خواطر في الثورة السورية -4-
رفيق شامي
الحلقة الرابعة
التكرار يفضح
أقرأ بنهم كل ما يكتب عن الثورة السورية ويفاجئني الكثير مما أقرأه ويحزنني بتكرار محتواه، وحتى لهجته وتعابيره أحيانا. فإذا دل هذا على شيء فإنما أن كتابنا لم بتعلموا حتى اليوم ان الثورة فرصة تاريخية للقضاء على أعدائها داخل أنفسنا. أهم هؤلاء الأعداء هو إحتقار رأي وملكية الآخر الفكرية وإبداعه، وثانيها هو الكسل “في عامية دمشق تنبلة وهو لفظ أجمل من الكسل لأن لفظه يتدحرج على الشفاه بكسل لا يقابله لفظ الكسل الحاد – رحمك الله يا هادي العلوي”. هذان العدوان يظهران لي برأسيهما البشعين كلما قرأت المطولات عن الثورة وعن أعدائها. فمتى ينفض المثقفون قرارة أنفسهم ليحرروها من هذين العدوين اللدودين؟ هناك مثل عامي يقول: “التكرار يعلم الحمار”، وفعلا الحمار أذكي بكثير مما تعتقده غالبية العرب، فهو بذاكرة قوية، وقد راقبته كطفل في عطلة الصيف التي كنا نقضيها في معلولا، قريتنا الآرامية في جبال القلمون، رأيت حمار جدي يتحاشى ليس فقط الحفر، بل بعض بقع الطريق التي كانت فيما مضى حفرة وردمت وأصلحت. يقف حائرا، يدقق نظره بالبقعة ومحيطها ويذهب حذرا وببطء حولها. فهل يفهم مثقفونا أنهم بتكرارهم يهينون أنفسهم وليس كاتبا يسرقوه بتكرار ما كتبه قبلهم. وكيف نتحاشى ذلك؟ بالقراءة النشيطة وإحترام الآخر.
أدونيس
لن أكتب أكثر مما كتبت (خواطر الحلقة الثانية) قبيل نشره لرسالته، لن أكتب رغم مطالبة الكثيرين لي بالكتابة ضد موقفه من الثورة ورسالته الذليلة للأسد والذي ساوى فيها الضحية بالجلاد وأصر على وقوفه إلى جانب النظام.
لقد كتب زملاء اذكياء عن أدونيس ولست حتى ولو أجهدت نفسي قادرا على إيجاد أكثر مما كتبه هؤلاء، والذي نشر بإسهاب في “صفحات سورية” – الملف الاول، الملف الثاني.
وأريد ان أعترف أني قرأت وبكل إهتمام شعر أدونيس وأطروحاته في “الثابت والمتحول” في طبعته الثالثة عام 1982 (دار العودة – بيروت). وظللت أقرأه رغم نقد زملاء يعرفون أدونيس ويقرأون ما يكتبه بدقة أكثر مني… خاصة لإنهماكي في البحث عن دقائق وأحداث رواياتي… أدهشتني قساوة هادي العلوي وصادق جلال العظم تجاه أدونيس، لكني توقفت عن قراءة هذا الشاعر والكاتب منذ مطالعتي لكتاب كاظم جهاد المدمر: “أدونيس منتحلا” عام 1993 ( دار مدبولي – القاهرة).
مقارنة رسالته للأسد برسالة جان بول سارتر الجارحة للرئيس الفرنسي ديغول، عندما منع الأخير إنعقاد “محكمة” برتراند رسل في باريس لنقاش وفضح جرائم أمريكا في فيتنام… وكان ديغول آنذاك بطلا شعبيا بتاريخ حافل بالنضال من أجل حرية فرنسا، تبين لي أن أدونيس حتى في رسالته هذه كان منتحلا…وهو ككل منتحل يحط ما إنتحله ولا يرفعه… ألا تصدقون بعد كل أطنان المطبوعات البعثية التي كانت برمتها ومن أول جذورها الفكرية إنتحالا وسرقة لأيدليوجيات غربية… لذلك أقترح ان يقرأ كتابنا ما نشره كاظم جهاد بدل شتيمة أدونيس مجددا.
مرض المثقفين الأكثر خطرا: الإرتزاق النرجسي
قرأت قبل سنين (2007) مقالا في جريدة “فرانكفورترالغمانية تسايتونغ FAZ” لشاعر الماني يدعى يواخيم سارتوريوس (وهو من إقترح أدونيس لجائزة غوته هذا العام 2011) يتقيأ فيه بشعرية ركيكة عن زيارته لدمشق وقد زار هذا الكاتب سوريا عدة مرات وحل ضيفا على فرع المخابرات الثقافية (التي تدعى خطأ وزارة الثقافة) وعاد دون أن يرى سجينا واحدا سياسيا ولا سرقات ولا سيطرة عشيرة على كل مراكز السلطة… ولما سال نفط الخليج بإتجاه المانيا بكرم مدمر كان سارتوريوس أول المهللين له مع زميلته العراقية التي أنشدت لصدام حسين وأتت لبرلين لتقوم بـ”أم معاركها” الثقافية وتعلن على الملأ بفمها الواسع أنها وبفضل اموال الشيخ مكتوم ستُثَوِر حركة الترجمة و تصدر 1000 كتاب في ثلاث سنوات…لم يصدر سوى عدد من الكتب الهزيلة التي لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة بينها كتاب شعري للشاعر المكتوم… صاحب الدولارات…الذي توقف نتيجة تأزم اوضاعه المادية عن مساندة أم معارك الترجمة…وبهذا قبر البترول منشديه في مقبرة النسيان.
