خَضرة/ ايمان حميدان
لم أكن قد أتممت الـ15 سنة حين أتت عمتي من بيروت الى ماردين لتطلب يدي من أبي. هو أبي الذي ارسل وراء عمتي كي تأتي مصطحبة ابنها لتطلبني له. في بداية السنة وقبل ان يصبح عمري 14 سنة هربت خطيفة مع شقيق زوجة خالي…. قال لي كلاماً جميلاً وركبت ذات صباح وراءه على الموتوسيكل وانطلقنا. لم نعرف أولاً الى أين سنذهب… أراد ان يصطحبني الى بيت اخواله في ديار بكر، لكنهم رفضوا استقبالنا خوفاً من عائلتي ومن مشاكل متوقعة بين امي وزوجة خالي. طلب أبي من أحمد، خاطفي وحبيبي، إرجاعي إلى البيت تحت التهديد بسجنه لأنني ما زلت قاصراً. قانون بلدي التركي لا يسمح بعقد قران قاصر، لكننا رغم ذلك لا نتوقف عن الزواج. الزيجات تتم على يد الشيخ بالسر ولا تُسجل في المحكمة المدنية إلا حين تبلغ الفتاة السن القانوني. خاف أبي ليس لأنه لا يحبّذ زواج القاصر… لقد تزوّج امي وهي لم تتجاوز الثالثة عشرة… الا انه لم يسجل زواجه الا بعد 5 سنوات. هو خاف من العقاب اذا وافق على زواجي. في تركيا يُعاقب الأب كذلك الزوج بسبب عقد زواج من قاصر!
لم يهمني إن تزوجت أم لا… ما همني هو انني قضيت مع أحمد 10 ايام أجوب البلدات والمدن التي لم أزرها في حياتي. حتى اننا اخذنا الباص الى اسطمبول وبقينا في المدينة التي لا تنام ابداً، لم انم انا ايضا فيها ولا حتى لدقيقة. بقيت صاحية اريد السير في كل شوارعها وأزقّتها. حينها لم اعد اريد العودة الى البلدة. نزلنا بضيافة صديق له تعرّف عليه أثناء خدمة العلم. لم ارتح له ولا لأمه التي كانت تعاملني كأنني بائعة هوى. اسطمبول جميلة قلت لحبيبي وخاطفي، قلت له لنفتش عن غرفة، غرفة ناطور لمبنى في شارع الاستقلال… هناك قرأت إعلاناً يبحث عن ناطور. صرت اتخيل حياتي لطيفة معه، هو يحرس المبنى ويلبي طلبات السكان وأنا أعمل اي شيء… لكنه لم يسمعني، لم يصغ لما أقول، وغيّر كل خططنا بعد ان اتصل ببلدتنا لأكثر من مرة…
في الايام القليلة التي قضيتها في اسطمبول صنعت في خيالي بيتاً لنا، فيه سرير وكنبة وخزانة وبرّاد وغاز وبساط احمر. حتى انني تخيلت أزهار النباتات التي سأزرعها امام مدخل الغرفة الصغيرة، ورأيتها تنمو وتتفتح. لكن احمد قرر فجأة إرجاعي لبيت اهلي. لم افهم لماذا فعل ذلك. ركبتُ خلفه على الموتوسيكل وتمسكت به، حينها شعرت انه لم يعد يهتم فيما اذا كنت أحيط خصره جيداً بذراعيّ الاثنتين. صار يسرع وأنا ارجوه كي يبطئ سرعته خوفاً من الوقوع لكنه لم يردّ علي، بل زاد من سرعته. بدا كأنه غاضب مني لسبب لم افهمه.
عدت الى البيت بعد 10 ايام، ومنذ ذلك الوقت بدأت اسمع الكل يتحدث عني، يقولون إنني «مدقورة» وإننا لن نجد من سيقبل أن يأخذني زوجة له. لم افهم ما معنى «مدقورة» وصرت اتخيل أنني مصابة بمرض، ربما مرض معدي، وأن لا أحد يستطيع ان يلمسني. امي رفضت ان تسلم علي، كذلك ابي. اعلم انني ذهبت مع احمد من دون إرادة احد، لكن اعلم ايضا ان الفترة التي قضيتها خارج البيت كانت من اجمل ايام حياتي. اذاً انا «مدقورة» … ربما لهذا السبب ارسل ابي الى عمتي في بيروت ان تأتي وتطلب يدي لابنها الذي يكبرني بـ5 سنوات. . هو لم يصل الى سن العشرين بعد. اسمه احمد ايضاً. فكرت ان هذا اسهل لي… ان يحمل نفس اسم حبيبي الذي اعادني الى بيت اهلي واختفى. قالوا انه سافر الى المانيا حيث شقيقة له هاجرت من سنوات. صرت انادي، من دون ارادة مني، اي شاب بأحمد حتى أخي محي الدين…. الذي ما ان سمع بالاسم يخرج من بين شفتي حتى هوى بكفه على فمي…. اوجعني الكلب وأدمى اسناني ولم يقل له ابي شيئاً بل ابتسم وهو ينظر اليه يكاد يهنئه على فعلته.
