دار الإقامة الفنية في عاليه» فسحة حرة للقاء المبدعين السوريين
خان جعلته رغد مارديني محترفاً يستقبل فنانين شهرياً
احمد بزون
مضت سنة على افتتاح «دار الاقامة الفنية في عاليه»، بمبادرة من المهندسة السورية رغد مارديني، التي استأجرت خان خيل قديم، وهو مبنى حجري معقود بقناطر، أعادت ترميمه، فهي أساساً مهندسة مدنية تشتغل في الترميم. فجعلت الحياة تزوره من جديد. نفذت فيه إمدادات كهربائية، ووضعت في زاوية منه «تواليت» بجدران من أغراض السكن، وفي وسطه مطبخاً، وحرصت على ألا يتغير شكل الفراغ من الداخل، ثم في الخارج وضّبت حديقة مهملة، لتشكل بورودها وعشبها الأخضر متنفساً طيباً لفنان مسكون بهمّ الإبداع والهموم التي خلفها وراء ظهره. ومديرة المشروع نفسها مسكونة بهم الإبداع، ولها علاقات بالفنانين من أجيال مختلفة، وقد عبرت لنا عن انسجامها مع الأجواء العشوائية التي تكون في محترفات الفنانين…
من سنة، إذاً، بدأت مارديني تستقبل فنانين سوريين مثنى (اثنين اثنين)، يأتون من سوريا المشتعلة بأتون الحرب، أو من دول محيطة. وعليه فقد استقبلت حتى الآن 24 فناناً، نفذوا أكثر من 130 عملاً، بين نحت حجر وخشب وطين وجفصين وتجهيز وتصوير فوتوغرافي وتصوير لوني. هذا ما أكدته لنا مارديني. وقالت: «أنا آخذ عملاً من كل فنان بالإضافة إلى سطرين يكتبهما على دفتر التشريفات، ترافقهما صورته وصورة عمله، على أن تكون الأعمال التي يتركها الفنانون مجموعة الدار. وتحدثت عن فنانين لم ينفذوا أي عمل منذ بدء الأحداث في سوريا، لكنهم أتوا وتحركت قرائحهم هنا وجرى الفن في عروقهم من جديد». وفي تجوالنا بين الأعمال الموزعة داخل هذا المحترف وفي حديقته، وجدنا ذلك التنويع التقني الذي تحدثت عنه مارديني، كما وجدنا أنها مناسبة للفنانين السوريين كي يتشاركوا في التعبير عما يجري في بلدهم من مآسٍ وظلم وعنف، بعيداً عن الإعلان السياسي المباشر. فخالد البوشي أراد في عمله أن يفرغ كل طاقته السلبية في العمل الذي نفذه، والذي بدا فيه قاسياً. تتفاوت مستويات القسوة بين عمل وآخر، كذلك الاتجاهات، بين عمل تجريدي خالص، وضربات لونية حرة فالتة همّ صاحبها أن تعبر عن غضب الريشة، وأعمال واقعية تتركز على الوجوه الواجمة بشكل أساسي، في حين استقبلتنا منحوتة وسام معسعس عند أول الحديقة، وهي عبارة عن رجل يجلس على زاوية سور الحديقة، منكباً على «لابتوب»، ليعبر عن هوس متابعة ما يجري من أحداث عبر الإنترنت. وقد يكـون عــمل ميلاد أمين أكثر وجعاُ، عندما ثبت على لوحة كبيرة صفوفاً من الأكفان، بكل الألــوان، في إشــارة إلى أن الحرب لا تعفي أحداً من الموت.
أنشطة وتفاعل
لأمين أيضاً منحوتة، تضاف إلى منحوتة معسعس وثلاث أخر تتوزع في الحديقة، وهي لعماد حباب، عبير وهيب ويامن يوسف.
نتنقل بين أعمال لأنس حمصي، علاء حمامي، جورج قبرصلي، حسين طربيه، عادل داوود، غيلان صفرودي، محمد عمران، ريمي حداد، فادي حموي، ربيع كيوان وسالي سمعان. وإذا كانت الأعمال تفترق بتقنياتها واتجاهاتها الفنية ومستوياتها من ضعيف إلى ممتاز، إلا أن مواضيع الأعمال تتفق على الانطلاق من الوضع النفسي الذي يعيشه الفنان السوري اليوم، وفي التنقل من عمل إلى آخر نرى سلاحاً وقتلى وجنرال حرب وخوفاً ورعباً وكابوسية سوريالية.
