خنجر في قلب عامودا: بكر صدقي
بكر صدقي
ضربت ميليشيات حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي، وهو الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني في تركيا، وردة الثورة السورية في منطقة الجزيرة. الحصيلة مرعبة، بالقياس إلى حجم البلدة الصغير وغياب أعمال العنف عنها طوال سنتين وربع السنة: ستة قتلى وعشرة جرحى وسبعة وثلاثين معتقلاً لدى مسلحي الحزب الكردستاني الذي بسط سيطرته بقوة السلاح وبالتنسيق مع أجهزة مخابرات نظام الأسد على معظم المناطق ذات الغالبية الكردية.
عامودا الصغيرة (خمسون ألف نسمة) اكتسبت صيتها العطر بمشاركة شبانها في المظاهرات السلمية منذ بداية الثورة السورية في منتصف آذار 2011. وبلافتاتها وشعاراتها المبدعة كانت في تنافس خلاق مع بلدة كفرنبل في محافظة إدلب. يوم الجمعة الماضي في 28 حزيران 2013 كان أول يوم جمعة، منذ بداية الثورة، تغيب فيها المظاهرات عن عامودا الجريحة، بعدما فرض “الشبيحة الكرد” كما يطلق عليهم، حظر التجول على البلدة لقطع الطريق على تحول جنازات شهداء الخميس إلى ثورة شعبية عارمة على سلطة الأمر الواقع لهذه العصابات التي تسمي نفسها “لجان الحماية الشعبية”!
كأننا شاهدنا “هذا الفيلم” المرعب سابقاً؟
نعم، فهم يتشابهون في مسالكهم وأكاذيبهم ووقاحتهم. فبعدما أطلق مسلحو “الكردستاني” السوري النار على مظاهرة سلمية تطالب بإطلاق سراح معتقلين لديهم، لاحقوا الجرحى إلى المستشفيات لينكلوا بهم أو يلقوا القبض عليهم، وهاجموا مكاتب ومقرات عدد من الأحزاب الكردية إضافة إلى إحراقهم مكتب جمعية “روني” النسائية. ولاحقوا بعض النشطاء إلى بيوتهم فاعتقلوهم منها. ثم فرضوا حظر التجول على سكان البلدة تحت تهديد القتل بواسطة القناصين الذين نشروهم فوق أسطح المباني، وفرضوا على ذوي الشهداء دفنهم على عجل بلا مراسم تشييع.
بعد هذه المجزرة المادية، استكملوها بالمجزرة المعنوية عبر وسائل إعلامهم المسمومة. فاتهموا الشهداء بالعمالة لجهات خارجية (هولير واسطنبول) وبأنهم أطلقوا النار على “لجان الحماية الشعبية”، لينتهوا في بيان أصدروه إلى تهديد أهالي البلدة ونشطاءها بمزيد من القمع.
هو نفسه سيناريو القمع الأسدي منذ بداية المظاهرات السلمية في آذار 2011. إطلاق النار على المتظاهرين العزّل، ومنع إسعاف الجرحى واعتقالهم أو الإجهاز عليهم، ومنع دفن الشهداء بما يليق بهم من تكريم، واتهام الضحية بدمها.
ليست المرة الأولى تتصرف فيها ميليشيا الاتحاد الديموقراطي بهذه الطريقة، فقد سبقتها أعمال قمع مماثلة في مدن وبلدات أخرى كعفرين وكوباني، كما اشتبكت أكثر من مرة مع وحدات من الجيش الحر في مناطق التماس. اضطر النظام للانسحاب من المناطق ذات الغالبية الكردية فقام بتسليمها إلى “أيدٍ أمينة” من وجهة نظره. فهذا امتداد سوري لحزب العمال الكردستاني، الحليف السابق لمخابرات النظام وأداته الطيعة في نزاعه مع تركيا. وهو قادر، بما يملكه من سلاح ورجال وبعض الشعبية، على ضبط الوضع ومنع انخراط النشطاء الكرد في فعاليات الثورة الوطنية. بالمقابل استفاد حزب الاتحاد الديموقراطي من فراغ السلطة ومن هشاشة الطبقة السياسية الكردية، فشكل “مؤسسات” سلطة أمر واقع في المناطق الكردية. وإذا كانت احتكاكاته مع بعض كتائب الجيش الحر بدافع حماية “دويلته” المسماة “غرب كردستان” فإن قمعه للأحزاب السياسية الكردية والنشطاء الشباب إنما هو لتوطيد حكمه الدكتاتوري في مناطقه. ليس من قبيل المصادفة اختياره بلدة عامودا، فهي الأبرز في روحها الوطنية ومشاركتها في الثورة السلمية بلا كلل. باستهدافهم لها، أراد شبيحة الكردستاني أن يلقنوا أحرار الكرد في جميع المناطق درساً يرغمهم على الخروج نهائياً من الإطار الوطني والثورة الوطنية.
الواقع أنه يمكننا قراءة حدث عامودا من زاوية أخرى: لقد سقط النظام في قسم كبير من الأراضي السورية، يقدرها بعض المراقبين بنحو سبعين في المئة منها، عجز النظام عن استعادة سيطرته عليها. نشأت في هذه المناطق سلطات أمر واقع من مختلف المجموعات المسلحة، أخذت توطد سلطتها على السكان وتتدخل في تفاصيل حياتهم. فهناك ما يسمى بـ”الهيئات الشرعية” التي تشكلت من تحالف مجموعات مسلحة إسلامية، تتصرف كمجموعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا تربطها أي صلات بأهداف الثورة التي قامت من أجل الحرية والكرامة والدولة الديموقراطية المدنية. وهناك “جبهة النصرة” و”دولة العراق الإسلامية” المرتبطتين بمنظمة القاعدة ذات الفكر العدمي والنهج الإرهابي، لا يعنيها في شيء الوطن السوري، بل تعمل على إقامة “الدولة الإسلامية”. وفي المناطق ذات الغالبية السكانية الكردية، يسعى “الاتحاد الديموقراطي” إلى تطويع السكان بقوة السلاح، ولا شيء يربطه بالوطنية السورية، بل بوصلته في جزيرة إيمرالي في بحر اسطنبول حيث يقبع زعيمه الأسير عبد الله أوجلان.
مقابل هذا التذرر في السلطة في مختلف مناطق سوريا بين مسلحي الأسد والإسلاميين والآبوجيين، ما زالت الثورة المدنية السلمية مستمرة. حلب والرقة تقاومان الإسلاميين، وعامودا تقاوم الآبوجيين، والسوريين في المناطق الأخرى يقاومون شبيحة الأسد. كل يقاوم بما يملك من وسائل “نظامه” القمعي الاستبدادي في منطقته.
موقع 24