خيارات تركيا الصعبة في الشمال السوري
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
مدعومةً بغطاء جوّي روسي كثيف، وبمشاركة الميليشيات التي تديرها إيران، تمكّنت قوات النظام السوري من إحكام الحصار على القسم الذي تسيطر عليه المعارضة من مدينة حلب. وبعد أن فكّت الحصار عن بلدتي نبل والزهراء، المواليتين للنظام، قطعت هذه القوات الطريق الرابطة بين حلب وإعزاز التي تشكّل شريان الإمداد الرئيس لفصائل المعارضة من جهة تركيا. وبالتزامن مع ذلك، بدأت ما يسمى “قوات سوريا الديمقراطية”، وهي التي تشكّل وحدات حماية الشعب الكردية عمودها الفقري، التقدّمَ من جهة الشرق (عفرين)، فسيطرت على مطار منغ، ثمّ تل رفعت، مواصلةً محاولات التقدّم في اتجاه مدينة إعزاز، وأصبحت على مسافة 20 كيلومتراً من الحدود التركية.
شكّلت هذه التطورات الميدانية تحدّياً كبيراً للإستراتيجية التركية وأهدافها في سورية. ففي حال تمكّن قوات النظام ووحدات من حماية الشعب الكردية التي تنسّق معها تحت قيادة روسية من السيطرة على مثلث مارع – تل رفعت – إعزاز، فهذا لا يعني فقط إخراج تركيا تماماً من شمال سورية في منطقة الريف الحلبي، بل سوف يزيد من فرص توصيل مناطق الإدارات الذاتية الكردية الثلاث في شرق نهر الفرات وغربه (الجزيرة – عين العرب – عفرين)، ومن ثمّ عزْل تركيا عن سورية، مع تنامي احتمال إعلان قيام دولة كردية شمال سورية على طول الحدود مع تركيا. وقد تفاوتت التوقعات حول الردّ التركي على هذه التهديدات والتحديات، وقدرتها على مواجهة الإستراتيجية الروسية، بعد أن أصبحت روسيا تتعامل مع الوضع السوري بوصفها صاحبة القرار فيه.
تطور الموقف التركي من الأزمة السورية
بحكم الجوار الجغرافي (يصل طول الحدود المشتركة بين البلدين إلى نحو 900 كيلومتر)، والمصالح الاقتصادية الكبيرة التي تربط تركيا بسورية، واحتمالات تأثّرها بانهيار الدولة السورية، مع ما يعنيه ذلك من تعزيزٍ للنزعات الانفصالية القومية والعرقية والطائفية، حاولت تركيا، منذ انطلاق الثورة السورية، البحث عن حلول إصلاحية للأزمة السورية، إلا أنّ محاولاتها لم تجد إلا الصدّ من النظام الذي أصرّ على استخدام العنف لقمع الثورة.
“مع إخفاق الجهد الدولي والإقليمي لاحتواء الأزمة التي كانت تتجه نحو مزيد التعقيد، حسمت الحكومة التركية موقفها، وأعلنت مساندتها قوى الثورة، خصوصاً بعد أن تحوّل الحراك الثوري السّلمي إلى العسكرة”
ومع إخفاق الجهد الدولي والإقليمي لاحتواء الأزمة التي كانت تتجه نحو مزيد التعقيد، حسمت الحكومة التركية موقفها، وأعلنت مساندتها قوى الثورة، خصوصاً بعد أن تحوّل الحراك الثوري السّلمي إلى العسكرة. ومع تنامي الأخطار والتهديدات التي أخذت تشكّلها الأزمة السورية بالنسبة إلى تركيا من النواحي الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية (مسألة اللاجئين)، حاولت تركيا أن تؤدّي دوراً أكثر تأثيراً، في تحديد نتيجة الصراع في سورية. لكنّ الحكومة التركية لم تملك أيّ إستراتيجية واضحة للتعامل مع هذه التهديدات، وهو أمرٌ بدأ يتّضح أكثر فأكثر بمرور الوقت، بل إنها كانت تقوم بردّات فعل تأتي، أغلب الأحيان، متأخرةً، وتكاد لا تنفع في تغيير الوقائع على الأرض، كما حصل في معركتي عين العرب وتل أبيض.
