خلفيات حركة الاحتجاج السوري
فايز سارة
الآن ورغم مرور نحو ثلاثة أشهر على بدء حركة الاحتجاج والتظاهر في سوريا، تبدو الحركة كأنها ذاهبة إلى الأبعد. إذ هي لا تستمر فقط، وانما تتصاعد أيضاً رغم ما يواجهها من إجراءات أمنية وسط غياب للمعالجة السياسية، حيث تتواصل جهود السلطة في قمع المتظاهرين بالقتل عبر اطلاق النار، والاعتقال الذي ترافقه عمليات تعذيب بشعة، تضاف إلى المطاردات التي تصيب الذين شاركوا في حركة الاحتجاج والنشطاء السياسيين والحقوقيين، وكله يتم وسط تعبئة اعلامية ودعاوية، تتابعها الأجهزة الاعلامية الرسمية والخاصة ضد المحتجين وضد من تصفهم تلك الأجهزة بـ«المندسين والارهابيين والمسلحين والمشاركين في الامارات السلفية وعملاء الخارج».
وبصورة عامة، فقد استندت حركة الاحتجاج الســوري في استمرارها وتوسعها إلى جملة من الأسباب، تشكل في مجملها خلفيات هذه الحركة، التي يتداخل فيــها السـياسي مع الاقتصادي والاجتــماعي والثــقافي، كما تداخلت في تكوينها حالة الفـساد مترافقة مع تغول الأجهزة الأمنية، وكل منهما تأصلت وجــرى تأكيد حضــورها وتعمــيمها في مختلف مفاصل الحياة الســورية اليوميــة، ولا سيما في الادارة العــامة للدولة وفي مستوياتها المختلــفة، وكلها أمور سجــلت حــضورها وأثرها في أهداف وشعارات، ظهرت في التظاهرات التي جرت في أماكن مختلفة في سوريا.
ان ترديات الأوضاع الاقتصادية مع تراجــع الدولة عن دورهــا المتواضع فــي الرعايــة الاجتماعيــة ولا سيــما في مناطق وسط وشــمال شرق البلاد وجنوبها، بالتزامن مع سوء المواسم الزراعية نتـيجة انحــباس الأمطار لعدة سنوات وسوء الادارة الزراعية، تركت أعــداداً كبيرة من العاطلين عن العمل عرضة للحاجة وللشعور بالغبن حيــث لا عــمل ولا أفق للحياة أمامهم، وبعضهم سعى للبــحث عن حــلول فردية، لكن قلة منهم استطاعت التغلب على ظروفها بالهجرة الداخلــية أو الخارجية، بينما الأغلبية بقيت في قلق كـبير بانتظار حلول ومعالجــات طال انتظارها.
وما زاد من تفاقم الأوضاع المعاشية لأكثرية السـوريين، ان ترديات الأوضاع الاقتصادية ترافقت ليس مع اتساع نطاق الفقر الذي لامس حدود الخمسين في المئة من اجمالي السوريين في السنوات الأخيرة، انما ايضا مع زيادة الضرائب والرسوم التي فرضتها الحكومة على الجمهور وأنشطتهم المختلفة، بل وعلى احتياجاتهم المختلفة من سلع وخدمات، وقد صارت هذه الضرائب والرسوم، تشكل مصدرا رئيسياً من مصادر الموازنة حسب التصريحات الرسمية، الأمر الذي ألقى مزيداً من الأعباء على أغلبية السوريين.
وزادت مؤسسات الدولة تدخلاتها في حياة السـوريين على نحو غير مسبوق في السنوات الأخيرة، ورغم ان بعض هذه التدخلات كان ذا طابع موضوعي، كما في موضوع آبار مياه الري، التي كان يتم حفرها واستثمارها عشوائياً تحت حاضنات الرشوة والفساد من دون نواظم تراعي المصلحة العامة، فإن تدخلات السنوات الأخيرة، لم تكن موضوعية وعادلة، إذ تم استثناء اصحاب الحظوة من إجراءات منع حفر واستثمار الآبار، ومنع حفر واستثمار آبار يعيش على مياهها فلاحون مع أسرهم، مما ألحق أفدح الأضرار بهم.