سألت نفسي حتى مللت كيف يمكن لمثقف ألماني ان ينهار إلى هذا الحد؟ هل يغري المال حتى ميسوري الحال كسارتوريوس هذا؟ ام انه ذاك المرض الذي ظل هادي العلوي يجلد ظهور مثقفي بني يعرب ليذكرهم به، لعل الذكرى تنفع المؤمنين وغير المؤمنين؟ إنه إرضاء النرجسية والعنهجية التي تدغدغ أوصال الكتاب ما أن يروا ما نطقوه مكتوبا.
لم اصل لجواب مقنع إلا قبل أسابيع. في مطلع حزيران نشر سياسي الماني يدعى يورغن توتينهوفر صفحة كاملة في المجلة الأسبوعية المحترمة دي تسايت (= DIE ZEITالوقت او الزمن) عن زيارته لدمشق ودرعا. وتوتينهوفر سياسي محافظ وشهير سابق لحزب “الإتحاد المسيحي الألماني CDU” وصديق للديكتاتور بينوشيه وللجيش الأمريكي (عين برتبة عميد فخري) ومدير سابق لأضخم مجموعة دور للنشر الألمانية المحافظة…
وكان هذا السياسي وهو ثري جدا قد ألف كتابا سخيفا عن أفغانستان يظهر فيه مرتديا الزي الأفغاني… وبفضل علاقاته السياسية الثقافية هنا في المانيا فقد تيسر لدار نشره التي يمتلكها صديق له دفع هذا الكتاب الهش إلى مرتبة عالية في قائمة المبيعات، مما زاد في تأزم نرجسيته فذهب إلى ليبيا ومصر ليقدم لنا عبر زيارته تقاريرا سطحية لسائح لا يفهم كلمة عربية… لكن مركزه السابق في السياسة والإقتصاد سمح له ان ينشر ما يريده في أكبر الصحف والمجلات. وفجأة تخصص له مجلة دي تسايت المذكورة أعلاه صفحة كاملة لزيارته لدرعا بعنوان ” كرز درعا” والمقال تفوح رائحة الجيف والرشوة منه. فهو يتغابى بشكل يصعب على القارئ هضمه… يصل السيد إلى دمشق ويقرر زيارة درعا برفقة مصورة المانية ولا يقابل في دمشق إلا مؤيدي الأسد و”يبيع” القارئ الألماني قصة لا أول لها ولا آخر…انه قرر المغامرة والمخاطرة وأنه يريد ان يرى كل شيء بعينيه، فجلب له مدير الفندق مرافق يبدو كمصارع عملاق وسافر إلى درعا وكانت مراكز المراقبة للمخابرات بما فيها حواجزها تلوح له بكل أدب وتربية أن يكمل سفرته الميمونة بإتجاه درعا، ويصل غراب البين هذا إلى درعا دون ان يسأل نفسه لماذا يسمحون لي بالمرور ويمنعون كل صحفي آخر حتى من الإقتراب لدرعا… يصل إلى سوق فيه بائع كرز ويصف للقراء الألمان رخص الكرز في درعا لأن هذا هو شغل الشاغل للشعوب التي تتكلم الألمانية والذي وقع أكثر من 850 من مثقفيها بما فيهم حاملتي جائزة نوبل لللأدب على بيان يدين إجرام النظام الأسدي. ثم يلتقي بقائد المخابرات في درعا ويصف لقاؤه بشكل سينمائي رخيص يذكر بهمفري بوغارت في الخمسينيات: “ركز الرجل نظرته إلى عيني…. وحدقت طويلا في عينيه” ثم ينتهي للنتيجة أن درعا هادئة جدا وأنه ينصح الأسد بالإسراع بالإصلاح ويغادر درعا… وقد مسحت مع مثقفين ألمان الأرض بهذا الكاتب السخيف لأنه عقب صدور المجلة بساعتين أطلقت قوات الأمن والشبيحة التابعة للنظام النيران على المتظاهرين من طائرات الهيلوكوبتر ولم تسألهم إن أكلوا في ذاك النهار كرز من درعا.
هنا أيقنت أن ما اصاب سارتوريوس وتوتينهوفر هو نوع خبيث من الإرتزاق: الإرتزاق النرجسي.
يتبع
خاص – صفحات سورية –
أي نشر أو اعادة نشر لهذا المقال يجب الاشارة فيه إلى المصدر: صفحات سورية
كل الحقوق محفوظ للكاتب ولصفحات سورية.
يحيي كاتب هذه الأسطر أي نسخ وإعادة طباعة هذه الخواطر في أية صحيفة، طبعا بأمانة مهنية مع الإشارة إلى المصدر، لكنه لا يعترف على اية منها إنما على الأصل الذي ينشر دوما في صفحات سورية.