ساهمت الخشية من التورّط العسكري من دون غطاء دولي، وطبيعة علاقات تركيا المعقّدة مع دول الجوار (روسيا وإيران)، وتأثّر قراراتها بحاجاتها من الطاقة، إضافةً إلى اهتمام حكومة منتخبة برأيها العامّ، ومواقفه من مسائل التدخل العسكري الخارجي، في تحديد خيارات صانع القرار التركي بالنسبة إلى المسألة السورية، ليقتصر الدور التركي على تصحيح الاختلالات في موازين القوة لمصلحة الثوار، بدلًا من المبادرة والذهاب في اتجاه تكريس وقائع قابلة للاستمرار على الأرض في سياق الصراع السوري.
وعلى امتداد السنوات الماضية، كان أقصى ما سعت إليه الحكومة التركية طلب إنشاء “منطقة آمنة” على الحدود لإيواء اللاجئين، وإيجاد منصّة لقوى المعارضة السورية، وذلك من دون أن تبادر إلى تنفيذ هذه المهمة بنفسها. وقد بقيَ هذا الطلب من دون عنوان، وإن كان واضحاً أنه مُوجّه إلى الولايات المتحدة الأميركية. ومع التدخل العسكري الروسي المباشر، وما تبعه من تغييرات في المواقف الدولية، وخصوصاً الموقف الأميركي، متمثّلة برسم ملامح حلّ الأزمة السورية في فيينا؛ وذلك عبر بوابة “مكافحة الإرهاب”، بات حتى هذا الخيار غير متاحٍ، في ظلّ إمكانية حدوث مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا، ومن دون غطاء من حلف الناتو.
بناءً على ذلك، قرّرت تركيا التعامل مع الواقع كما هو، فأعلنت تأييدها اتفاق فيينا وقرار مجلس الأمن 2254 الذي تضمنه، على الرغم من أنّ هذا الاتفاق لا يُلبّي الحد الأدنى من مطالب المعارضة السورية؛ ذلك أنه لا يشترط رحيل الأسد، حتى بعد انقضاء الفترة الانتقالية التي ينصّ عليها. لكنّ أنقرة واصلت، من جهةٍ أخرى، تقديم الدعم للمعارضة السورية، وإنْ بمستويات أقلّ ممّا كانت عليه سابقًا؛ وذلك بسبب عدم وجود ضماناتٍ واضحة في ما يتعلّق بإمكانية التوصل إلى حلّ ضمن الإطار السياسي المُعلن. وبالتدريج، تراجعت الأجندات التركية في سورية، ليبقى موضوعها الرئيس الذي يدفعها إلى التحرك هو الملفّ الكردي.
تحدّي حلب
مثّلت المعارك الأخيرة في الشمال السوري تحدّياً لمجمل القراءة التركية للمسألة السورية، في ضوء التقدم الذي حققته قوات النظام والمليشيات المدعومة إيرانيّاً بغطاء جوّي روسي في حلب من جهة، وقيام وحدات حماية الشعب الكردية، الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديموقراطي (الذي تعُدّه تركيا جماعةً إرهابيةً)، بالتوغل داخل حدود المنطقة التي تطالب أنقرة بأن تكون آمنةً، من جهة أخرى. فقد هدّدت التطورات الأخيرة بإنشاء منطقة عازلة معاكسة يشغلها الأكراد، ويتمّ بموجبها عزل تركيا تماماً عن الشمال السوري.
