مراجعات كتب

خمسون عاماً على أطروحة في السوربون: ما كتبه أديب سليمان باغ عن إقليم الجولان السوري

قصي الحسين

بعيد استقلال سوريا في الخمسينات، لم يدر في خلد إبن قرية الجويزة، في محافظة القنيطرة، في إقليم الجولان، المرحوم الدكتور أديب سليمان باغ (1928 1964) أن هذه المنطقة الغنية والاستراتيجية من وطنه سوريا، سينهشها العدو الإسرائيلي من بين يدي نظام البعث السوري، الذي أطاح بالجمهورية العربية المتحدة قبيل وفاته بعام واحد (1963)، ويقضمها ويهضمها طيلة الخمسين عاماً التي توالت منذ ذلك التاريخ حتى اليوم. وهو الذي أوفد إلى السوربون في 11/10/1954 لتحضير شهادة الجغرافية العامة(**) والحصول على شهادة الدكتوراه في الآداب، فتقدم في 15/11/1958 بأطروحته عن إقليم الجولان، الذي كان يهيمن على عقله وقلبه وحياته، ونال درجة دكتوراه دولة، عن عمله الذي وصفه أستاذه المشرف «د. ج. دريش» بأنه يشكل «حلقة جديدة في سلسلة الأعمال الرائعة للجغرافيين السوريين الذين درسوا أقطار بلادهم وأقاليمها مثل معرة النعمان ومنطقة حمص ومنطقة الحميدية وبلاد حلب» (ص 8).

لقد وجد المستشرق الفرنسيّ «ج. دريش» أهمية إقليم الجولان، ووجد أيضاً أن خير من يدرسه إنما هو ابن هذا الإقليم د. أديب باغ. وكان يشعر أن السوريين إنما يعيشون في عالم متغير بشكل متسارع، وأن بإمكان الجغرافي أن يقوم بدورٍ مهم في تحليل هذه التغيرات قبل وقوعها. إذ للجغرافي من الاهتمامات المتنوعة ما يسمح له بأن يضع يده على الشروط المعقدة للحياة، وأن يفسرها ويشرحها كما ينبغي، وأن يكون للعلماء الجغرافيين كلمتهم في توجيه هذا التطور. فالجغرافي ككل عالم آخر، إنما يعمل في خدمة الإنسان والوسط الطبيعي الذي يعيش فيه، من دون أن يتخلى عن الاهتمام بالمستقبل.

حدب الباحث الأكاديمي على النظر إلى الجولان من حيث الإطار الطبيعي له. فأرض الجولان Gaulamitide معروفة منذ أيام الرومان. وهي تقع ما بين سفح جبل حرمون واليرموك من الشمال إلى الجنوب، وما بين بحيرة طبرية ونهر العلان من الغرب إلى الشرق (ص 11). وهو يشكل وحدة جغرافية إقليمية، وأن جغرافيته البشرية تعكس بدورها خصائص مميزة، وجد فيها المستشرق الفرنسيّ «ج. فولرس» أهمية كبرى تربط بين التاريخ والجغرافيا، مما يجعل للتاريخ دوراً مهماً لتفسير وقائع جغرافية. ولهذا نراه يقول: «بالنسبة إلينا نحن الغربيين، يبدو الشرق الأدنى آلة لصعود الزمن، حيث يعيش الناس إلى اليوم في إطار الماضي بصورة عادية. وهذا ما يجعل الجغرافي يحاذي في عمله زميله المؤرخ أو عالم الآثار» (ص 19).

وأما الجولان بوضعه الحالي، فهو عبارة عن هضبة تتعمق فيها الأنهار في أودية عميقة تحد المنطقة من الغرب والجنوب والشرق. وهذه الأنهار هي على التوالي: الأردن واليرموك والرقاد. بالإضافة إلى عدة أودية ثانوية وعمودية على الأودية الرئيسية (ص 56). ويقول إن الجولان يقع تحت التأثير البحري بواسطة الرياح الغربية والشمالية الغربية والجنوبية الغربية، وذلك عبر ممرين: سهل مرجعيون في لبنان وسهل مرج ابن عامر في فلسطين (ص 105) وأن خطوط الأمطار المتساوية تكون متراصة في الجولان وذات قيم عالية (ص 131)، وأن إقليم الجولان معروف بشتائه القارس وبثلوجه الغزيرة (ص 149).

وعن الصفات العامة للأغشية المائية الباطنية في الجولان، فإنه لمما يكشف عن وجود طبقات مائية باطنية. فأعمال السبر (ف. فرولو 1931) في شمال «اللجاة» والخاصرة الشرقية للجولان، ساهمت في تحديد صفات الأغشية البئرية لهذه المناطق. وقد أمكن تحديد السطح المقصاري Piézometrique للمياه الباطنية في حوران، بتسوية أعمال الحفر في هذه المنطقة تحت إشراف ف. فرولو (ص 178). وقد أظهرت التحاليل وجود ينابيع كبريتية وكلورية وصودية وصولاً إلى الضفة الشرقية لبحيرة طبرية (عين كيف والحمة) (ص 193) يقصدها الناس للاستشفاء والمتعة في «قطار النزهات» الذي استحدث بين (دمشق والحمة). أما عن جغرافية الجولان الحيوية، فهو يلعب دوراً هاماً بين قارات العالم القديم الثلاث وبين البحر المتوسط والصحراء. وهذا ما يجعل نباته يحوي العناصر المتسللة والقادمة من ساحل البحر المتوسط البحت، ومن السهب، ومن فلسطين وحتى من إفريقيا الشمالية (ص 212). وأن «باسان» الخصيب الذي تذكره التوراة ليس هو بالواقع سوى الجولان الحالي، الذي لا يزال يحتفظ بأشجار البلوط مستشهداً «بآتيان دونوماس» في حديثه عن لبنان وحوران والجولان حين يقول: إن التوراة تقدم توضيحاً هاماً إذ تجعل من الأرز شجرة مميزة لجبل لبنان والعرعر في جبل حرمون وتخصص البلوط ببلاد باسان الجولان» (ص 226).

