خيبة المصطلحات/ سلام الكواكبي
عاصر سكان المنطقة العربية، من العرب والأكراد والأمازيغ، وغيرها من المكونات المتنوعة، من الأحياء ومن الأموات، عقوداً بل قروناً من الخيبات المتعاقبة والمتراكمة والمتداخلة.
أبدعت أقلامهم ونصوصهم في توصيفها جزئياً بالاستناد إلى انتماء أيديولوجي غالباً، أو إثني أحياناً، أو طائفي أو مناطقي أو قبلي… إلى آخره من مكوّنات الوعي والتعبير السائدة. ومنذ صدّق جزءٌ كبيرٌ منهم، ليس دينياً فقط، بأنهم “خيرُ أمةٍ”، على اختلافاتهم، فلقد برعوا في اختراع واستنباط وتطويع المصطلحات المناسبة لكل زمان ولكل مكان. وبعيداً عن المعاني الابيستمولوجية للمصطلحات التي استخدمت، اجترحت العقول والأفئدة والأيادي معاني مختلفة، ومتنوعة باختلاف مستخدميها وتنوعهم، واصلين بها، في أحيان كثيرة، إلى التناقض السافر والتعارض المتفجّر.
ومن أبرز هذه المصطلحات، القومية، الحرية،الاشتركية، الليبرالية، الإسلامية، العلمانية، المقاومة، التحرير، التحرّر، الاتحاد، الوحدة، الإمبريالية…. إلخ. وبالتأكيد، لم تتمكن نافذة هذا النص من فسح المجال لسرد إلا هذا الجزء اليسير جداً منها. ويكفي أن يُراجع أحدنا ذاكرته القريبة المستندة إلى ما قرأه من صحف، أو ما سمعه من إذاعات، أو ما شاهده من تلفزة، ليُشكّل لنفسه، وبنفسه، قاموس مصطلحات وافياً للجرد، وشافياً لمختلف الاستعمالات والعوارض.
إذاً، تعددت السكاكين، المحلية أو المستوردة، لذبح المعنى، أو تنوّعت الأيادي لحرق المغزى، أو تشابكت السواعد لعكس المفهوم، أو تفتّقت الأذهان لتطويع المآل. وابتعدنا جميعاً، وعند استعراض أحد هذه المصطلحات، عن أن نقف، ولو جزءاً من الثانية، أمام معناه العلمي، أو حتى العملي، في أطرٍ محايدة بالمعنى المنهجي. وتلقفنا ما تلقنّاه من معانٍ واردة في صحيح إعلامنا الرسمي، أو في سرديات مستبدينا السياسيين، كما المتعممين.
فانتهكت الحريات باسم الحرية التي زيّنت شعارات أقوى الأحزاب، الانقلابية في دستورها، والاستبدادية في ممارستها، كحزب البعث. واستعبدت الناس باسم الاشتراكية المشوّهة، أو رأسمالية الزمرة المستبدة، والتي أفقرت الاقتصاد، وأممت المجال العام والعمل المدني. كما سُلّمت الأوطان، بحجة المقاومة، وذريعة اختيار المكان الملائم والزمان المناسب لردّ العدوان ومواجهة الغاصب. وتشرذمت الشعوب باسم الوحدة التي فُرضت، بناءً على معايير فاهية وممارسات جانية، ما زاد من تقسيم الدول وتباعد البشر. واغتصبت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية باسم الليبرالية الفوضوية التي قاد إطلاقها أبناء السلطة وزبائنهم، تهريباً وتشبيحا، وتأميماً وخصخصة. وانتشرت الظلامية والتخلف في الاطر الثقافية والاجتماعية والتعليمية، من خلال تلاعب المستبد مع تواطؤ المتعمم مع سلبية المتلقي، باسم الإسلامية. وطوُّعَت الأديان وممثلوها الرسميون أو التقليديون، كما تم حشد الطوائف بعضها ضد بعض باسم العلمانية. واستعبد الناس، في المجال العام والحكومي والأمني والعسكري، باسم معركة التحرّر، وأجهضت المشاريع التنموية وانتهكت حرية التعبير والإبداع باسم معركة التحرير…. إلخ.
يعتبر ما سبق جانباً ضيقاً مما “أنجزته” السلطات المستبدة القائمة على البلاد والعباد، منذ فجر الدولة الوطنية، مع استثناءاتٍ قليلة، تكاد لا تذكر.
وكمثال حاد ومتجذّر، أصبحت القومية، عربيةً كانت أم كردية أم أمازيغية أو غيرها، مطيّة لحركات سياسية، تلاعبت هي مع الأيديولوجيا طويلاً، حتى وصلت إلى استخدامها وسيلة هيمنة أو أداة مُقايضة ومزاودة. فما أكثر ما اقترفت من الموبقات الإنسانية والأخلاقية في المجال العام باسم هذا المصطلح. وكم شُرِّدت مجموعات متنوعة، بحجج استخرجت قيحها النتن من تطويع وتوظيف مسألة الدفاع عن “المبادئ القومية”. وكم تقوقعت مجموعات في المقابل، ونادت بالانفصال عن المكون الأوسع، المتنوع بدوره، نتيجة وقوعها ضحية ما سبق.
ومع بزوغ الربيع العربي، وليس “ما يسمى بالربيع العربي”، وهو يعني جميع سكان هذه المنطقة الجغرافية من عرب وغير عرب، توضّحت أكثر فأكثر المناورات والاستعمالات المغلوطة أو المنحرفة لمصطلحات كثيرة، فكما أصبح مصطلح “الحرية” لدى بعض الأنظمة رديفاً للإرهاب، أصبحت مسألة “الإسلامية” لبعض الجماعات الإرهابية ستاراً لمطامح دنيوية ومادية. وكذا بدا أن من باع واشترى في “قيمٍ” شتّى طوال عقود، قد كشّر عن أنيابه العنفية، أو المادية، أو تلك المتلظية بالأديان، لكي يسرح ويمرح كما شاء في مجتمعاتٍ تم تصحير معرفتها باستبداد المستبد، على أنواعه وأشكاله ونسبه. كما برز انسحاب الجزء الأكبر من النخب الثقافية من ساحة التعبير، خوفاً، قمعاً، استقطاباً أو إفساداً. إضافة إلى أن بعض هذه النخب نأى بنفسه عن فهم محيطه الواقعي، وليس الكُتبي والتنظيري، فصارت الفجوة واسعة بين فهمه المثالوي وحقيقة ما يُحيط به من مجتمع، بتعقيداته وبتبسيطاته كافة.
نال كل هذا المخاض بالمصطلحات مقتلاً، ودعا جموعاً واسعة من الناس إلى التأفف منها في أحسن الأحوال، أو لفظها وشتمها وتعنيف من يوردها في مجمل الأحوال. لم يعبث المستبدون، بأنواعهم، فقط في حيوات الشعوب، بل كانوا قادرين أيضاً على العبث بمصطلحاتٍ، حملت معرفياً ولغوياً معاني سامية.
استاذ جامعي في باريس
النهار