خليل النعيمي: الرواية سيرة ذاتية للوجود
عمّان – محمود منير
يرتحل خليل النعيمي في جغرافيا الأمكنة والأسئلة لا يكلّ ولا يتعب من بحثه وأسفاره؛ يتفرّس الوجوه ويستنطق تعبيراتها، ما بان منها وما خفي، ويطيل التدقيق والتمحيص في كلّ ما يحيط به، لا تفوته شاردة أو واردة، بعين الجوّال والجوّاب وبما امتلكه من عدّة فكرية ومعرفة، يمضي بهما نحو أقصى حالاته التي حين يصلها يمضي هارباً منها إلى حال أخرى في رحلة تحرّر وكشف لا تنتهي.
في كلّ ذلك، لا يجد النعيمي حدوداً أو فواصل بين تاريخه الشخصي وتاريخ المكان وتشكّلهما المستمر، هي لعبة أدمنها منذ أن “تخلّص من رقابة السلطة المركزية” ليقرّر حينها “التخلّص من رقابته الذاتية على ما يبدع”، مؤمناً أنه “يكتب لأنه بحاجة إلى الكتابة، ويصدف أن تلاقي صدى عند الآخرين وفي أغلب الأحيان لا تلاقي ذلك”.
يشير صاحب “الخلعاء” في حديثه لـ”العربي الجديد”، إلى أنه “ليس صحيحاً أن الكتابة يجب أن تكون من دون غاية أو تصوّر أو دروس، كما يقول بعض الروائيين العرب حالياً، لأنها يجب أن تكون مشحونة من كل هذه العناصر، وهي فارغة من دونها”.
وحول الكتابة من أجل تكريم هنا وجائزة هناك، يقول “ونحن ننظر إلى الجوائز التي تنتشر كالفطر السامّ على أرض الثقافة العربية، فإنني أخشى أنها ستؤدي ذات يوم إلى عقم مستديم في البنية الثقافية”.
■ الأنا حين تفيض عن الذات تتحوّل إلى قرين أو ما يمكن أن نقرأه كقرين، هل هذا القرين من أجل قول ما لم تستكمله أو تفصح عنه؟ أو من أجل محاكمة الذات وما عاشتها من حياة ومواقف؟
– الإبداع في حد ذاته هو البحث في المجهول، وحينما أكتب أحاول أن أتعمّق في تاريخي الشخصي وفي الوضع العربي الراهن، وأتصوّر أن ما تريد أنت أن تقوله هو أن التاريخ الشخصي للكائن هو قرين الوضع العربي الراهن، وبالتالي قد تكون مصيباً في أن هذين القطبين التاريخ الشخصي والوضع العام هما المحوران اللذان يدور حولهما الإبداع.
أنا لا أخاطب هذا القرين وإنما أخاطب التاريخ؛ القرين ليس له معنى خارج السياق التاريخي لحياة الكائن ووعيه، إذن حين أقول أنا خليل النعيمي من البوادي والسراح في بداية رواية “القطيعة” أعني أنني أفتتح تاريخي الشخصي في هذه اللحظة، لكن هذا الافتتاح سيجرّ إلى كتابة حوالي 250 صفحة فيها تاريخي أنا متضمّناً تاريخ المجتمع، وفي تاريخ الوضع العام في سورية. لا يمكن أن نبدع بمعزل عن الآخرين ولا يمكن أن نبتكر شيئاً خارج الوضع الذي نعيش فيه، لكن الإبداع والابتكار يتطلّبان نوعاً من المفاتيح التي تفكّ أسرار الوجود الذي نعيشه، وقد نلجأ إلى حيل كثيرة وأساليب كثيرة لكن ما نفعله في النهاية هو المهم.
■ سفرك وترحالك المتعدّد وكتابة نصوصك في أدب الرحلة، هل هو شكل من أشكال التعويض عن بلاد أنت غير قادر على الوصول إليها؟
– المكان كالكائن لا يمكن استبداله، والبحث عن المكان هو البحث العبثي بامتياز، لأن المكان الذي نتركه خلفنا لن نجده أمامنا، لكن هذه المثيولوجيا المكانية يمكن أن تُعوّض أحياناً في العثور على أشكال أخرى، أو بالأحرى على أبعاد أخرى لكن سنظلّ نبحث عن المكان الأول. لماذا؟ ليس لأن المكان الأوّل هو الفردوس، ولكن لأننا كنّا شباباً وتعلّمنا فيه، وكنّا نحبو ومشينا فيه، وكنّا لا نعرف معنى المتعة وأحببنا فيه ومارسنا المتعة، فالمشكلة إذن هي الوصول إلى ما كتبته ذات يوم “كلّ الأماكن هي مدن أهلية والناس كلّهم إخوة”، وأنني لن أعود إلى مكان تركته حياً لأموت فيه. لا أبحث عن المكان الأول وخلافاً لأدونيس فلن يكون قبري في سورية فأنا أدفن حيث أموت. بلدي “وطني” ليس مسقط رأسي، وإنما موطئ قدمي، وبالنسبة إليّ نحن لا ننفر من الأمكنة إنما من الفكر الذي يتحكّم فيها، ونحن لا نهجر المكان بل نبتعد أو نرفض سلطة لم تعد تلائمنا أو نبتعد عن وضع لا يلهمنا، وبهذا المعنى يمكن أن يكون المكان قيداً ولن يكون محفّزاً لأن تغيّر مصيرك، والكائن في نفس المكان لا يمكن أن يغيّر مصيره.
■ دوماً تتحدّث عن الكتابة بوصفها حالة انتقال من مكان إلى آخر، أو بوصفها انتقالاً من الخضوع للسلطة إلى التحرّر والتمرّد، والانتقال من الحياة الراكدة إلى التغيّر الدائم، ماذا تعني لك الكتابة؟
– الكتابة هي حالة تبدّل أو حالة انتقال مستمرة، إذ يضع الكاتب عملياً الكتاب الأوّل نفسه لكن بصيغ متعدّدة وينتقل بالكتاب ذاته من مرحلة إلى أخرى، ونحن نعالج تقريباً نفس الموضوعات في مراحل متقدّمة من الوعي. الكلمات ليست بديهية، فحين نؤطّر مفهوماً من الكلمات مثل مفهوم الحرية يصبح بالنسبة لنا كأنه واقعة، وهي في الحقيقة رغبتنا في أن نكون أحراراً، فالكتابة هي حالة انتقال من عتبة من عتبات الوجود إلى عتبة أخرى. من أجل هذا، أسافر من أجل أن أكتب، فالمكان الذي لا أكتب عنه لا أتذكّره، ويمكن أن أكون أكثر مباشرة بالقول إن عاطفة لا أعبّر عنها بكلماتي لا أعرفها، وإذا لم أستخدم كلمة الحب فإنني أكاد أجزم أنني لا أعرف الحب. أتصوّر أن العقل البشري لديه مخزن واحد نفسه حين يكون المرء جادّاً أو يمزح أو يشكّ أو يؤمن، ونحن مسؤولون عن كلّ كلمة نقولها، كما كتبت في رواية “الخلعاء” أن “من يقبل أي تنازل في اللغة يقبل أي تنازلٍ في الحياة”، حيث اللغة هي المعادل الفعلي للوجود.
■ أين نقطة الالتقاء والافتراق بين أعمالك الروائية وبين سيرتك الذاتية؟ وهل السيرة مجرّد نافذة تطلّ منها لكي تكتب عمّا عشته/ رأيته أو عاشه/ رآه آخرون، وهل كلّ سيرة يمكن أن تكتب رواية؟
– كلّ سيرة ذاتية يمكن أن تتحوّل إلى رواية، والرواية بطبيعة الحال هي سيرة ذاتية للوجود، آمنت به أم لم تؤمن، عشته أم لم تعشه، كلّ ما تفكّر فيه هو حقيقة بالنسبة للكاتب، وكلّ ما يوضع على الورق هو حقيقة أؤمن بها وأفكّر فيها حتى لو كانت تناقض حقيقتي الكونية، والسيرة الذاتية هي المصدر وأحد مرتكزات الفن الروائي، لكنها ليست كلّ شيء، والكتابة يجب أن تتجاوزها لأننا نعرف أننا نعرف أنها اجتماعية فارغة، حتى حينما تكون مستاءة وغاضبة وغير عادية، الكتابة هدفها عجن كل هذه المعطيات الحياتية لإنجاز نص يخالفها ويرتكز عليها في الآن ذاته، فالسيرة الذاتية موجودة لأنها الأساس المادي للفكر ولا يمكن أن نفكر خارجها ونعبر خارج وجودنا اليومي، والكتابة حين خلقناها، كان علينا أن نعطي مبرّراً معقولاً لما نكتبه من شعر أو نرسم أو نبدع، فالإبداع من دون تصوّر شخصي متطوّر للعالم لا معنى له، لأننا حينها نعيد السيرة الذاتية كما هي، وليس صحيحاً أن الكتابة يجب أن تكون من دون غاية أو تصوّر أو دروس، كما يقول بعض الروائيين العرب حالياً، لأنها يجب أن تكون مشحونة بكل هذه العناصر، وهي فارغة من دونها. إذن هي لست مشكلة تعبير إنما مشكلة إنجاز وإبداع.