وظهرت في داخل حزب العدالة والتنمية الحاكم قراءتان بشأن كيفية التعامل مع ما يجري على الجانب الآخر من الحدود مع سورية. فالقراءة الأولى ترى ضرورة التحرك بسرعة إلى إقامة منطقة عازلة في الشمال السوري، بغضّ النظر عن المخاطر المترتّبة على هذا القرار، ومن ثمّ يجري إبقاء قوات النظام السوري والمليشيات المتحالفة معها، بعيدة عن الحدود التركية، وهو ما يُتيح للمعارضة المسلّحة هامش حركةٍ في منطقة آمنةٍ من ناحية، ويمنع قوات حماية الشعب الكردية من وصول كانتونات الإدارة الذاتية الثلاث جغرافيًا من ناحية أخرى. أمّا القراءة الثانية، فقد طالبت بالحذر من الانجرار إلى “المستنقع” السوري، أو المخاطرة بمواجهة عسكرية مع روسيا، وباستمرار العمل في إطار المظلة التي يَفِي بها “الناتو” والمراهنة على العمل الدبلوماسي، في إطار تفاهمات فيينا.
بين هاتين القراءتين، حاولت تركيا التأثير في الوضع الميداني قرب حدودها. ولكن، من دون الحاجة إلى تحمّل مخاطر التدخل بريّاً. من أجل ذلك، بعد أن تمكّنت قوات سوريا الديمقراطية من التقدّم والسيطرة على قرية عين دقنة، الواقعة شمال بلدة تل رفعت، وقطع الطريق الإستراتيجية المارّة منها في اتجاه إعزاز شمالًا وحلب جنوباً، بدأ الجيش التركي مساء يوم 13 فبراير/ شباط 2016 قصفاً مدفعيّاً مركّزاً طال مساحةً واسعةً من النقاط التي سيطرت عليها قوات سوريا الديمقراطية، بما فيها مطار منغ ومنطقة دير جمال في ريف حلب الشمالي. وصرّح رئيس الوزراء التركي، أحمد داود أوغلو، في أثناء إعلانه بدْء عمليات القصف، أنّ القوات التركية قصفت المناطق القريبة من إعزاز السورية، ردًّا على النيران التي استهدفت الأراضي التركية، ووفقاً لقواعد الاشتباك، عادًّا أنّ التطورات في سورية تُهدّد أمْن تركيا القومي. ودعا وحدات حماية الشعب الكردية إلى الابتعاد فوراً عن إعزاز والمناطق المحيطة بها.
“المحددات الأساسية للسياسة التركية في التعامل مع القضية السورية لم تتغيّر، وهي مرتبطة بعوامل محلّية وإقليمية ودولية معقّدة ومتشابكة”
المواقف الدولية واحتمال تطور ردّات الفعل التركية
استدعت ردّات الفعل التركية على التطورات في الشمال السوري مواقف دوليةً، جاء أكثرها متحفّظًا. فقد دعَت واشنطن، في بيان صادر عن وزارة الخارجية الأميركية، في 13 فبراير/ شباط 2016، أنقرة إلى وقف القصف؛ إذ اشتمل البيان على القول: “لقد دعونا الأكراد السوريين وقوات أخرى تابعةً لحزب الاتحاد الديموقراطي الكردي إلى عدم استغلال الفوضى السائدة للسيطرة على مزيد من الأراضي (…) لقد رأينا أيضاً تقارير بشأن قصف مدفعي من الجانب التركي للحدود، ودعونا تركيا إلى وقف هذا القصف”.
أمّا وزارة الخارجية الفرنسية، فقد دعت تركيا، في بيانها الصادر في 14 شباط/ فبراير 2016، إلى وقف قصف المناطق الكردية في سورية. وقال البيان “تشعر فرنسا بالقلق بشأن الوضع المتدهور في منطقة حلب وشمال سورية. ندعو لوقف كلّ أنواع القصف، سواء من النظام وحلفائه لكامل الأراضي السورية، أو من تركيا إلى المناطق الكردية (…) إنّ الأولوية اليوم ينبغي أن تكون لمحاربة تنظيم داعش، وتطبيق الاتفاقات التي تمّ التوصل إليها في ميونيخ، لوقف “العمليات العدائية” في سورية.