لكن كيف اعلم إن كان شكل احمد ابن عمتي سيعجبني. سألت ابي هل ابن اخته طويل، عريض، حلو…. لم يجبني بل راح يتمتم بكلمات مثل «اللي متلك ما بتشارط عالزواج»… إنها مسألة عائلية مغلقة قالت امي. أضافت انه بعد الذي حصل معي كان على ابن عمي ان يسترني ويتزوجني لكنه طلع بلا اصل واختفى هو ايضا. قالت هذا بصوت خفيض خوفاً من ان يسمعها ابي. حضرت عمتي مع ابنها الصامت تطلبني للزواج وتستر على عرضي لأن عرضي هو من عرضها.
كم أعراضنا متصلة بعضها بالبعض نحن نساء العائلة!
أراد أبي أن يزوجني ليبعد عن بيتنا القيل والقال، لكن في نفس الوقت يريد ان يقبض ثمني الذي حدّده بـ5000 ليرة لبنانية على عمتي ان تدفعه كاملاً قبل كتب الكتاب. لكن عمتي قالت له بالفم الملان وبوقاحة لا توصف: «معي 1500 ليرة بس، يا بتاخذهم يا باخذ ابني وبرجع عبيروت، شكور ربك اني عم آخذ بنتك من وجهك. ما حدا غيري بياخذها وإبني ألف واحدة بتتمنى عليه. انت اللي لازم تدفع مش انا!». قالت كل هذا وهي ترمي بأوراقها الخضراء على الطاولة الصغيرة بينهما.
سمعت شجارهما وأنا منكمشة في غرفتي الصغيرة التي لا تتسع ولا حتى لسرير. غطيت رأسي باللحاف وأنا ملتّفة على نفسي حتى صار جسدي على شكل طابة غير مستديرة تماماً…. لا اريد ان اسمع اكثر…لا اريد….. سمعت الكثير…
يا لوقاحة عمتي….كيف تحمّلها ابي ولم يطردها من البيت؟ لكنه يريد زواجي من ابنها أن يتم وأن أسافر مع عمتي الى بيروت.
كأن بيروت هي سترة العائلة ومكب نفايات شرفها المهدور.
ارى عمتي من نافذة غرفة النوم تصعد الدرج المؤدي الى المقبرة التي لا تبعد أكثر من 200 متر عن البيت. هناك دُفنت جدتي. جاءت عمتي للمرة الاولى بعد موت جدتي لتطلبني ولتزور قبر امها. جدتي ماتت منذ حوالي سنة ولم تأت عمتي حينها. قالوا إنها لم تأت كي لا تبتلي بي انا ابنة شقيقها «المدقورة» والتي لن يتزوجها احد بعد عودتها من رحلة 10 ايام على موتوسيكل مع خاطف. اعتقدت اننا سنتزوج لكنه غيرّ رأيه وأعادني إلى أبي. وقفت عمتي امام ضريح جدتي وبكت ولطمت وصارت تندب أمها. لكن حين ماتت جدتي لم يبكها أحد من أفراد العائلة، والآن يشعر الجميع بانزعاج من عمتي لأنها ولّدت عندهم شعوراً بالذنب كونهم لا يستطيعون البكاء ولا مشاركة عمتي حدادها المتأخر. لم تأت الى تركيا يوم دفن أمها. لم يكن موت امها آنذاك كافياً كي تدفع عمتي ثمن بطاقة سفر في البولمان من بيروت الى ماردين. انتظرت أن تأتي لأكثر من سبب وأتت اليوم… هكذا تبكي أمها وتزوّج ابنها في الوقت عينه!
حين هربت مع احمد وقفت امي في صحن الدار وقالت لأخي محي الدين وهي تنظر في قلب عينيه: إذهب واجلب لي اختك ولا تلمس شعرة منها. هي ابنتي وأنا اصطفل بها….اذا اذيتها اخنقك بيدي الاثنتين….اما ابي فقد وضع رأسه بين كفيه وبكى كالطفل.
وراء احمد على الموتوسيكل كنت اشعر انني املك العالم بأسره. يدوس على دواسة البنزين فتجعر الموتوسيكل وتنطلق ويطير شعري الاسود الطويـــل خلـــفي ولا اعــود اهتم بأحد من عائلتي ولا افكـــر بأخـــي ولا بأبي وأقـــول إن هذه اللحـــظة تكـــفي كي استغـــني عن العالـــم بأكمله. تكفيني هذه اللحظة لتعوّض حياتي كلها.
في اسطمبول رأيت الكثير من العشاق يمشون قرب جسر غالاتا…. احب ان انظر الى العشاق وهم في حالة العناق … وجدت منظرهم مريحاً للنفس…. نظرت اليهم وأنا اسير قرب احمد، ولا اعلم لماذا في تلك اللحظة بالذات أخذت يده لأقبّلها …. امسكتُ بها وأنا اطلق تنهيدة خفيفة….فنظر إليّ مستهجناً مما افعل….. كانت تكفي نظرته السريعة هذه كي تتبدل عواطفي… وبدل تقبيل يده وجدت نفسي أغرز أسناني فيها وأطبق عليها بكل قوتي. صار احمد يصرخ ثم دفعني الى الوراء وكدت أقع بينما هو امسك يده المتألمة باليد الأخرى وراح يفركها فيما بدأ يشتمني بصوت عال.
لا اعلم لماذا عضضته. ربما كنت غاضبة. قال إنني مجنونة وإنني لا أشبه النساء بشيء.
[ مقطع من رواية «رسائل اسطمبول» لإيمان حميدان
النهار