■ التنقّل بين الشخصي والعام في أعمالك هو وحدة واحدة بمنظور واحد، حيث تَخلُص من خلال تجربتك الشخصية إلى مقولات/ شذرات تضمّنها في رواياتك، أو تترجم هذه المقولات/ الشذرات إلى تجربة شخصية. كيف تلامس هذا المنظور؟
– صحيح ما تقوله. لكن حينما أفعل هذا لا أخطّط له، وبالتالي يمكن أن نستنتج بتأثير سؤالك نفسه أنه يمكن أن يكتب الكاتب بأسلوب لا يعي أبعاده، لكن المهم أن أشير إلى أنني لا أحترم القواعد والحدود حين أكتب، ولا أضع القارئ في ذهني، ومنذ زمن طويل حين تخلّصت من رقابة السلطة المركزية قرّرت فعلاّ أنني حين أكتب عليّ أن أتخلّص من رقابتي الذاتية على ما أكتبه. طبعاً هذه لا يمكن الخلاص منها أحياناً، ولكن بقدر الإمكان يجب أن لا أضع العراقيل أمام نفسي لأي سبب، خاصة أنني لا أعيش من كتابتي، ولا أبحث عن مجد، ولا أكتب بدافع الجوائز، وأكتب لغاية اجتماعية، لأنني بحاجة إلى الكتابة، ويصدف أن تلاقي صدى عند الآخرين وفي أغلب الأحيان لا تلاقي ذلك. المشكلة ليست احتقاراً للقارئ ولا تقليلاً من شأنه، غير أنني لا أتنازل عما أريد أن أكتبه من أجل أن أكون مقروءاً أكثر، مع احترامي للقارئ ولوعيه، لكن لا أضعه مراقباً عليّ حين أكتب، وأتصوّر أن تحرّري المادي بفعل عملي جرّاحاً هو ما يحميني من تسوّل القراءة لأن توزيع مؤلّفاتي لا يعنيني كثيراً. أحب أن أكون مقروءاً جداً، إلّا أن هناك فرقاً بين أن أعمل لكي أكون كذلك، أو أن أكتب كما أحب من دون البحث عن قرّاء محتملين.
■ قلت إنك تنتمي إلى حركة أدب بلا جوائز، ووصلت إلى “جائزة محمود درويش”، ودرويش في معظم تجربته كان خارج الوطن، وتجربتك كذلك؛ تلتقيان على أرضية تخيّل الوطن دون القدرة على الدخول إليه والمكوث فيه.
– كتبت فعلاً من أجل أدب بلا جوائز، وأنا ضدّ بعضها التي تمنح في بلدان معيّنة، وبشكل عام ضدّ الجوائز في العالم العربي، وأوّلها جوائز الدولة التقديرية، لأن هدفها خنق الإبداع وإخضاع الكتّاب وتدريبهم على كتابة محدّدة تقبلها لجان التحكيم المشكّلة من أساتذة جامعة أميّين، وآلية عملها محافظة لا تشجّع التمرّد ولا تحضّ على الإبداع، ولا تساند الأعمال التجريبية الأساسية التي تقوم على الصراع العميق الدائر بين الكائن والوضع الذي يعيش فيه، وكل أدبٍ لا يتناول هذا الصراع يمكن الاستغناء عنه. وأنا أنظر إلى الجوائز التي تنتشر كالفطر السامّ على أرض الثقافة العربية، فإنني أخشى أنها ستؤدي ذات يوم إلى عقم مستديم في البنية الثقافية. في ما يتعلقّ بي، لم أترشّح لأي جائزة ولم أسمح لأي ناشر أن يرشّحني لأيٍ منها، و”جائزة محمود درويش للإبداع” سعيد بها لأنها لا تقوم على التسابق، بل الاختيار من قبل لجنتها ليس بناء على عملٍ واحد بل لشخص مبدع ولتاريخه، ولقد تبرّعت بكامل قيمتها لـ”نادي الأسير الفلسطيني”، وهذا هو الشاذ الذي يؤكّد القاعدة.
العربي الجديد