عكس البيانان الصادران عن الخارجيتين الأميركية والفرنسية مدى التغيّر الذي طرأ على الأجندة الدولية والرؤية للصراع في سورية، ومنها يبدو واضحاً أنه على الرغم من إعلان تأييدها حقّ تركيا في الدفاع عن نفسها في مناسبات مختلفة، فإنّ إدارة الرئيس باراك أوباما لا تُبدي أيّ حماسة لتصعيدٍ تركيٍّ على الحدود مع سورية، مخافة أن يؤدّي ذلك إلى مواجهةٍ مع موسكو، أو تعطيل الجهد الذي يتعلّق بالحرب على داعش، والذي تُعدّ “قوات سوريا الديموقراطية” المدعومة أميركيّاً جزءًا أساسيًّا منه. وبناءً على ذلك، لا يُتوقع أن تدعم واشنطن أيّ تدخل برّي تركي لإقامة منطقة آمنة في الشمال السوري، وستذهب واشنطن، على الأرجح، إلى تحذير تركيا من أنّ حلف الأطلسي ليس ملتزماً الدفاع عنها، إنْ بادرت هي إلى صدامٍ عسكريٍّ في سورية.
وانطلاقاً من القيود الداخلية والإقليمية والدولية المفروضة على أيّ تحّرك تركي في المسألة السورية، وفي ضوء إصرارها على منْع روسيا وحلفائها (من قوات حماية الشعب الكردية) من تحقيق غاياتهم في عزْل تركيا عن التأثير في مجريات الصراع السوري، تتّجه أنقرة نحو جملة خيارات متوازية ومفتوحة، تعمل من خلالها على تحسين شروطها في الملف السوري مراعيةً، في الوقت نفسه، جملة التفاهمات القائمة بين موسكو وواشنطن، وستكون الخطوات الممكنة التالية مجالاً مهمّاً لتحسين تلك الشروط، وهي:
- استمرار قصف المواقع التي سيطرت عليها قوات سوريا الديمقراطية، ومنْع تقدمها شمالاً في اتجاه إعزاز، ريثما يتمّ التوصل إلى جملة تفاهماتٍ تُثبت مجالات السيطرة على الأرض. وفي الأثناء، ستحاول أنقرة جاهدةً عدم الانجرار إلى مواجهة مع القوات الروسية الموجودة في سورية.
- زيادة مستوى التنسيق التركي/ السعودي، والاستمرار في العمل على حشْد المواقف الدولية المساندة لفكرة تدخلٍ برّي محدود في شمال سورية، في إطار عمليات التحالف الدولي لمواجهة الإرهاب، وبهدف إنشاء ملاذاتٍ آمنةٍ، تخفّف حدّة موجات اللجوء السوري والمخاطر الأمنية التي تهدّد من خلاله تركيا وأوروبا. وقد أمكن الحصول على تأييد ألماني مهمّ بهذا الخصوص، ومن المرجّح ازدياد مستوى التأييد لهذا الخيار أوروبيّاً، في حالِ إخفاق الجهد الدبلوماسي الراهن لحلّ الأزمة السورية. كما يُرجّح أن تزداد الضغوط على إدارة أوباما، للمضيّ في هذه السبيل، في حال تبيّن أنّ روسيا تخادع بشأن الحلّ السياسي في سورية.
- رفع مستويات الدعم الذي تتلقاه المعارضة السورية في الشمال، وتطوير نوعيته سياسيًّا وعسكريًّا، على نحوٍ يجعلها تضمن إعادة التوازن العسكري، وقادرةً على استرداد المناطق التي خسرتها، أخيراً، إضافةً إلى زيادة مستوى الدعم الذي تتلقاه الهيئة العليا للتفاوض.
على أنّ ذلك كله لا يغيّر من حقيقة أنّ خيارات تركيا تزداد صعوبةً بمرور الوقت، وما تدخّلها العسكري المحدود في مواجهة اقتراب وحدات حماية الشعب الكردية من حدودها إلّا تأكيدٌ على هذه الحقيقة. فالمحددات الأساسية للسياسة التركية في التعامل مع القضية السورية لم تتغيّر، وهي مرتبطة بعوامل محلّية وإقليمية ودولية معقّدة ومتشابكة، وما يزيد من ضيق مساحة الخيارات أمام تركيا هو عدم وجود إستراتيجية واضحة لديها، في التعامل مع التطورات الميدانية الأخيرة التي شهدها الشمال السوري.
العربي الجديد