثلها الوضع الديموغرافي القائم على جانبي الحدود، التي يزيد امتدادها عن ثمانمئة كيلومتر، ينتشر على جانبيها الاكراد الذين لهم وضع حساس بالنسبة الى تركيا، ويؤلف الاكراد المنتشرون في جنوب وجنوب شرقي الاناضول كبرى الجماعات العرقية في المنطقة، وقد مثل النشاط المسلح للأكراد في الربع الاخير من القرن أكبر تحدٍ امني وسياسي للدولة التركية، في وقت كانت سورية تقف وراء ذلك النشاط المسلح.
اما في الجانب الاقتصادي، فإن سورية تمثل بالنسبة الى تركيا حيزاً من امتداد سوقها في الجنوب، وهي البوابة الى الاسواق العربية الاخرى عبر طريق برية سهلة وميسرة توصل البضائع والسلع التركية الى اسواق الاردن ولبنان وبلدان الخليج العربية وغيرها، كما انها تمثل ميداناً لتشغيل الاستثمارات والخبرات التركية، الى جانب توفيرها الايدي العاملة الرخيصة فيما لو قرر الاتراك اقامة بعض مشروعاتهم الصناعية والزراعية في الاراضي السورية، وقد شرعوا في بعض ذلك في السنوات الاخيرة.
وسط تلك النظرة التركية الى سورية، جاءت تطورات العقد الماضي من العلاقات التركية – السورية، وكان من الطبيعي وسط هذا السياق توجه الاتراك نحو تعزيز علاقاتهم مع دمشق والقيادة السورية، وكان من الطبيعي سعي الاتراك الى القيام بخطوات هدفت الى تطوير البنية التحتية للعلاقات بين البلدين، وهو امر جاء في سياقه مسعى تركي هدفه إحداث تحولات سياسية – اقتصادية واجتماعية على جانبي الحدود تصيب المناطق الكردية، وهو مشروع قابله السوريون بتحفظ ملحوظ تجاهله الاتراك على الجانب السوري، بينما تابعوه بتصميم في الجانب التركي، بالتزامن مع تطبيقهم سياسة انفتاح عام على مختلف الفعاليات والاوساط السورية، رفعت اسهم تركيا في سورية وأسقطت الحذر السوري التقليدي ازاء بعض سياساتها البينية والاقليمية.
وفي خضم تلك الأنساق الايجابية في العلاقات التركية – السورية، جاءت تطورات الازمة الراهنة في سورية، والتي كانت انطلاقتها مناسبة لأصدقاء دمشق في تركيا لتقديم نصائحهم للقيادة السورية، حيث ركزت على الاستجابة لمطالب المحتجين والمتظاهرين السوريين المطالبين بالحرية والكرامة وتحقيق اصلاحات سياسية واقتصادية، وهي مطالب تستجيب فكرة تطوير البنية التحتية للعلاقات بين البلدين ومن شأنها المساهمة في تحسين العلاقات التركية – السورية، وقد توالت النصائح والمطالب التركية على لسان رئيس الوزراء اردوغان والرئيس عبدالله غل، ووزير الخارجية اوغلو. لكن السوريين رفضوا ذلك بحزم، مما ادى الى توترات بين انقرة ودمشق، زاد منها دخول بعض جماعات المعارضة السورية على خط العمل في تركيا، وبدء نشاطات شعبية وسياسية تركية مناهضة لما تقوم به السلطات السورية من معالجات امنية وعنيفة للأزمة الراهنة.
ولا حاجة الى تأكيد القول ان الموقف التركي من الاحداث في سورية لا يستند فقط الى ما تحقق من تقدم في علاقات البلدين في العقد الماضي، وضرورة الحفاظ عليها وتطويرها، بل انه يستند الى مخاوف الاتراك من خطورة ما يحدث في سورية واحتمالاته في ضوء عجز السلطات السورية عن القيام بإجراءات اصلاحية مما سيؤثر سلباً في تطور علاقات الجانبين. والاخطر من ذلك انه ومع احتمالات تغيير النظام في دمشق، فإن الاتراك لا يمكنهم السكوت الى حين مجيء نظام يأخذ منهم مواقف متحفظة، او ينكفئ عن الطابع الايجابي للعلاقات السورية معهم، والاهم من ذلك، انهم لا يرغبون في رؤية نظام قد يعيد تسخين الموضوع الكردي في جنوب الاناضول وشرقه على نحو ما فعلت دمشق بين بداية الثمانينات من القرن الماضي. لكن الاهم في المخاوف التركية من تأثير استمرار الاحتجاجات في المناطق السورية، هو احتمال انتقالها الى تركيا ليس عبر الاكراد السوريين فقط، بل عبر آخرين من المكونات العرقية والثقافية الكثيرة، التي لها حضور في البلدين الجارين.
ان مخاوف الاتراك من تأثيرات الحدث السوري حقيقية، وتأثيراتها ليست راهنة فقط، بل مستقبلية ايضاً، وهي مرتقبة ومؤكدة، اذا استمرت وتصاعدت تظاهرات السوريين واحتجاجاتهم، اياً تكن نتائج تلك التظاهرات والاحتجاجات.
* كاتب سوري
الحياة