كما ان تدخل البلديات في عمليات بناء المساكن، ولا سيما في الأرياف، وفي مناطق العشوائيات، تزايد نتيجة صدور قوانين تمنع البناء المخالف، في وقت زادت بصورة جنونية أسعار المساكن المرخصة، والتي صارت بعيدة عن متناول حتى الفئات المتوسطة من السوريين، الأمر الذي دفع إلى توجه كثيرين نحو اقامة أبنية مخالفة من خلال دفع رشى، ارتفعت قيمتها بصورة ملحوظة في الأعوام الأخيرة، ما جعل كثيراً من المخالفين عاجزين عن دفع الرشى. وقد تفجرت في السنوات الأخيرة حوادث كبيرة في عدد من المحافظات السورية بسبب ذلك، كان منها حوادث بلدة الرحيبة في ريف دمشق، وحوادث مدينة القــريتين في محافظة حمص، وفي الحــادثين تمت صدامات واسعة بين الأهالي ورجال الأمن، وجرى اعتقال مئات الأشخاص.
ان تعقيدات الحياة السورية بســبب البيــروقراطية والتــدخلات الأمنية، قادت إلى خلق مسار معقد من الموافقات، والتي تبدأ من الموافقة على تنظيم حفلة عرس، أو البيع على بسطة في أي مكان حتى لو كان على الطريق الصحراوي الذي يربط بين دمشق وتدمر، ويتطــلب الأمــر الحصول على موافقات عدة، إذا كان طلب المواطن أشد تعقــيداً مثل الحصول على وظيفة في الدولة، وهو ما يتطلب موافقات من أجهزة مختلفة، ومثل تلك الموافقات مطلوبة لبيع منــزل او محل تجــاري او قـطعة أرض في المحافظات الموصوفة بـ«الحدودية»، وهذا الأمر شديد الحضور في محافظتي الحسكة ودرعا بشكل خاص من خلال الاستــناد الى نص قانــوني ينظم عملية البيع وانتقال الملكيات العقارية، وهو أمر أثر كثيراً على النشاط العام للسكان وعلى محاولاتهم التصرف بملكياتهم او استثمارها حتى.
وإذا كان من الممكـن ان تتم بعض الموافقات الإدارية والأمنية لبعض الأنشطة بجهود وتكاليف قليلة، فإن معظم الموافقــات الأخـرى كان لها مسار مختلف في تكلفتها المالية وفي وقت الحصول عليها، بســبب الاجراءات البيروقراطية وتعدد المرجعيات، ونتيجة أطماع النافذين والفساد الشائع، وكلها جعلت الحصول على الموافقات والاستثناءات بالغة التكاليف.
والحقيقة فإن الفساد في شيوعه العام، انتقل ليعشش في منطقة هي الأخطر في حياة السوريين وهي مؤسسة القضاء، التي تعاني بصورة تقليدية من أمرين سلبيين، أولهما تقليديتها الإدارية من جهة وتدخل الأجهزة الأمنية والسياسية فيها، مما أفقدها ضرورة استقلالها، وجعلها عرضة لتدخلات من نافذين وفاسدين، أثرت بصورة سلبية على أحكامها ومعالجاتها للقضايا المعروضة أمام القضاء، إضافة إلى ان كثيراً من مفاصلها أصابها الفساد المحمي، وهذا جعل من الصعب على أصحاب الحقوق ان يحصلوا على حقوقهم بصورة عادية، مما أفقد كثيراً من السوريين ثقتهم بالقضاء.
وبصورة عامة، فإن الأنساق السابقة في خلفيات حركة الاحتجاج السوري، انما ترسم ملامح تلك الخلفــيات، أكثر من ان تحــصرها وتعددها، وهي تضعها في سياق السياسة السورية العـاملة، التي يمكن القول، انها من خلال مسارها وتطبيــقاتها، شــكلت الخلفـية التي استندت إليها حركة الاحتجاج في الأهم من أسباب انطلاقها واستمرارها وتوسعها.
([) كاتب وسياسي سوري
السفير