هي فرصة تقدمها مديرة الدار للفنانين الوافدين إليها، فرصة أن يشتغلوا ويتلاقوا، فالدار مفتوحة طوال النهار للفنانين الذين أقاموا من قبل، ولأي فنان يريد زيارة الدار والتفاعل مع المقيمين فيها، وأخبرتنا مرديني أنها أقامت أنشطة فنية مختلفة، مفتوحة على الموسيقى والغناء والحوار. بل لا مانع لديها من المساهمة في تسويق بعض الأعمال التي ينفذها الفنان زيادة على العمل المطلوب، وفي ربط علاقته بالغاليريات في لبنان. وقد أمنت إقامة معارض لأربعة من الفنانين المشاركين. بل قالت إنها تساهم، بالإضافة إلى تعهد الإقامة الكاملة لمدة شهر كامل، بتغطية مصاريف الجيب للفنانين المقيمين (خمسمئة دولار).
التقينا هناك فناناً شاباً هو عمار حباب، أخبرنا عن سهولة تواصله مع مديرة المشروع، فكان ثالث مشارك فيه، وهو يتردد على الدار من وقت إلى آخر. ثم التقينا الفنانتين ريم يسوف وهبا العقاد، وهما مقيمتان معاً، وتنقلنا بين أعمالهما المنتشرة في أرجاء المحترف. ريم كانت قد أنجزت حين التقيناها أربع لوحات، حدثتنا عن تجربتها في الدار: «نحن هنا نعيش حياة طبيعية. المكان يفرحني ويقدم لي طاقة إيجابية. قد يكون التآلف مع مكان جديد صعباً، لكن سرعان ما حصل ذلك. انسجمت مع بساطة المبنى والعلاقات المريحة. هنا كل شيء مؤمن. فنحن نشتغل في المكان نفسه الذي ننام فيه ونأكل ونشرب، بلا فواصل. وهذا يؤثر فينا بشكل غير مباشر. نشتغل العمل الذي نريد بلا شروط مسبقة. تختار رغد في النهاية العمل الذي تريده، والباقي نأخذه معنا. لسنا معنيين بشيء سوى كتابة سطرين في دفتر التشريفات، فنحن «مجبرون» لا مخيرون في ذلك. هنا نعيش في بيئة حرة تماماً، مناسبة للإبداع».
توسيع المشروع
قد يكون الفنانان المشاركان في شهر واحد صديقين أو لا، لا فرق، فريم آتية من الأردن، في حــين أن هبــا مقيمــة فــي لبــنان، وتعــرفت إلى مارديني في معرض أقامتــه الأخيرة لنتاج الدار في عاليه. وهبا فنانة من 13 سنة. «لفت المشروع نظري، ووجدت في الإقامة الفنية فضاء جديداً. هنا أشتغل ما أريد بعيدا عن ضوضاء المدينة، فالمكان فسحة طبيعة وحديقة جميلة. أنا أشتغل عادة لوحة كــولاج، لــكن على سطح واحد، ولي أعمال كثيرة في ذلك. في لبنان تعرفت على ثقافات أخرى، وعشت جواً آخر، ففكرت في الانتقال من السطح إلى الحجم، واشتغلت بخامات جديدة، وأجرب فراغات مختلفة. العمل الفني بالنسبة اليّ هو حياتي، فأنا متفرغة له، وقد استخدمت القماش في أعمالي لأنها على علاقة بسوريا».
تشتغل هبا في تكوين أشكال بشرية من مجموعة من الأقمشة، خياطة وحشواً ولصقاً، ثم تثبتها داخل صندوق أو إطار، وقد تعلقها لا فرق، لكنها تستدرج مخيلتها، فتتذكر أشكالاً وحالات، منكسرة بالطبع، وتستعيد طفولة فترممها ببقايا ثياب. تقصّ وتركب، ربما في حنين إلى القص العربي القديم، أو في استعادة ماض دمشقي مزقت زهوه الشظايا.
وبالعودة إلى رغد، فإن «الفنان الذي يشارك لا يتكرر، لأن الطلبات كثيرة، وبلغت حتى الآن 150 طلباً». سألتها: لماذا لا توسعين الدار فتستقبلي أكثر من فنانين وتلبي الحاجة؟ أجابت: «سوف أعمل على تأمين تمويل أكبر للمشروع. فنحن في عاليه نشعر بالأمان والسعادة والجو اللطيف والتشجيع. نفكر حتى في توسيع المشروع ليستقبل فنانين لبنانيين وعرباً، فيكون التفاعل وتبادل الخبرات أكثر فائدة. بعض فناني عاليه اتصلوا بنا ليشاركوا. المهم أننا نعمل على تأمين جو جدي، ويمكن أن نجمع الأعمال المنفذة في كتاب، لذا الفنان سيكون مسؤولاً أكثر عن عمله. أنا سعيدة لأن الفنانين يؤكدون لي دائماً أنهم هنا يشعرون بضرورة تقديم أعمال مختلفة وجديدة».
وماذا يحل بالمشروع لو حصل حل وعاد المهجرون السوريون، والفنانون بينهم، إلى بلادهم؟ سؤال لم يكن بد منه. لكن الجواب كان ببداهة تامة: «ننقل المشروع إلى سوريا ونكمل».
أحمد بزون
السفير