داعش، المفتي، والملك/ دلال البزري
في زمن غير بعيد، عشية الثورات العربية، وقبل ظهور “داعش”، كانت السينما تعامَل بصفتها واقعاً، ليصبح عادل إمام “زعيماً” وإلهام شاهين “مرشحة خطيرة” في الإنتخابات التشريعية… فقط لأنهما مثّلا هذين الدورين. من هذه المعاملة للسينما ولدت “السينما النظيفة”، تجنبا لرمي النجوم بتهمة الانحلال الأخلاقي، لأنهم لمسوا أو عانقوا أو احتضنوا أو قبّلوا شخصاً من الجنس الآخر. خلال تلك السنوات، بلغت تلك العلاقة الانصهارية بالوقائع السينمائية حدّاً، صعدت معه إلى الشاشة الفنانات المحجبات، المحترمات، الباحثات عن الجمهور الأوسع، وأُعفيت النجمات الأخريات من مشاهد الإغراء، حفاظاً على شرفهن، واستُعين بممثلات غير مصريات، لبنانيات خصوصاً، لا عيب عليهن في الكشف عن مفاتنهن، طالما انهن “غريبات”، لا يكترث الجمهور باطلاق الأحكام الأخلاقية عليهن، عملاً بمزجه الصريح بين وقائع السينما ووقائع الحياة.
الإنقلاب الجذري الذي أدخله “داعش” على ساحة المخيلة المتصورة في ذهن الذين يتابعونه، وهم كثر، انه حول الحقيقة الواقعية إلى أفلام، فألغى في طريقه كل المبررات التي قامت عليها نظرية “السينما النظيفة”. وهذا الإنقلاب الثقافي الفني لم يتحقق بين ليلة وضحاها، بل لم يكن جاهزاً حاضراً ينتظر الأوامر لتنفيذ بنوده؛ إنما حصل تدريجياً، حثيثا، ببضع صور على مواقع التواصل الاجتماعي، بشبان وسيمين يحملون السلاح والقطط، ثم بمقاطع عن “إنتصارات” ميدانية، مثل جرف الحدود العراقية السورية، واخرى تبعتها، صريحة ولكن غير مشغولة تماما. واخذت التقنية بعد ذلك تتطور بسرعة إلى ان بلغت ذروتها مؤخرا مع شريط إعدام الطيار الأردني معاذ الكساسبة حرقاً. ونحن لا نعرف إن كانت هذه الذروة نهائية، او ان علينا ترقّب شريط لاحقاً، يتجاوزها.
المؤكد ان “داعش” افتتح بمشهديته هذه، عصراً بصرياً جديداً، سوف تتغير معه تماما مفاهيم “النظافة” السينمائية. وهذا سقف اخترقه “داعش” مع اختراقه لسقف العنف؛ فكان أول أسهمه، ذلك الذي نال من الفكر الإسلامي التقليدي، المحسوب على “المعتدل” منه. مفتي الديار المصرية السابق، الدكتور علي جمعة، بقي على عهد “السينما النظيفة”، فلم يصدّق شريط حرق الطيار الكساسبة؛ قال عنه انه مفبرك بواسطة “الفوتو شوب”. أما السبب وراء ذلك، برأيه، هو ترهيب العالم من الإسلام، و”تشويه صورته وتخويفهم حتى لا يعتنقوه”. لن نبحث هنا عن انشغال العالم باعتناق الاسلام، بحسب المفتي السابق، فالمهم في هذه النقطة ان “داعش” تجاوز الإسلام التقليدي، صاحب الفضل الأكبر في ولادة “السينما النظيفة”، وإنضم الى “الطليعة” البصرية المسيطرة اليوم على المشهدية الشبكية.
من أين استمد “داعش” كل هذه التقنية، كل هذه الايحاءات الفنية كل هذا المونتاج والزوايا والموسيقى التصورية والمجالات الفارغة والاخرى الممتلئة؟ الجميع يؤكد بأن كل هذا انما هو محاكاة صريحة للمشهدية الهوليودية وحدها، مضافاً اليها تأثيرات تلفزيون الواقع الاميركية، فضلا عن فنون الفيديو كليب التي اخترعها الأميركيون، أيضا. لم يستلهم “داعش” من تراث السينما الفرنسية مثلا، أو البيرغمانية السويدية أو الإيطالية أو الروسية أو الهندية أو حتى العربية. إنما ذهب مباشرة إلى السائد من ثقافة فنية عالمية معولمة، ونسخَ رؤيته ليخرجها على الوجه الذي استوعبه منها. وبذلك يكون “داعش” إبن عصره بامتياز، من ناحية ذهنيته الترويجية وتصوراته الفنية.
والتناقض واضح بين “الفكر” السياسي الجاهلي الداعشي الذي لا يرضى بأقل من زمن الفتوحات الإسلامية، وبين تبنّيه لرؤية فنية إمبريالية معولمة هي ابنة العصر؛ وهذه إشكالية أخرى تحتاج إلى مقال آخر. ولكن المهم في ما نحن فيه ان التفوق البصري الداعشي ومخاطبته روح العصر الفني، بدا جليا في الردّ الأردني المشهدي الضعيف على شريطه. “المشهد المضاد” كما سماه أحدهم، والذي تمثل بالعزاء الذي قدمه الملك الأردني إلى أهل الشهيد، وبمشاركة الملكة زوجته في تظاهرة شعبية استنكارا للجريمة… بدا هذا المشهد وكأنه يعود الى العصر الحجري من الصورة: بطيء مملّ مرتبك، متردّد مفتعل، أي كما هو في الواقع، وعكس الصورة الداعشية تماما.
ومن هذه الزاوية، بدت المملكة، مثل المفتي المصري السابق، إبنة عصر سابق قريب، مقارنة بالوتيرة السينمائية الداعشية الصاروخية.
المدن