وفي جغرافية الجولان البشرية، وهو القسم الثاني من الدراسة (243 440) يتحدث الباحث، رحمه اللّه، عن الجولان في التاريخ، فيقول إنه في زمن العثمانيين كانت الحدود الإدارية لقضاء الجولان أكثر مطابقة بحدوده الطبيعية. وكانت القنيطرة مركز القضاء وتتبعه مديريتان: مديرية الشعرة في الشمال ومركزها مجدل شمس ومديرية الزوية في الجنوب ومركزها «فيق» (ص 245) وفي الجولان كانت المعركة الفاصلة على اليرموك عام 636م، حيث انتصر العرب على البيزنطيين. أما في الغزو الصليبي والاجتياح المغولي للشرق العربي الإسلامي، فقد كانت أرض الجولان، أرض المعركة وجبهة الصراع. وأنه بعد ظهور دولة العدو الإسرائيلي في فلسطين، بدأ الجولان يحصد نتائج الصراع العربي الصهيوني (ص 249).

ويقدم الباحث خلاصة عن تاريخ إقليم الجولان حيث إن «الثروات الطبيعية في أرض»باشان/ الجولان» وطرق المواصلات بين دمشق والعقبة وكثافة السكان، مما يقدم لنا أسباب التنافس بين مصر الفراعنة والأموريين في بلاد الشام، وبين المصريين والحثيين وما بين الفراعنة وملوك أشور. وكان على أهالي الجولان احتمال نتائج النزاع الحربي والسياسي بين الدول. ويقول إنه بعد حروب طويلة بين المصريين والحثيين، توصل الطرفان إلى وضع حد للنزاع، وتم توقيع معاهدة سلام وتحالف شهدت عليها آلهة جبل لبنان وجبل سيريون حرمون (ص 251).

وقد تلقى الجولان لقربه من الأماكن المقدسة ضربات قاسية زمن الحروب الصليبية. وشهدت «الجابية» مؤتمر المبايعة لمروان بن الحكم بالخلافة، وللدعوة السرية لنقل الخلافة إلى آل البيت. وقد كانت السفوح الجنوبية والجنوبية الشرقية من جبل حرمون ملجأ للمسيحيين والدروز والعلويين ( ص 256). ومعظم سكان الجولان من قبائل العرب: غسان والأزد ولخم. وقد توطنوا في الإقليم قبل الإسلام بقرون. أما قبيلة طيء فجاءت إليه بعد الإسلام وكذلك قبيلة الفضل بن العباس فقد نزلت القسم الشمالي الغربي من الجولان وأقامت فيه. وقد عثر المؤرخون على آثار للوجود العربي في الجولان يعود للألف الثاني قبل الميلاد. كما لاحظوا أن التدمريين والأنباط كانوا يسيطرون على أراضي الجولان وحوران. وكذلك فعل العرب الغساسنة، حيث أقاموا كنائسهم على أرضه قبل الرومان. كذلك كان الجولان ملجأ الطائفة الدرزية خصوصاً في القرن الرابع عشر فسكنوا سفوح جبل الشيخ وجبل حوران، إلى جانب المسيحيين والسريان، فعرف حرمون بجبل الدروز. وبذلك شكل الجولان أرض أديان وطوائف، تتعايش فيه الجماعات البشرية بجميع أقلياتها وسط الكتلة الإسلامية التي اندمجت فيها، وشهدت على الاضطهادات والتوترات المذهبية في «الحقب الدولتية» المتعاقبة. ويقول الباحث أن هذه التوترات بين الكتل الدينية كانت طارئة في تاريخ الجولان، ولهذا كان الباحث الفرنسيّ weulersse يطلق على الأقليات المسيحية مسمى مميزاً: «المسلمون اجتماعياً» (ص 286). وقد أوجد النزاع العربي الصهيوني شعوراً قومياً مشتركاً لعب دوراً مؤيداً للتعريب (ص 292).

وفي خواتيم هذه الدراسة الأكاديمية الأصيلة عن إقليم الجولان، نقع على فصول شيقة تتحدث عن عادات وتقاليد أهالي الجولان، وكيف يحفظون الود بينهم، رغم تمسكهم بتقاليد المحافظة على الخصوصيات. وأن خروج الانتداب الفرنسيّ وتحقيق الاستقلال في الجولان وسورية عموماً، لمما أسهم في شدّ عرى الوحدة، وقوّى عناصر التلاحم بين مكونات جميع الطوائف في الجولان، وجعلهم صفاً واحداً في وجه الاحتلال الإسرائيلي، بعد هزيمة البعث في حزيران العام 1967، وقوى الممانعة الفائضة عنه.

أستاذ في الجامعة اللبنانية د. أديب سليمان باغ: الجولان. دراسة في الجغرافية الإقليمية. ترجمه يوسف خوري وآخرون. اتحاد الكتاب العرب بدمشق 485 ص.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى