صفحات الحوار

خيري الذهبي يفكك فخّ الاستبداد

راشد عيسى

 “لو ارتدّ بي العمر”.. ما أكثر ما نقول هذه العبارة بعد اندلاع الثورة في سوريا. كأن الثورة ليست فرصة للمستقبل وحسب، بل نظرة إلى حياتنا، وكيف كان عليها أن تمضي من غير النظام المستبد. “لو ارتدّ بي العمر لقلت كل ما كنت أشتهي كتابته”، يقول الروائي السوري خيري الذهبي (مواليد 1946)، الذي خاض من قبل معارك غير متكافئة مع استبداد “اتحاد الكتاب العرب”، ثم كان من أبرز مناصري الثورة في بلده.

 تبدو العبارة وكأنها مفتاح أو سؤال لكل سوري، ويمكن أن تشكّل موضوعة لأطروحات تتأمّل في ماضيهم. لكن بالنسبة لكاتب من وزن خيري الذهبي لن تعني له العبارة سوى إعادة النظر بالكتابة. “لو ارتدّ بي العمر، وعدتُ إلى ما ابتدأت به، لكنت قلت كل ما أشتهي كتابته فنكرته مرة باسم بيروت، وأعني دمشق في رواية “ليال عربية”، وكتبت عن الفترة التيمورية وأعني البعثية في رواية “فخ الأسماء”.. كنت أتمنى لو لم أضِع الكثير من الوقت في البحث عن حلول لا تودي بي إلى المعتقل، الذي كنت أعرف أن علي عقلة عرسان (الرئيس السابق لاتحاد الكتاب العرب) ما كان ينتظر إلا انزلاقة “لينقرني” تقريراً يودي بي. هل تستطيع تخيّل الجحيم الذي عشنا به!”.

لا يتردّد الروائي السوري في الإشارة لاسم علي عقلة عرسان، رغم أن اسمه غائب عن التداول منذ سنوات، غير أنه يعرف، كما يعرف السوريون أنه كان طاغية الثقافة، الطاغية الموازي لطغاة السياسة الذي ترك أثراً لا ينسى في المشهد السوري. يقول الذهبي “هل يمكن له تخيل الجحيم الذي عاشه صغار الكتّاب ممن عاشوا مع موجة البعث التي رفضت وقتلت أدبياً كل من لم يكن بعثياً، أو لنقلها بصراحة لم يكن من أصحاب البلد الوارثين لها بحق الانقلاب. هل يمكن لغير السوري الذي عاش تلك التفرقة المرعبة، وسأذكر مثالاً صغيراً حين حمل كاتب مقالاً إلى جريدة “الثورة” السورية يعرض فيها لروايتي “حسيبة”، فإذا بالمسؤولة الثقافية، والتي لا يعرفها إلا من جاء بها لتصبح مسؤولة ثقافية، وكانوا يطلقون على من يعيّنونهم في هذه المناصب لتدريبهم التعبير العسكري “الزج”، فما إن قرأت هذه السيدة التي ستصبح عضو مكتب تنفيذي في اتحاد الصحافيين، فهي من المبشّرات بالجنة السورية الموروثة، ما إن قرأت اسم الرواية واسم الكاتب حتى صرخت بالكاتب الذي سيصبح سفيراً في ما بعد: “فهمنا.. ما عاد فيه بسوريا غير “حسيبة” وغير خيري الذهبي! أما علي عرسان فحين راجعتُه في منع نشر روايتي “هشام أو الدوران في المكان” انتفض من مجلسه صارخاً، وكانت الرواية قد نشرت مسلسلة في جريدة سورية “فهمنا ما فيه غيرك روائي في سوريا”. وكان هذا الصدام المتعمّد أمام عدد من الكتاب والضيوف، وكانوا في الآن نفسه ينشرون ويروّجون للعاملين في المخابرات أو في الحزب كتباً ستتراكم في المستودعات حتى ليترك عرسان حين يصرف من الاتحاد بعد ثلاثين سنة، سيترك أوراقاً مطبوعة تحت اسم كتب بمبلغ اثنين وثلاثين مليون ليرة سورية.. لن يعرف امرؤ بالكارثة السورية إلا من عاش تلك المرحلة وتحت الظروف نفسها” .

أما اليوم فقد بات الروائي الدمشقي يسمي الأمور بأسمائها “بعد سني التقية التي دفعنا إليها نظام المخابرات والبعث والكتابة الملتوية والمتلوية أجدني أقول ما يدور في ذهني. ربما لن تؤثر كثيراً في الآخرين، ولكن الأهم أن مواجهتي لنفسي قد جعلتني أكتشف خيري الذهبي مقشراً عن الرعب السوري والتهديد الأبديّ بالانتقال من السجن الكبير سوريا إلى السجن الصغير في صيدنايا أو تدمر أو.. أوف ما أكثر ما أغرقونا بالسجون”.

 الكتابة الجديدة

 لكن ماذا عن أسئلة الكتابة الراهنة، ما عسى المرء يكتب والحدث لمّا ينقض، وهل بإمكان الكاتب أن يروي ما يجري من دون أن يكون على مسافة كافية للتأمل، يقول الذهبي: “الثورة عمل انقلابي، لا يمكن للكاتب مهما بلغت موهبته استيعابها للكتابة عنها أثناء جريان نهرها الحافل بالخضرة وأوحال التاريخ المتقلبة وخاصة أنها لم تنجز بعد، كما لا يمكن التنبؤ بمآلاتها، وغبي من يخاطر بالادعاء بالكتابة عنها مسقطاً عليها أحلامه، فإذا بالتاريخ العابث يكذبه ويمضي بها إلى غايات غير ما قدّر وأراد وحلم، ولنتخذ من كاتب كان محظوظا فعاش التجربة الروسية منذ ما قبل الثورة البلشفية وحتى انتصار الجيش الأحمر، أعني شولوخوف الذي كان شديد الحظ أن لم يعش ليرى إلى أين وصلت التجربة الحلم على يد ستالين وبريا، ويمكن لك ببساطة أن تقارن بين النصف الأول من روايته ” ثم ينساب الدون في هدوء “حيث رأينا شولوخوف الكاتب الغنائي الجميل يقدم لنا القوزاق في حياتهم العشقية ومغامراتهم الباستورالية، في بساطة عيشهم وخياناتهم الصغيرة، فتحسّ أنك تشتهي العيش معهم ومشاركتهم تلك البساطة الريفية في نصّ كان الجمال الصافي،.. وتقوم الثورة التي حلم بها كل من تمنّى اليوم الأكرم والعدالة لشعب لم يعرف العدالة. وفجأة وشولوخوف يحسّ بأن عليه أن يسهم في الثورة على الماضي فيكتب نصه النضالي يصف الثورة وعدالتها ووجوب انتصارها على القيصرية التي فسدت وآن أوان اختفائها من التاريخ، ثم ينغمس في مجريات اليومي والحياتي، فإذا بالنصّ ينكسر فهو من عاش تناقضات الحرب وشهد انحطاط الإنسان ودمويته في الحرب، ولا يستطيع أن يكتب إلا عن النبيل، فينكسر النصّ، ويتحول إلى روايتين، الرعوية خارقة الجمال، والثورية التنموية التي يسري الجفاف والافتعال إليها، الأمر الذي سنقرأه للخمسين سنة القادمة في الأدب النضالي الذي سينتشر في العالم أجمع حاملاً معه شرعيته في شرعية القضية التي يدافع عنها” .

 لكن الكاتب سيختصر القول في ما ينتج من أدب جديد ظهر بعد الثورة “كثيرون سيحاولون الكتابة عن لذيذ الطبخة قبل نضجها ولكنهم لن يطعمونا إلا طعاماً محترقاً أو فجّاً لم يتحول إلى ما يمكن أن يخلد”.

 الذهبي في كتاباته اليوم، خصوصاً في ما يظهر منها على صفحته على الفيسبوك، يبدو وكأنه يتابع نهجه في كتابة الرواية، إذ غالباً ما يستحضر التاريخ السوري، قديمه وحديثه، يقرأ عبره المشهد الراهن: “كان لدي همّ هو قراءة جذر الطاغية في الحاكم العربي، فوصلت إلى بيبرس البندقداري الذي ابتكر البروباغندا الأسطورية في شراء كتّاب صنعوا أسطورة القائد الملهم، والحاكم الذي ينتظره المظلومون لصناعة العدل، والحاكم الذي سيصنع الاشتراكية المملوكية في استيلاء الحاكم على كل مقدرات ومصادر رزق الناس أراض زراعية “تأميم مملوكي” واستيلاء الحاكم على كل الأراضي الزراعية، تأميم الصناعات كلها بيد الحاكم الملهم، واستيلاء الحاكم المملوكي على كل الضرائب والأتاوات الجمركية إلخ.. أليس هذا ما فعله الحاكم المعاصر بالاسم الحداثي الاشتراكية؟ فكتب له الكتاب المكلفون “سيرة الملك الظاهر”، الذي صار كتاب الطاولة لكل الحكام والحكواتية في المقاهي لإعادة تصنيع العقل للست مئة سنة القادمة؟  ثم واجهتني مشكلة سوريا وخطيئتها الأصلية التي حرمتها من إمكانية صناعة دولة خارجة عن امبراطوريات المنطقة، وما أفلحوا مرة في صنع دولة إلا وانتهت بفاجعة، ولنذكر الأنباط وتدمر والأمويين والدولة السورية المعاصرة وإلامَ آلتْ” .

وفي ما إذا كان الروائي السوري اليوم، يجد أن رواياته تصلح لتفسير ما ظهر على السطح من أزمات فهو يؤكد أن “رواية “صبوات ياسين” واضطرار المثقف إلى الفصام والعيش بوجهين وحياتين. “لو لم يكن اسمها فاطمة”، “فخ الأسماء”، “رقصة البهلوان الأخيرة”، والحصار من اليسار الأجير فهو مرعوب رعب الشعب السوري، والطائفية المتنكرة بالحزبية والتي أعلنت عن وجهها بهذه التمطيات يتمطاها شعب لم يعرف السياسة منذ أعلنوا “الثامن من آذار” ديناً كاذباً لشعب كان يهتف بشعارات على مبدأ “اليد التي لا تقدر على صدها بوسها وادعي عليها بقلبك بالكسر”، وقد دعونا حتى اهترأت أفواهنا. إلى أين ستنتهي هذه التمطيات!”.

أخيراً، لا يخفي الكاتب، الذي غالباً ما كان نقّاده يشيرون إليه باعتباره كاتب دمشق ومؤرّخها، تشاؤمه للقادم من الأيام، ولكن من دون أن يتردّد في تجرّع مرارتها “لست شديد التفاؤل، فالمأزق الذي ساقوهم إليه – طائفية، تخل عن كل ما أنجزوه من معاصرة. كذلك سوقهم إلى داعش وحالش وطافش. لم يعد أمامنا من رجوع وعلينا أن نتجرّع الكأس حتى الثمالة، وعندئذ علينا أن ندخل في جولة جديدة لاستعادة البلد من بيبرس المعاصر، ومن الطائفية التي خرجت أخيراً من القمقم، وعلى الأدب، الذي لا يريد أن يكون تقريراً صحافياً، أن ينتظر” .

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى